عندما تكون على صورة الحاكم… !
حيّان سليم حيدر
لا ضير في العودة بالتاريخ إلى بعض الذكريات علّها تفيد وإن لم… فلن تضرّ.
وتأخذنا الذاكرة الجمعية لأعضاء أول مجلس إدارة لمجلس الإنماء والإعمار في أول عامين من المجلس (1977 – 1978). وفي أحد اللقاءات الدورية، على ما اعتاد أكثرنا خلال فصول من العقود المتسارعة التعاقب، وفي الحديث عن الفساد والهدر، حديث الساعة الدائم، وعن أصول الحوكمة، أخذنا الحديث إلى بعض الحوادث الطريفة من زماننا (بالمقارنة بما يحصل اليوم) ومنها ما يأتي.
القصّة الأولى: غداء المجلس مع البنك الدولي.
كان قد تقرّر عقد إجتماع مع البنك الدولي فكان على أن تحدّد غداء عمل حضره كلّ من رئيس الحكومة ووزير المال ورئيس ونائبا الرئيس وأمين عام مجلس الإنماء والإعمار ومدير البنك الدولي ومساعده. فقام المجلس بترتيب غداء لثمانية أشخاص في فندق البريستول، الله يعيده بالسلامة، لهذه الغاية وعلى أساس الوجبة المحدّدة (menu) وليس حسب "ما يطلبه المُشْتَهون". فكان الغداء وكان الحديث عن تعاون بين الدولة، الحكومة ووزارة المال ومجلس الإنماء والإعمار وبين البنك الدولي.
وفي اليوم التالي، ولدى تقديم فاتورة المطعم للتسديد إلى محاسب مجلس الإنماء والإعمار، السيد كابي… ، تفاجأ المُطالب بأن المحاسب كان قد أعدّ الأوراق على أساس تغطية وجبة غداء (محدّدة) لسبعة أشخاص فقط. ولدى الإعتراض لكون عدد الأشخاص كان ثمانية، بادر المحاسب بإبراز صورة من الصحف لإجتماع الغداء وفيها ظهر سبعة أشخاص فقط. فكان التوضيح أنّ وزير المال كان قد وصل متأخّرًا إلى مائدة الطعام وكان المصوّر قد أنهى مهمّته وانصرف. فكان جواب المحاسب أنّه: ومن يعلم، ربّما إكتفى الوزير بالتحلية أو بفنجان قهوة وليس بوجبة طعام كاملة؟
وهل يذكّركم هذا الحدث بأصول ما، بحرص ما… على مال عام؟
القصّة الثانية: "صفقة" شراء وتركيب أجهزة هاتف.
كانت مكاتب المجلس "تحتلّ" (حُبّيًّا)، بصفة أولية ومؤقّتة، الجناح الأقصى من القصر الجمهوري في بعبدا حيث تمّ توزيع الغرف على أعضاء مكتب المجلس وسائر الموظفين. وكان لا بدّ من تجهيز هذه المكاتب بأبسط أجهزة الهاتف (أرضي طبعًا) للإتصال والتواصل فيما بين الغرف ومع الخارج. فكان إستدراج لعروض حتى رسا الأمر على شركة التي أكملت عملها وتقدّمت بفاتورتها إلى مكتب المحاسبة للتسديد. وكان في تفصيل الفاتورة: جهاز هاتف عدد 10 بالإضافة إلى 42 متر طولي لشريط الوصل (الكابل). فما كان من المحاسب إلّا أن إمتشق ماسورة القياس وراح يقيس المسافات وفي النهاية وافق على دفع ثمن 41 مترًا ونصف متر بدلًا من 42 مترًا (أي بعد حسم نصف متر طولي) من فاتورة المورّد (تُقدّر قيمة الفرق ب5 دولارات.. على اسعار الدولار بليرتين يومذاك). ولكن… ودار النقاش وفيه أنّ هناك ما طوله 4 أو 5 سنتيمترات من طول الشريط يبقى داخل كلّ جهاز هاتف وهي غير مرئية وبالتالي لا تقاس إلّا من داخل الجهاز وإذا ما جمعنا هذه "النثريات" على أساس 10 أجهزة فنتأكّد من صحّة ال42 مترًا. ولكن السيد كابي لم يقتنع، وكان له ما اقتنع به.
وهل هذه الحادثة ذات دلالة معيّنة برأيكم، أو أنّ السيد كابي بالغ بها؟
القصّة الثالثة: بدل السفر.
تم تكليف نائب رئيس المجلس بمهمّة رسمية إلى فرنسا لمتابعة معالجة أحد مشاريع المجلس. فذهب وعاد، سالمًا، وتقدّم بفواتير المصاريف مطالبًا بيوميّات السفر ولكن… وعلى الرغم من أنّ نائب الرئيس كان يسافر دائمًا بالدرجة العادية (economy class)، وينك يا ديوان محاسبة تشوف، إلّا أنّ المحاسب قال له أنّه على علم بأن المكلّف لديه شقة سكن في باريس وبالتالي لا يحقّ له كامل اليومية المحدّدة أي مع بدل إقامة (per diem) فحسم ما رآه مناسبًا من المجموع. وهكذا كان.
وبعدين معك يا سيد كابي؟
وهل تُذكّركم هذه الحادثة بسفر المسؤولين مع نسائهم مرافقيهم ومستشاريهم وحاشيتهم وإعلامهم و… جماعة "تجميل الصورة" (Image-building) الذين يسبقون وصولهم … وجماعة "التغطية المُسْتَدامة" (Continuous coverage) الذين يتابعون أخبارهم بعد أفول "نجمهم" وجلّها بطائرات خاصّة؟ أو أنّه يجب أن نعيد إلى الأذهان كيف تُصاغ الصفقات من مجرّد تركيب جهاز بسيط أو المفروشات في المكتب إلى تجهيز البلاد بالكهرباء مرورًا برفع النفايات (من الناس وسياسيّين معًا) إلى…؟ وعينك يا كابي تشوف!!..
أردت بهذه العابرة لذاكرة غابرة أن أبثّ بعض الطراوة، ممزوجة بالمرارة المرافقة لا بدّ، على أحزاننا المُعاشة.
وهل أختم بالقول، الناس على دين … وهل كان السيد كابي ليتصرّف بهذه الأخلاق والمناقبية والشفافية والدقّة في أيّامنا هذه، لولا الجوّ العام النظيف الفكر والكفّ والسلوك الذي أن ساد يومذاك. وبأيّ هدف كان ليفعل ذلك الآن، ومن كان سيشعر بذلك أويقدّره أو حتى يستفيد منه؟
لا… لم نكن أفضل من غيرنا من المسؤولين، بعد التنويه بالتقدير الكبير الذي ما زال المسؤولون الأوَلْ يحظون به. هذا بكلّ بساطة تأكيد للقول: المال السايب يعلّم الحرام. فكلّ شيء يحصل بالتدرّج ومن ثمّ بالتدحرج. فالإنهيار الأخلاقي الحاصل الآن هو الأساس الذي ذهب ويذهب بالبلد والناس إلى الإنهيار المالي، ومن ضمنه الإقتصادي والإجتماعي والسياسي وليس آخرًا الأمني.
بكلّ بساطة: البلد بحاجة إلى إعادة إستنساخ كابي ورؤسائه في كلّ من مجالات الولاية العامة.
بيروت، في 12 أيار 2020م. حيّان سليم حيدر. مواطن لبناني يحاول ان يبقى صالحًا.