دراسة قانونية حول المشروعية الوطنية والدولية للمقاومة الشعبية المسلحة
د.خضر ياسين:
يعتبر لبنان من أكثر الدول العربية المجاورة لفلسطين المحتلة تأثراً بالإنعكاسات الخطيرة لنشأة الكيان الإسرائيلي المغتصب للأرض منذ العام 1948، حيث تقوم اسرائيل منذ ذلك الحين باستخدام القوة بشكل غير مشروع ضد سيادة الدولة اللبنانية واستقلالها السياسي ووحدة أراضيها في مخالفة واضحة لميثاق الأمم المتحدة والقوانين والأعراف الدولية.
ووفقاً لقواعد ميثاق الأمم المتحدة، فإن الفقرة الرابعة من المادة الثانية منه تمنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم عن التهديد باستعمال القوة أو استعمالها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي وجه لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة، كما أن ميثاق الأمم المتحدة لا يسمح لأية دولة باستخدام القوة من جانب واحد إلاّ في حالة وحيدة ومقيّدة أوردتها المادة (51) منه المتعلقة بالدفاع المشروع عن النفس.
لقد تسبّب الإحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني بنشوء مقاومة مسلحة لإجبار العدو الإسرائيلي على الإنسحاب من الأراضي التي يحتلها بعد ان فشلت المساعي الدولية في تحقيق هذا الأمر، في ظل رفض اسرائيل تطبيق القرارات الدولية التي تدعوها للإنسحاب، ومارست هذه المقاومة نشاطها بهدف تحقيق أهدافها المشروعة ومنها تحرير الأرض والإفراج عن الأسرى اللبنانيين والتصدي للإنتهاكات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية، فما هي الأسانيد القانونية الدولية والوطنية التي تعطي للمقاومة اللبنانية مشروعية الكفاح المسلح ضد العدو الإسرائيلي؟
يشكل حق الشعوب في تقرير مصيرها أحد مبادئ القانون الدولي الذي يتضمن أيضاً العديد من الأحكام التي تكفل حق الشعوب في المقاومة المسلحة ضد الإحتلال، الذي يندرج ضمن الإطار العام المتعلق بحق تقرير المصير، وهذا الأخير تعتبره محكمة العدل الدولية بأنه حقاً ملزماً للجميع، ويعد وفقاً للجنة القانون الدولي التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة قاعدة آمرة، بمعنى أنه لا تستطيع أي دولة أن تمتنع عن تطبيقه في علاقاتها الدولية، وأن كل أعضاء الأمم المتحدة عليهم واجب تنفيذ هذا الحق، فينص ميثاق الأمم المتحدة في المادة الأولى منه على أن "أحد مقاصد الأمم المتحدة هو إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام مبدأ تساوي الشعوب في الحقوق وحقها في تقرير المصير واتخاذ تدابير ملائمة أخرى لتعزيز السلم العالمي"، وورد في المادة(55) منه أن "الرغبة في تهيئة دواعي الإستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سلمية وودية بين الدول مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لها تقرير مصيرها".
وتم التأكيد على حق تقرير المصير في المادة الأولى المشتركة بين العهدين الدوليين: العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية لسنة 1966، كذلك أكدت الأمم المتحدة عبر جهازيها الجمعية العامة ومجلس الأمن على حق الشعوب في تقرير المصير بموجب العديد من القرارات الصادرة عنهما، كالقرار رقم(637) تاريخ 16/11/1952، والقرار رقم(3162) تاريخ 14/12/1973.
أما في ما يتعلق باستخدام القوة المسلحة من قبل الشعب ضد الدولة المعتدية التي تحتل قسماً من أقليم دولته فإنه يتخذ شكل النضال المسلح ضد الإحتلال ويشكّل الطريقة الثورية لممارسة الحق في تقرير المصير، ويستند الى مرجعية قانونية تكرّسه كحق طبيعي وثابت وتكفل للشعوب الحق في المقاومة المسلحة، إذ تتضمن إتفاقيات القانون الدولي إقراراً بالحق في المقاومة وشرعيتها، حيث تناول مؤتمرا لاهاي عامي 1899 و 1907 تكريس موضوع المقاومة الشعبية المسلحة عندما تم الاعتراف خلال هذين المؤتمرين بشرعية المقاومة ضد العدوان والاحتلال، فنصت المادة الأولى من اتفاقية لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية (18/10/1907) على ما يلي: "سكان الأراضي غير المحتلة الذين يحملون السلاح من تلقاء أنفسهم عند اقتراب العدو، لمقاومة القوات الغازية، دون أن يتوافر لهم الوقت لتشكيل وحدات مسلحة نظامية طبقاً لأحكام المادة الأولى، يعتبرون محاربون شريطة أن يحملوا السلاح علناً وأن يراعوا قوانين الحرب وأعرافها".
ثم جاءت إتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاها الإضافيان لتؤكد على شرعية حق سكان الأراضي المحتلة في مقاومة سلطات الاحتلال، فالمادة الثانية المشتركة بين الاتفاقيات الأربعة لعام 1949 تؤكد على انطباق هذه الاتفاقيات على جميع حالات الاحتلال الجزئي أو الكلي لإقليم أحد الأطراف السامية المتعاقدة. وتم التأكيد على هذا النص القانوني بموجب المادة الأولى من البروتوكول الإضافي الأول عام 1977 لاتفاقيات جنيف الأربعة الخاص بالمنازعات المسلحة الدولية، التي ورد في الفقرة (ج) منها ما يلي: "ينطبق هذا البروتوكول الذي يكمل اتفاقيات جنيف لحماية ضحايا الحرب الموقعة بتاريخ 12/8/1949 على الأوضاع التي نصت عليها المادة الثانية المشتركة فيما بين هذه الاتفاقيات". ووفقاً للفقرة (د) من البروتوكول المذكور، فإن الأوضاع المشار إليها في الفقرة (ج) تتضمن المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير…"، وبالتالي فإن البروتوكول الإضافي الأول (1977) يعتبر أن النزاعات المسلحة الناجمة عن ممارسة نشاط حركات التحرير بمثابة نزاعات مسلحة دولية يطبَّق عليها أحكامه والقواعد الأخرى المتعلقة بالنزاعات المسلحة الدولية.
أما بخصوص قرارات الأمم المتحدة فإنها وردت في ذات السياق المتعلق بتكريس شرعية اللجوء إلى القوة المسلحة لمقاومة سلطات الاحتلال، لأنه على أساس حق الشعوب في تقرير مصيرها يملك كل شعب الحق في استخدام كافة الوسائل من أجل الوصول إلى حقوقه بما فيها استخدام الكفاح المسلح، ونذكر من هذه القرارات:
– جاء في القرار (2621) تاريخ 12/10/1970 أن للشعوب المستعمرة الحق الطبيعي في النضال بكل الوسائل، والمحاربين والمناضلين ضد السيطرة الاستعمارية والأجنبية الذين وقعوا في الأسر يجب أن يمنحوا وضع أسرى الحرب وأن يعاملوا وفقاً لأحكام اتفاقية جنيف الخاصة بمعاملة أسرى الحرب (1949)، وبالتالي فإن لتلك الشعوب الحق في الثورة على سلطات الاحتلال وأن واجبهم القومي يحتم عليهم اللجوء إلى المقاومة.
– قرار الجمعية العامة (3103) تاريخ 12-12-1973 ينص على أن نضال الشعوب في سبيل حقها في تقرير المصير والاستقلال هو نضال شرعي يتفق تماماً مع مبادئ القانون الدولي، وأية محاولة لقمع الكفاح المسلح تشكل مخالفة لميثاق الأمم المتحدة ولمبادئ القانون الدولي وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
– القرار (3246) الصادر عن الجمعية العامة بتاريخ 29/11/1974 أكد على شرعية الكفاح المسلح في سبيل التحرر من السيطرة الأجنبية والاستعمارية والاستعباد الأجنبي بكل الوسائل المتاحة.
– نصت المادة السابعة من القرار الخاص بتعريف العدوان الصادر بتاريخ (14-12-1974) على أنه ليس في هذا التعريف ما يمكن أن يمس حق الشعوب التي ترزح تحت النير الاستعماري أو تلك التي تحكمها أنظمة عنصرية أو تخضع لغير ذلك من مظاهر التسلط الأجنبي في أن تقاوم ذلك بكل الوسائل الممكنة بما في ذلك القوة المسلحة.
وبالتالي فإنه في حالة لجوء الشعوب الى ممارسة المقاومة المسلحة لمواجهة الإحتلال يحق لها البحث عن تلقي المساعدات المادية والمعنوية لتحقيق أهدافها، لأن الوقائع التاريخية تثبت أنه لم يوجد أية مقاومة في التاريخ لم تتلق دعماً خارجياً لها على كافة المستويات، ولذلك طالما أن الأمم المتحدة اعترفت بمشروعية استخدام القوة المسلحة من أجل التحرير تكون قد أضافت نوعاً جديداً للاستخدام المشروع للقوة، وابتعدت عن الاتجاه التقليدي الذي يدرج هذا النوع من النزاعات ضمن حركات التمرد والثورات الداخلية، والذي كان يعتبر كل مساعدة مسلحة خارجية عملاً غير مشروع وتدخلاً في الشؤون الداخلية للدولة الاستعمارية، بل أصبحت حركات التحرر الوطني حقيقة لا يمكن تجاهلها، وكل مساعدة يتم تقديمها للدول الإستعمارية من قبل دول أخرى تعتبر مساعدة للعدوان ومخالفة لأهداف الميثاق وعملاً غير مشروع.
إن المقاومة الشعبية المسلحة لا يمكن إعتبارها من القضايا الطارئة أو المفاجئة على صعيد القانون الدولي، بل هي حق طبيعي تم تكريسه في القانون الدولي وقد سبق تقنينه كحق مشروع في العديد من الإعلانات الحقوقية (إعلان الاستقلال الأميركي عام 1776 – إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي 1789 – إعلان حقوق وواجبات الانسان، جنيف 1793)، والحق في الدفاع عن النفس وحق تقرير المصير يشكلان الإسناد الأساسي في القانون الدولي للحق في المقاومة.
من جهة ثانية لقد وقّع لبنان والعدو الإسرائيلي بتاريخ 26/4/1996 "إتفاق نيسان"، وهو الإتفاق الخطي الثاني بين الطرفين بعد إتفاقية الهدنة 1949، ويعترف هذا الإتفاق بحق الدفاع المشروع عن النفس، حيث ورد فيه: "بدون خرق هذا التفاهم لا يوجد ما يمنع أي طرف من ممارسة حق الدفاع عن النفس"، وتبرز أهمية هذه الفقرة بأنها عزّزت المشروعية القانونية الدولية للمقاومة اللبنانية، التي تتمتع أيضاً بالمشروعية القانونية الوطنية، حيث أكدت الدولة اللبنانية بشكل صريح من خلال حكوماتها المتعاقبة على حق الشعب اللبناني بممارسة المقاومة الشعبية المسلحة للدفاع عن أرض لبنان وحقوقه، فمثلاً ورد في بيانها الوزاري عام 2006 : "إن المقاومة اللبنانية هي تعبير صادق وطبيعي عن الحق الوطني للشعب اللبناني في تحرير أرضه والدفاع عن كرامته في مواجهة الإعتداءات والتهديدات والأطماع الاسرائيلية والعمل على استكمال تحرير الأرض اللبنانية"، وانطلاقاً من هاتين الشرعيتين تمارس المقاومة اللبنانية نشاطها المسلح ضد العدو الإسرائيلي.