الحوار نيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتب محمد عبد الكريم أحمد في صحيفة الأخبار:
فيما لم يخفت بعدُ، الجدل الذي أثاره خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال «مؤتمر السفراء» في باريس (28 الجاري)، والذي صدّر فيه خطاباً استعمارياً بامتياز تجاه دول القارة الأفريقية (الفرنسية سابقاً) في سياق حديثه عن أولويات سياسات بلاده الخارجية، شهدت الغابون، وهي واحدة من آخر قلاع النفوذ الفرنسي في القارة، انقلاباً عسكريّاً يعزّز بقوّة ظاهرة «حزام الانقلابات» في غرب أفريقيا كمسار بديل، مرحليّاً على الأقلّ، لإخراج دول الإقليم من أزماتها المستحكِمة، والتحرُّر من تبعات الارتباط بفرنسا، بوصف ذلك رغبة شعبية تجلّت بشكل لافت في السنوات الأخيرة، في أرجاء الإمبراطورية الفرنسية السابقة كافّة.
الطريق إلى الانقلاب: توافق المقدّمات والنتائج
خرج ضبّاط في الجيش الغابوني، صباح الـ30 من الجاري (أمس)، بعد دقائق قليلة من إعلان الرئيس «المعزول»، علي بونغو، فائزاً في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لفترة ثالثة، ليعلنوا استيلاءهم على السلطة في البلاد، بصفتهم «ممثلين» لجميع القوات الأمنية والدفاعية، وإلغاء نتائج الانتخابات، وغلْق الحدود (مع غينيا الاستوائية، والكاميرون، وجمهورية الكونغو الديموقراطية)، في ما عنى حسْم الخلافات بين بونغو وغريمه في الانتخابات الأخيرة، ألبرت أوندو أوسام، الذي حلّ ثانياً، وفق النتائج (المطعون في صحّتها من التحالف الداعم له).
وخلافاً لدول إقليم الساحل التي شهدت انقلابات متعاقبة في الأعوام الأخيرة على خلفية أوضاع اقتصادية وأمنية واجتماعية بالغة التردّي، تُعدّ الغابون واحدة من الدول الأفريقية القليلة التي تُحقّق معدّلات أداء اقتصادي متوازن؛ إذ ارتفع نموّ الناتج القومي الإجمالي الحقيقي في هذا البلد بنسبة 3% في عام 2022 (من 1.5% في عام 2021، وكان متوقّعاً تحقيقه 2.7% خلال العام الجاري)، وذلك على خلفية تحسُّن أداء قطاع البترول (تنتج الغابون نحو 181 ألف برميل يوميّاً، ما يضعها في المرتبة السابعة بين الدول الأفريقية المنتجة للبترول، خلف نيجيريا، والجزائر، وأنغولا، وليبيا، ومصر، والكونغو). أيضاً، حقّق الميزان المالي للغابون فائضاً بنسبة 0.8% في العام الماضي، فيما انخفضت نسبة الديون من الناتج المحلي الإجمالي إلى 52.6% في العام نفسه، مقارنة بنسبة 66% في عام 2021، مع وصول نصيب الفرد من هذا الناتج إلى أكثر من 8 آلاف دولار سنوياً (2021)؛ علماً أنه يمكن ملاحظة استمرار تردّي العديد من المؤشرات الاجتماعية، من مِثل تجاوز الفقر حاجز الـ33% من سكان البلاد، ووصول البطالة إلى 28.8%. وجاءت الغابون في المرتبة 110 من 189 في مؤشّر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، لتقترب بشكل عام من حافة الدول المتوسّطة الدخول الدنيا، وهو تصنيف يقلّ في واقع الأمر عن مقدّرات الغابون الاقتصادية (إذ تمتلك مواردَ معدنية مهمّة، مثل اليورانيوم والمنجنيز وغيرهما، إلى جانب البترول، وموقعها كمركز استراتيجي مهمّ في تجارة خليجَي غينيا)، وحجم سكّانها الصغير نسبياً.
غير أن ضعف الأداء السياسي للرئيس المعزول، علي بونغو، وعدم قدرة الحزب الحاكم، «الديموقراطي الغابوني»، على مواجهة مخاوف المواطنين من تردّي الأوضاع الاقتصادية، فضلاً عن تراجع صحته (مواليد عام 1959، ويمرّ بأزمات صحية خطيرة منذ عام 2018)، وتآكل شعبيته في الأساس (فاز في الانتخابات التي أُجريت في عام 2016 بفارق ستة آلاف صوت فقط عن منافسه جان بينغ، وهو عضو سابق في «الحزب الديموقراطي»)، كما اتّضح في الانتخابات الأخيرة التي جرت بعد تعديلات دستورية «معيبة»، وفق ما وصفها به مراقبون، كلها عبّدت الطريق أمام الانقلابيين.
وكما جرت العادة في أفريقيا، فإن الساعات الأولى من الانقلابات تبدو مؤشّرة إلى ما بعدها بشكل كبير. ويبدو أن الانقلاب الأخير سيحكم قبضته على مجريات الأمور، ليحقّق ما فشل في تحقيقه انقلاب سابق جرى مطلع عام 2019 ضدّ علي بونغو نفسه، أثناء تغيّبه عن البلاد لتلقّي العلاج في المغرب، وبعد يوم واحد فقط من وصول نحو مئة جندي أميركي إلى الغابون (6 كانون الثاني) بتوجيه من الرئيس السابق، دونالد ترامب، لمواجهة احتجاجات كانت مرتقبة في جمهورية الكونغو الديموقراطية المجاورة.
تُعدّ الغابون واحدة من الدول الأفريقية القليلة التي تُحقّق معدّلات أداء اقتصادي متوازن
نهاية الإمبراطورية الفرنسية؟
عزا ماكرون، في كلمته أمام سفراء بلاده، التطوّرات الأخيرة في النيجر، إلى «الضعف الذي اعترى البعض تجاه الانقلابيين السابقين»، وانتقد بصلف واضح مواقف الدول الرافضة للتدخّل العسكري في النيجر ضمن تكتّل «إكواس». وبذلك، انتقلت فرنسا من صفّ تأييد العمل الجماعي الإقليمي، إلى فرْض وصاية مباشرة لتوجيه هذا العمل في مسار وحيد ومحدّد، في وقت تصاعدت فيه الاتهامات الموجّهة إلى حكومات في «إكواس» (ولا سيما نيجيريا وغانا) برهن سياساتها في الأزمة بالموقف الفرنسي.
ويبدو السلوك الفرنسي متّسقاً تماماً مع طبيعة علاقات باريس بعواصم أفريقيا الفرونكوفونية، ومن بينها ليبرفيل، طوال نحو خمسة عقود من حُكم «أسرة بونغو»: الرئيس المعزول ووالده عمر بونغو (حكم بلاده لنحو 40 عاماً، من عام 1967، ولغاية وفاته في عام 2009). وجسّدت الغابون، منذ استقلالها، انتصاراً فرنسيّاً بارزاً في ربط المستعمرات السابقة بسياساتها، ولا سيما منذ تولّي (ألبرت برنارد) بونغو خلفاً لليون مبا، أول رئيس في البلاد عقب استقلالها، إثر وفاة الأخير بعد معاناة مع مرض السرطان في باريس، وتبنّي بونغو «الأب» سياسات براغماتية واضحة من قَبيل اعتناقه الإسلام في عام 1973، وإرسائه دعائم حكم «أُسري» تجاوز في واقع الأمر المفهوم التقليدي عن «دولة الحزب الواحد»، وتآكل الحدود في عهده بين الحزبي والأسري في الدولة الصغيرة (يبلغ عدد سكان الغابون حالياً 2.4 مليون نسمة، يعيشون على مساحة 268 ألف كيلومتر مربع)، ووجود معارضة هزيلة له اتّخذت من باريس مقراً لها طوال العقود الفائتة. كما اشتهر بونغو الأب بكونه واحداً من أوثق حلفاء فرنسا في القارة، ومن أغنى الزعماء الأفارقة جنوب الصحراء (لا يزال معروفاً بتشييده قصراً خُصّص لاستضافة قمّة «منظّمة الوحدة الأفريقية» في عام 1977، بتكلفة تقترب من 900 مليون دولار).
وسار بونغو الابن، الذي تقلّد منصب وزير الدفاع قبل وصوله إلى الرئاسة بسنوات، على خطى والده في التحالف مع فرنسا (والولايات المتحدة)، الأمر الذي عزّز قدرته على تحقيق استقرار واضح في البلاد، على رغم فشله في تحقيق أجنداته الانتخابية المتكرّرة (وآخرها في العام الجاري) تحويل الغابون إلى اقتصاد صاعد.
وكانت الغابون إحدى محطّات جولة الرئيس الفرنسي الأفريقية، في الربيع الماضي (إلى جانب أنغولا والكونغو برازافيل وجمهورية الكونغو الديموقراطية)، حيث تضمّنت أجندة ماكرون الرئيسة، في اختزال بات تقليداً فرنسياً في القارة، بند «مكافحة النفوذ الروسي في القارة» من باب تقديم الدعم الأمني للدول التي تعاني مشكلات أمنية وعسكرية. وتعهّد ماكرون، خلال الزيارة، بأن قواعد بلاده المتبقية في أفريقيا (في السنغال وساحل العاج والغابون، بحسب تصريحه) ستُدار لاحقاً بشكل مشترك مع جيوش تلك الدول، وهو تعهُّد لا يبدو أنه حقّق اختراقاً في حالة الغابون تحديداً. وكان لافتاً أن جدول الجولة شمل الاتهامات الفرنسية «لأفراد من عائلة بونغو» في قضيّة غسيل أموال واختلاس بقيمة 85 مليون يورو لتمويل الاستيلاء على جانب من «إمبراطورية عمر بونغو العقارية» في فرنسا، فيما خفتت، وبشكل ملحوظ منذ نهاية عام 2021، حدّة الاتهامات الموجّهة إلى أحد بنوك فرنسا الرئيسة، «بي إن بي باريبا»، بالتورّط المتعمّد في غسل هذه الأموال.
ويبدو بعد شهور من زيارة ماكرون لليبرفيل، أن الوصلة الفرنسية مع الغابون، القائمة على تقديم دعم سياسي وعسكري نظير استنزاف موارد البلاد وتغذية استدامة الفساد السياسي فيها، قد انقطعت بشكل مباغت، على نحو يذكّر جزئياً برواية شهود عيان لخروج القوات الفرنسية من قاعدة «كامب ليمونيه» في جيبوتي على يد القوات الأميركية، على نحو «مهين» عبّر عن استياء واشنطن من أداء فرنسا الأفريقي في ذلك الوقت.
ماذا بعد؟
يبدو مبكراً للغاية توقّع النتائج المترتّبة على انقلاب الغابون؛ لكن ثمّة مؤشرات خطيرة للغاية، إذ كان الانقلاب متوقّعاً بشكل أكبر في الكاميرون المجاورة برئاسة بول بيا (90 عاماً) الذي يحكم البلاد منذ 41 عاماً، وتمكّن، في الفترة الأخيرة، من توطيد علاقاته مع شركاء أمنيين خارج الدائرة الفرنسية التقليدية (مثل روسيا، في ظل وجود إسرائيلي لافت في الحرس الرئاسي منذ عقود). كما أن وقوع الانقلاب في خضمّ أزمة تكتّل «إكواس» في النيجر يكشف عن حجم المشكلات الخطيرة التي تواجهها الدول الأفريقية في ظلّ حكومات وإدارات تغلّب الاعتبارات الخارجية بصورة كاملة على حاجات مجتمعاتها. وبات توقُّع الانقلابات في القارة في الفترة المقبلة مسألة غير مثيرة للدهشة، بل ومفهومة الدوافع أكثر من ذي قبل؛ ما يدفع إلى القول بانطلاق مرحلة من عسكرة السياسة والحكم في أفريقيا بشكل مباشر، وتراجع مرتقب في أيّ تحوّلات ديموقراطية (وإنْ شكلية) لمصلحة إطلاق مراحل انتقالية في أغلب أرجاء القارة. وفي المقابل، فإن صغر حجم القوات المسلّحة الغابونية (خمسة آلاف جندي تقريباً وفق تقديرات 2017) يؤشّر إلى فوقية التغيير المرتقب في إدارة البلاد، ويثير تساؤلات حول حجم القاعدة الشعبية التي ستؤيّد الانقلاب، وقدرة قادته على طرْح ملامح مرحلة انتقالية جادة لا تقتصر على تعزيز سلطة الأجهزة العسكرية والأمنية، وتتجاوزها إلى أجندة شعبية عريضة عانت في السنوات الأخيرة من سياسات بونغو، وفي صميمها اللاعدالة في توزيع الموارد، وقصور الإصلاح الاقتصادي وعدم مساسه بالفساد المؤسسي، وتفاقم المشكلات الاجتماعية الخطيرة، من مثل البطالة في دولة ذات اقتصاد كبير نسبياً، قياساً إلى حجم سكان صغير.