الاستعانة بصندوق النقد: لبنان يختار الطريق الأصعب للإنقاذ(1)
د.محمد خليفة – خاص الحوار نيوز
وأخيراً ولدت خطة الحكومة الاقتصادية والمالية، بعدما أُشبعت درساً وانتقاداً، من وحي التسريبات الغريبة، التي أنهكت تفاصيلها، وسارع المطبلون والمزمرون للتباهي في إنتاجها، بعد سنوات عجاف من التخبط المالي والنقدي، في اقتصاد عاش على الورق طويلاً، لدرجة تحولت فيه ودائع المصارف لحسابات دفترية، لا تغني ولا تسمن من سيولة.
في المقابل، تصدى المعارضون لكل ما تنتجه حكومة حسان دياب للخطة، التي وصفوها بالمعجل المكرر، بعدما شبع الناس من خطط الحكومات المتعاقبة، ووصل الأمر بهم لتجاهل البيانات الوزارية، التي على أساسها تنال الحكومات الثقة النيابية، لعلمهم المسبق بمطرقة خشبية مصحوبة بكلمة صدّق في نهاية المناقشات الماراتونية، التي يستعرض فيها بعض النواب، العاطلين عن الإنتاج التشريعي والرقابي، مواهبهم الخطابية، وكذلك التعريف بأسماء ووجوه جديدة وغريبة حتى عن ناخبيهم، العزل من المحاسبة الدورية لممثلي الأمة الثابتون.
خرجت الخطة المعروفة بجوهرها العقيم، بالرغم من أهمية ما ورد فيها، وبانت نوايا الحكومة الأساسية في اليوم التالي، بتوقيع رئيسها ووزير ماليتها طلب مساعدة صندوق النقد الدولي للبنان، وهي خطوة كانت محرمة يوماً، لكنها مرّت بسلاسة غير معهودة، تحت وطأة الانهيار المحتم، ودخولها من خرم إبرة الجوع والفقر، وطرق أبواب الإفلاس الشامل، وعلى وقع التصريحات الخارجية السمذجة، التي حولت دول أصحابها إلى ملعب مضطرب، تسرح فيه جائحة كورونا وتمرح، وتنهك أنظمتها الصحية، وتفضح حكامها بعد عجزهم عن المواجهة، وترك المواطن للموت الرحيم، وسقوط منظومة الصواريخ البالستية والنووية وبهلوانيات التسلح وغزو الفضاء، أمام فيروس مستجد، لا يعترف بالعولمة أو بالشركات المتعددة الجنسية، بعد إطاحته بنظام عالمي، هيمنت فيه بعض الدول التي فشلت في إنقاذ أرواح الملايين، وتفككت بنتيجته اتحادات إقليمية، تغنت لعقود طويلة بتكامل دولها، التي فتحت الحدود في ما بينها، وأنشأت عملتها الموحدة، وبرلمانها الواحد، ومنظومتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، لكن لعنة الجائحة كشفت ضعف أنظمة الاستشعار عن بعد لديها، وأظهرت هشاشة خططها للطوارىء، وجعلتها عرضة لمزيد من الإنشطار العامودي والأفقي، ما ثبّت نظرية مستدامة، أن التغيير هو الثابت الوحيد، وأن الكون معرض باستمرار لاختبارات مستجدة، وأن العلاجات واللقاحات هي ألأساس المطلوب للتغيير القسري لتصرفات السلطات، وأن عصر سيطرة الدول إلى أفول، وأن جدلية التعاون العالمي ستفرض نفسها، وأن البشر مدعوون للتسليم بذلك طوعاً، وأنهم من المؤكد سيخالفون قوانين الطبيعة كعادتهم، لذلك سيدفعون ثمناً قاسياً لعنادهم الموروث، وأن العالم يعاني من الاستجابة للأنظمة الطبيعية التي لا ترحم، خاصة عندما يتعلق الأمر بنظام دقيق لن يَسمح بتدميره.
هناك من يسأل وهو محق، ما علاقة الكلام عن النظام العالمي، في معرض الحديث عن خطة الحكومة اللبنانية؟
لو طرح هذا السؤال قبل سنوات، لاعتبر ضرباً من السخرية، أو من باب لزوم ما لا يلزم، لكن الآن، وفي ظل تخبط العالم بأزمة صحية كارثية، نتج عنها ملايين الإصابات، ومئات آلاف الوفيات، يعتبر السؤال جوهرياً ومشروعاً وضرورياً، كما تعتبر عدم إثارته انتقاصاً فاضحاً لتبيان الحقائق، وقصوراً في الرؤية وتغييباً للمنطق الإنساني، لأنه يعتبر أساسياً للمعالجة، لأن لبنان يطلب المساعدة من صندوق النقد الدولي، الذي أسّس عام 1945، وبدأ عمله عام 1947، ومقرّه في واشنطن، لتشجيع التعاون النقدي الدولي، والتنسيق في حل مشكلات النقد العالمية، ولمعالجة الاختلال في موازين مدفوعات الدول الأعضاء في الصندوق، وإعانتها للخروج من أزماتها الاقتصادية والمالية، وبدون الدخول في تفاصيل عمل هذا الصندوق، أو آليات عمله ووصفاته، التي دمرت الأنظمة الاجتماعية في العديد من الدول، كما لسنا بمعرض تبيان طريقة إدارته، أو كيفية استجابته لطلبات المساعدة من الدول، بعد تضييق الخناق عليها، واستدراجها للوقوع في فخ الصندوق، لتحقيق أهداف كثيرة، معظمها لها علاقة بالسياسة، لكنها مغلّفة بعناوين اقتصادية واجتماعية.
في لحظة فاصلة من سقوط النظام الاقتصادي الدولي، وفي ظل ترقب عالمي لولادة نظام سياسي وتجاري واقتصادي ومالي جديد، يأتي طلب لبنان لصندوق النقد الدولي لمساعدته، بعد تقديم أوراق اعتماد اقتصادية ومالية مطلوبة، عبرت عنها خطة الحكومة، كأنها أعدت على قياس صندوق النقد، وتلبية لشروط الدول الفاعلة في هذا الصندوق، والتي لا زالت تقاتل باللحم الحي للإيحاء بأن العالم لم يتغير، ونظامه يسير وفق المعتاد، وأن جائحة كورونا ظاهره مؤقته، أفرزت تداعياتها العادية، وأن الحديث عن الكساد وتراجع مستويات النمو للنواتج الإجمالية في معظم الدول، هو حديث يتسم بالمغالاة، وأن الإقفال الكوني للنشاط الاستهلاكي سيعود بقوة، كي يحفز الإنتاج بوتيرة عالية، تحقق النمو الاقتصادي، وتعيد تشغيل محركات الصناعات الكبرى، وتوقف التدهور المخيف لقوة العمل، وتُنهي القلق العالمي من البطالة المدمرة للأنظمة الاجتماعية، مع أن الوقائع تناقض هذا التفاؤل المفتعل، وتوحي بقوة بأن كل شيء تغير، من الاقتصاد إلى السياسة، وصولاً إلى تهاوي النظام الدولي القائم، وتسليم الدول بذلك أصبح أمراً محسوماً، اقتضت اللحظة المؤلمة تأجيل الإعلان عن نهايته.
كل الدلائل تشير إلى صعوبة العودة للنظام السابق، وأن التغييرات الجوهرية ستفرضها الأحداث المتوالية، وأن سلوك الدول ستوحي صراحة، بتبديل سياساتها وتحالفاتها وأولوياتها وبرامجها وخططها، وأن مفهوماً جديداً للدولة سيتوضح في السلوكيات، وأن الاهتمامات الداخلية للدول سيكون لها الكلمة الفصل في اختيار النمط الأنسب للعلاقات الدولية، ما سيقدم تبدلاً غير معلن في نسج تلك العلاقات، وسيشهد العالم ثورة واقعية في اساسيات التعاون والتكامل أو التنسيق، وحتى اللحظة، من غير المعروف مصير المنظمات الدولية، التي ستنسفها طبيعة العلاقات التي ستُرسم، وسيُطرح السؤال البديهي، هل هناك من حاجة للأمم المتحدة ومجلس الأمن والهيئات والمنظمات الدولية المتخصصة، بعد انسلاخ الدول عن منظوماتها الجماعية، التي فشلت في الصمود أمام الأزمات الدولية؟ أم أن المجتمع الدولي لا يمكنه التخلي بسهولة عن تلك المنظومات الدولية منها والإقليمية؟ بالرغم من الترجيحات بتميز المرحلة المقبلة باجتياح الاتفاقيات الثنائية والمتعددة للمشهد العالمي، والتي ستكون في معظمها تلبية لشروط التحالف الخارجي ذات البعد الداخلي للدول وليس العكس.
لقد اختار لبنان وجهته عكس اللحظة الدولية، وتوجه لصندوق النقد الدولي، طامعاً بغطاءٍ دولي، يؤمن مناخاً للثقة الخارجية بهذا الوطن الجريح، وهادفاً من طلب المساعدة، تأمين جرعات مالية سريعة، لإخراج لبنان من أزمته المالية، تجنباً للانهيار السريع والشامل، بعد تلمس خطورة الواقع، وتأكيداً للمنحى الواضح للسقوط، واضعاً أمام الصندوق خطته المتكاملة، التي تُظهر ملامحها ومضمونها، بأن ملائكة الصندوق حاضرة في كل تفاصيلها، وأن شركة لازارد مستشارة الدولة المالية، وضعت بصماتها من أجل ضمان العبور الآمن في الصندوق، مع الإشارة إلى توقع البعض، عدم موافقة الصندوق على طلب المساعدة أو خطة الحكومة، لافتقادها للإجماع الداخلي، وكذلك لممارسة الضغوط الخارجية، ورفع سقوف الشروط السياسية والاقتصادية المطلوبة، قي لحظة احتدام إقليمية ساخنة، تضع لبنان مجددا في مهب التغييرات الدولية الآتية لا محالة، ولكنها تختلف هذه المرة عن سابقاتها، بعد دخول عناصر جديدة للملعب الإقليمي، ولا أحد يعلم حينها مصير لبنان، بحال صدقت تلك التوقعات برفض صندوق النقد طلب المساعدة.
ولدت خطة الحكومة الاقتصادية والمالية في لحظة مصيرية، ما يضع تلك الحكومة في موقف صعب، أجبرها على تغيير أجندتها، خاصة بعد أزمة كورونا الصحية، التي نجحت الحكومة إلى حد كبير في احتوائها، مع كثير من الحذر، بسبب جهل ما سيحمله هذا الفيروس من مفاجآت، قد تطيح بكل الإجراءات المتخذة من قبل الحكومات.
وما يؤكد موقف الحكومة الصعب، الانقسام السياسي الداخلي، الذي ظهر بعد دعوة رئيس الجمهورية للكتل النيابية لاجتماع في قصر بعبدا، لعرض خطة الحكومة، ومناقشة وتوضيح تفاصيلها، وتمايزت كتلة المستقبل في موقفها سريعاً من الدعوة، عبر إعلانها عدم الحضور لاجتماع بعبدا، واتهامها بتحويل النظام في لبنان إلي نظام رئاسي، وأن المكان المناسب لمناقشة خطة الحكومة هو مجلس النواب، وهذا الرفض بغض النظر عن مواقف الأطراف الأخرى من الحضور أو عدمه، وحصول لقاء غير متوقع بين رئيس الجمهورية والنائب السابق وليد جنبلاط، يشكل ثغرة كبيرة في الإجماع الوطني، لما تشكله كتلة تيار المستقبل من ثقل داخلي لا زالت تتمتع به، بالرغم من تعرض هذا التيار وسواه من الأحزاب للتراجع، وسط نقمة شعبية على الطبقة السياسية بمختلف وجوهها وأشكالها، والتي ترجمت مؤخراً بمواجهات دامية بين المنظاهرين والجيش والقوى الأمنية، ودخول أطراف عديدة على خط الاحتجاجات لتحقيق مكاسب مشبوهة من ناحية، ومن ناحية أخرى استغلال تلك الاحتجاجات بحال نجحت، للإطاحة بهذه الحكومة، وتوجيه لكمات إضافية للعهد لإسقاطه أو إضعافه، وكان من الأجدى برئيس الجمهورية التنسيق مسبقاً مع الكتل النيابية، قبل الإعلان عن الدعوة، خاصة في ظل امتعاض بعض الكتل، من الدعوة لمناقشة الخطة بعد إقرارها في الحكومة، والتي كانت تفضل الإطلاع والمنافشة قبل ذلك، وإلا فإن الإجتماع لا يعدو كونه تجمعاً رمزياً، ولالتقاط الصور ليس أكثر، بالرغم من أهمية حصوله لإظهار الإجماع الوطني، الذي أصبح مستحيلاً.
يطلب لبنان مساعدة صندوق النقد، في زمن التقوقع الداخلي للدول، وبعد تبدل أولوياتها، لأن الحكومة تدرك بأن المساعدة المالية بحال تلبية طلبها، غير كافية للخروج من أزمتها، وهي تهدف من طلب المساعدة نيل ثقة الدول، لتسهيل الحصول منها على المزيد من القروض الميسرة، وتأمين مظلة دولية لتحرير أموال مؤتمر سيدر، خاصة بعد الدعم المعنوي الذي أطلقته فرنسا للبنان، للتخفيف من إحجام العديد من الدول عن مساعدة لبنان، قبل نيل الضوء الأخضر الأميركي، بالرغم من تأكيدات كثيرة بأن سيدر أصبح من الماضي، وأنه لا بد من خيارات بديلة للدول المانحة إذا رغبت في المساعدة، وطالما لبنان مصرّ على حصر خياراته للخروج من أزمته بصندوق النقد الدولي، ومؤتمر سيدر، فإن الأمر لن يكون سهلاً، في ظل الكباش السياسي بين واشنطن وإيران، وكذلك بعد التصعيد اليومي للعلاقات بين الولايات المتحدة والصين، بسبب اتهام الصين بإخفاء معلومات حول فيروس كورونا، كما أن الأزمة السورية المعقدة، تضع روسيا بين الحين والآخر على تماس مع أميركا، وتبقي العلاقة في دائرة المراوحة، مع عدم استبعاد التأثيرات الصعبة للعلاقة الروسية التركية، وكذلك التصعيد المستمر بين السعودية وإيران، والمشاكل الكثيرة العالقة، التي تبدأ في اليمن وسوريا ولا تنتهي في لبنان ومنطقة الخليج، فأمام هذا الكم الهائل من التعقيدات الدولية، واختيار لبنان خيار طلب مساعدة صندوق النقد، لا أحد يعلم كيف ستكون الاستجابة، في ظل المشاكل التي تعاني منها الدول، الغارقة في ديونها وتراجع نمو اقتصاداتها، ما يمنعها فعلياً من مساعدة لبنان.
*أستاذ جامعي