د. جواد الهنداوي – الحوارنيوز- خاص
ليس الانقلاب الأول أوالثاني أو الثالث الذي يستهدف دولة افريقية محسوبة ومُصّنفة لمصلحة فرنسا سياسياً واقتصادياً . سلسلة الانقلابات بدأت في مالي في آب عام ٢٠٢٠ و آيار عام ٢٠٢١، وغينيا في ايلول عام ٢٠٢١، وبوركينو فاسو في كانون الثاني عام ٢٠٢٢ ، والنيجر في تموز عام ٢٠٢٣ ، واليوم في الغابون ،حيث قامت القوات العسكرية بالانقلاب على الرئيس علي عمر بونغو ، والذي فاز للتو بالانتخابات ، وللمرّة الثالثة ، ويحكم البلاد منذ ١٤ عاما .
أكتفي فقط بالاشارة الى ما يمتلكه البلد من ثروات من النفط، وهو عضو في “الاوبك”، ومن اليورانيوم والذهب ومعادن اخرى . ولفرنسا ،بطبيعة الحال ، مصلحة وشركات استثمار وخدمات ، عاملة وبقوة ، في الغابون .ما يهمنّا ، البعد السياسي للاستفهام الوارد في عنوان المقال .
لم تُخفِ فرنسا نيّتها في التدخل عسكرياً في النيجر ، من اجل إعادة الرئيس المخلوع الى السلطة ،والذي اطاحت به مجموعة من الضبّاط ، وهدّدت فرنسا صراحة بالتدخل العسكري ،بل وطلبت من الجزائر التعاون معها بالسماح لعبور طائراتها الاجواء الجزائرية ، عند الضرورة.
وحجّة فرنسا في التدخل هو إعادة الشرعية بعودة الرئيس المخلوع ، كونه مُنتخبا ديمقراطياً . كذلك لم يتردّدْ الانقلابيون في النيجر بالافصاح عن موقفهم الرافض للهيمنة الفرنسية على ثروات بلادهم ،والداعي الى تحرير النيجر من التبعيّة سياسياً واقتصادياً لفرنسا ، ويستشهد الانقلابيون بشرعية حركتهم بالزخم الجماهيري المؤيد لهم ، وبتأييد دول افريقية اخرى لهم مثل مالي وكينيا .
صاحبَ التهديد الفرنسي بالتدخل عسكرياً في النيجر ، معركة دبلوماسية بين الانقلابيين وفرنسا ،حيث رفضت الاخيرة قرار النيجر بطرد السفير الفرنسي ، واوصته بعدم مغادرة البلاد ، وبعدم امتثاله للمهلة المحددة له لمغادرة البلاد ، والتي انتهت يوم الاحد المنصرم ٢٠٢٣/٨/٢٧ . وحجّة فرنسا في رفضها قرار مغادرة سفيرها النيجر هي عدم شرعيّة الحكومة الانقلابية في النيجر . وموقف فرنسا قد يخالف اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام ١٩٦١ ، حيث تنص المادة التاسعة من الاتفاقية على حق الدولة المستضيفة للبعثة الدبلوماسية بالطلب الى اي شخص في البعثة بمغادرة البلاد ،كونه شخصا غير مرغوب ،من دون الحاجة لذكر الاسباب. اللهم والمادة المذكورة لم تتطرق الى الظروف او الحالة السياسيّة التي تعيشها او تمّرُ بها الدولة .
هل تريد فرنسا ايقاع الانقلابيين في فخ ما من اجل ذريعة لتدخل عسكري؟
لا أظّنُ ذلك، لأنَّ فرنسا لم تتردّد في الاجهار بنيتها للتدخل عسكرياً ، وقبل أن يطلب الانقلابيون من سفير فرنسا مغادرة البلاد .
فرنسا تعتقد بأن مغادرة سفيرها البلاد بناء على قرار الانقلابيين هو اعتراف بالقرار ،واعتراف ضمني بشرعية الجهة التي اصدرت القرار ، وهم الانقلابيون ، وهذا ما يتناقض مع الموقف الرسمي الفرنسي المُعلن من المجلس العسكري ( الانقلابي ) في النيجر .
هل يُقدمْ الانقلابيون على طرد السفير الفرنسي واعضاء البعثة بالقوة؟
لا أظّنُ ذلك ، بل استبعدهُ بشكل مُطلق . الانقلابيون ليسوا على استعداد تقديم هديّة الى فرنسا ،ويدركون جيداً الموقف الحرج والصعب الذي تواجهه فرنسا في بلدهم وفي القارة السمراء . كما يعلمون بأنَّ استخدام القوة في طرد السفير امر مخالف لاتفاقية فينا ، وهم في ظرف دولي بحاجة الى مواقف سياسية ودبلوماسية ايجابية من طرفهم ،كي يظهروا للعالم بصورة رجال دولة ومسؤولين . أضف الى ذلك بأنَّ استخدام القوة في طرد السفير الفرنسي سيخّول فرنسا اللجوء الى القوة والتدخل العسكري ،وهذه المرّة ليس للدفاع عن الشرعية وانما للدفاع عن بعثتها الدبلوماسيّة ، وستبرّر فرنسا للرأي العام الفرنسي و لدول العالم تدخلها .
اعودُ الآن للاجابة على السؤال المذكور في العنوان : هل ما حدثَ في الغابون يؤجّل او يعّجلْ تدخلا عسكريا فرنسيا ؟
ما جرى في الغابون سيحول وسيمنع ايَّ تدخل عسكري في النيجر . فاتَ الاوان لاي تدخل عسكري ،ولن تكْ ايّ فائدة لتدخل عسكري فرنسي أحادي أو بالتعاون مع جهات أخرى ، و خاصة بعد المبادرة التي تقدّمت بها الجزائر لحلّ الازمة . وحسب توقعاتنا ،لم تُقدمْ الجزائر على شرح المبادرة وتفصيلاتها الا بعد حصولها على اشارات بل مواقف رسمية من فرنسا ومن المجلس العسكري في النيجر بقبول بنودها ، والتي تُرضي فرنسا، لأنَّ المبادرة تنصُ على شرعية وعودة الرئيس محمد بازوم ، وتحفظ ماء وجه الانقلابيين وضمان سلامتهم ،كما تنصُّ على مرحلة انتقالية لمدة ستة اشهر .
أزمة النيجر وسلسلة الانقلابات التي عاشتها وتعيشها القارة السمراء ،والتي تضع المصالح الفرنسية على باب الافلاس الاقتصادي و السياسي من افريقيا، سمحت لفرنسا ( اتمنى ذلك ) فرصة ادراك الحقائق التالية:
– دخول امريكا وبقوة في القارة ،وعلى حساب المصالح الفرنسية ، ومنافسة للدور الروسي في افريقيا .
ما يهّمْ امريكا الآن هو مصالحها في افريقيا وليس مصالح فرنسا ، والدليل على ما نقول هو عدم رغبة امريكا بأي تدخل عسكري فرنسي في افريقيا ، وما يؤيد امريكا في موقفها كل من ايطاليا وألمانيا ، ودليل آخر ، وهو عدم المساس في القاعدة الامريكية الموجودة في النيجر ، لا في تصريحات من قبل اعضاء المجلس العسكري ، ولا بتجمعات من قبل المتظاهرين ،ضّدْ الوجود الامريكي .
– لامريكا هدف استراتيجي وبعيد المدى في افريقيا يتجاوز سياسة فرنسا المتعثرّة والفاشلة في افريقيا ،والتي (حسب الرأي الامريكي) ساهمت وسبّبت في ما تعيشه القارة السمراء من مناهضة و انقلابات عسكرية ضّدَ الزعماء الافارقة والمحسوبين لمصلحة فرنسا . ونشير ، بخصوص الفشل الفرنسي في افريقيا ، الى كتاب، صدر حديثاً ، و بعنوان ” ٤٤ سنة عمل في المخابرات الخارجية الفرنسية ” ومؤلفهُ فرنسي وبإسم مستعار ،يدعّي عمله في الجهة المذكورة ،قطاع افريقيا ، وصدر الكتاب عن دار النشر ” تالون ” ، ويتحدث عن فشل السياسة الفرنسية في افريقيا ، ويذكر بأنَّ هذا الفشل هو سبب دخول روسيا والصين بقوة ونجاحهما .
ليس من مشيئة القدر او الصدفة ان يتزامن صدور ونشر هذا الكتاب مع ما يجري في القارة السمراء و ضّدْ المصالح الفرنسيّة !
تريد امريكا ان تقود المصالح الغربية في افريقيا ،وتعتقد بأنها هي الاقدر على ضمان مصالح الغرب ، وهي الاقدر على مواجهة روسيا و الصين في القارة ، كما لأمريكا رسالة ،في ذلك الى روسيا ، مفادها هو أنَّ الحرب في اوكرانيا لن تمنع امريكا والغرب من مشاغلة روسيا في افريقيا.