الحوارنيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتب وليد شرارة في الأخبار يقول:
تكاثر المؤشّرات إلى التحوّل المستمرّ في بنية العلاقات الدولية بين قوى الهيمنة الغربية، المتراجعة، وقوى الجنوب العالمي، الصاعدة. مجريات قمة بروكسل بين الاتحاد الأوروبي ومجموعة دول أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، والتي عُقدت في الـ 17 والـ 18 من الشهر الحالي، كانت بذاتها آخر تلك المؤشّرات إلى مسعى بلدان من الجنوب العالمي لفرض قدر من التوازن والندّية في علاقاتها مع المراكز الاستعمارية السابقة. وقد ركّزت وسائل الإعلام الغربية في معظمها على الخلاف الذي برز بين الطرفين، عند صياغة البيان الختامي للقمّة، حول الموقف من الحرب في أوكرانيا، ورفض دول المجموعة مطالب الاتحاد بإدانة «العدوان الروسي»، واكتفائها فقط بإبداء «القلق العميق إزاء الحرب في أوكرانيا» من دون ذكر روسيا بالاسم، وهي الصياغة التي اعتُمدت بالنتيجة في البيان المذكور، بعد ساعات من النقاش.
لا شكّ في أن ثبات دول المجموعة في مواجهة ضغوط القارة العجوز، لحملها على الانسياق خلفها في مواجهتها الاستراتيجية مع موسكو، بقيادة واشنطن بطبيعة الحال، هو تطوّر مهمّ في سياق التحوّلات الدولية المتسارعة في السنتَين الماضيتَين. غير أن ما لم يحظَ بتغطية كافية من قِبل وسائل الإعلام المشار إليها، هو التجاذب الذي شهدته القمة حول العلاقات البينية بين طرفَيها. فقد امتنعت دول الاتحاد عن الموافقة على إدراج قضية التعويضات عن تجارة الرقيق، والتي طرحها رئيس وزراء سانت فنسنت وجزر غرينادين، والرئيس الحالي لمجموعة دول أميركا اللاتينية والكاريبي، رالف غونزالفيس، في البيان الختامي، وفضّلت الاعتراف «بالمعاناة التي لا توصف التي لحقت بالملايين من الرجال والنساء والأطفال نتيجة لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي»، والإعراب عن «الشعور بأسف عميق لحدوثها باعتبارها جريمة ضدّ الإنسانية». بكلام آخر، «ترضية معنوية» في مقابل أهوال ارتُكبت على مدى قرون بحق ملايين الملوّنين، الذين لا يستحقّون، في نظر قادة الاتحاد الأوروبي، مليارات الدولارات التي تُضخّ لدعم الأوكرانيين «من أصحاب السحنات البيض والعيون الزرق والشعر الأشقر الذين يشبهوننا»، كما عبّر أكثر من مراسل غربي عند اندلاع النزاع. لن تتخلّى المراكز الاستعمارية المنحدرة عن سياسة الكيل بمكيالين بسهولة. كلام شارل ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي، عن الاحترام المتبادل والروابط الثقافية واللغوية بين الطرفَين لن يفلح في حجب هذه الحقيقة، التي تجلّت أيضاً خلال الحوارات حول العلاقات التجارية والاقتصادية بينهما.
عادت أميركا اللاتينية لتكتسب أهمية بالغة على المستويات الجيواقتصادية والجيوستراتيجية للاتحاد الأوروبي، منذ الإعلان في أواخر 2021 عن مشروع البوابة العالمية (Global Gateway) للبنى التحتية والرقمية لهذا الأخير، والذي اعترف عدد من مسؤوليه وخبرائه بأنه يشكّل ردّاً على مشروع الحزام والطريق الصيني، وما نجم عنه من توسّع لنفوذ بكين الاقتصادي والسياسي. للاتحاد علاقاتٌ اقتصادية وتجارية وازنة مع عدد من دول أميركا اللاتينية، كالبرازيل مثلاً، التي تحتلّ موقع المصدّر الأول للمنتجات الزراعية نحو بلدانه وفقاً لأرقام 2018، وهو يخوض مفاوضات «معقّدة» منذ 20 عاماً مع دول «ميركوسور» (البرازيل والأرجنتين والأورغواي والباراغواي) لتوقيع اتفاقية تجارة حرّة معها. لم تتمّ المصادقة على هذه الاتفاقية حتى الآن بسبب «مخاوف أوروبية حيال السياسات البيئية في هذه البلدان، وخاصة البرازيل»، ما دفع رئيسها لويس اينياسيو لولا إلى القول، خلال قمّة بروكسل، إن الدفاع عن البيئة لا يمكن أن يُستخدم ذريعة لسياسات حمائية من قِبل الاتحاد.
غير أن الأولوية الفعلية التي تفسّر الاهتمام الأوروبي المتعاظم بجنوب القارة الأميركية، هي ضرورة تأمين حصّة وافرة من «المواد الخام الحرجة» (Critical Raw Materials)، وفي مقدّمتها الليثيوم، والتي لا بدّ منها إن أرادت دول الاتحاد استكمال عملية الانتقال نحو التكنولوجيا «الخضراء» غير الملوّثة. هذه المواد هي مصادر طاقة المستقبل، ولدى بلدان ما يسمّى بـ«مثلث الليثيوم»، أي تشيلي والأرجنتين وبوليفيا، حوالي 50% من المخزون العالمي من هذا المورد الاستراتيجي. معطى آخر لا يمكن التعامي عنه بالنسبة إلى الأوروبيين والغربيين، هو أن الصين مستثمر رئيسيّ في هذا القطاع في دول المثلث. وُقّعت مذكرة تفاهم خلال القمة بين تشيلي والاتحاد للشراكة في «سلاسل قيمة المواد الخام المستدامة» (sustainable critical raw material supply chain). لكن ما يثير تحفّظ بقية بلدان أميركا اللاتينية تجاه مثل هذا النمط من الشراكات، هو نموذج تقسيم العمل الاستعماري الذي لا يزال يحكم منطق الاتحاد الأوروبي، والذي يفترض أن ينحصر دور البلدان المنتجة لهذه الموارد باستخراجها، ليتمّ بعد ذلك تصديرها نحو المراكز الرأسمالية «المتقدّمة» لتصنيعها وتحويلها إلى منتجات نهائية يُعاد بيعها في الأسواق العالمية، ويضطرّ المنتجون الأصليون إلى استيرادها! في ختام قمّة بروكسل، رأى الرئيس الأرجنتيني، ألبرتو فيرنانديز، أنها كانت مناسبة استثنائية «للحوار حول كيفية بلورة آلية للشراكة تُخرج أميركا اللاتينية من الاعتماد الحصري على الصناعة الاستخراجية. لقد تطلّب الأمر 500 عام، وأقول ذلك مُمازحاً إلى حدّ ما، لننجح في ذلك». وبمعزل عمّا إذا كان مثل هذا الحوار سيفضي في المدى المنظور إلى صياغة شراكة تتجاوز تقسيم العمل الاستعماري، فإن الأكيد هو أن التحوّل في موازين القوى الدولية لغير مصلحة المراكز الغربية، ووجود منافسين دوليين جدد للأخيرة، هما متغيّران قد عزّزا من قدرة بلدان الجنوب على التفاوض من موقع قوة مع هذه المراكز، والعمل على تعديل أسس العلاقات معها.