قبل أن تصبح عودة الحريري مطلبا شعبيا!
مرة أخرى يجب التذكير بالانهيار النقدي الذي حصل في العام 1992 بفصوله الكاملة على المستويات السياسية والاقتصادية والمعيشية،حيث قفز الدولار الأميركي من سبعمائة الى ثلاثة آلاف ليرة في أسابيع قليلة.فليس صحيحا أن التاريخ لا يعيد نفسه.الصحيح أن الحكام والشعوب يستفيدون من عبر الماضي،لكن هذه القاعدة لا تجد لها رواجا في لبنان.
يومها لم يقتصر الانهيار على النقد ،بل تخطاه الى السياسة ،فأُسقطت حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي تحت ضغط الشارع في ما سمي ب"ثورة الدواليب" التي لوّث دخانها سماء البلد ،وأعقب ذلك اختيار الرئيس رشيد الصلح رئيسا لحكومة كان في رأس جدول أعمالها إجراء انتخابات نيابية حملت شريحة برلمانية جديدة الى مجلس النواب اختارت الرئيس الراحل رفيق الحريري رئيسا للحكومة لأول مرة.
على وهج السمعة التي كان يتمتع بها رفيق الحريري والقوى الخارجية الداعمة له عربيا ودوليا ،إنهار الدولار أمام الليرة اللبنانية ،واستقر على 1500 ليرة طوال 27 عاما.
صحيح أن الظروف اليوم مختلفة كليا عن بداية التسعينات:
فلا الحريرية السياسية تعتبر اليوم رقما مجهولا كما كانت عام 1992 ،بل خاضت التجربة السلطوية طويلا ،وثمة من يحملها معظم وزر الحالة التي بلغها لبنان اليوم.
ولا الأشقاء والأصدقاء هم اليوم في وارد مدّ يد العون للبنان لإنقاذه من الانهيار ،بعضهم عاجز عن ذلك نتيجة الانهيار الاقتصادي العالمي ،وبعضهم الآخر يضغط على البلد بحجج مختلفة لابتزازه وليّ ذراعه لأهداف معروفة.
ولا الانقسام اللبناني كان في التسعينات بمثل هذه الحدة على مختلف المستويات .
ولا الراعي السوري لمعالجة الخلافات وفرض الحلول موجود اليوم لتسيير الأمور كلما وصلت الى طريق مسدود.
ولا الاقتصاد اللبناني متعاف الى الدرجة التي يؤمّل فيها قيامة البلد من أزمته.
ولا الديون المتراكة على لبنان كانت بمثل هذه السطوة على خزينة البلد .
وأخيرا وليس آخرا،لم تكن الكورونا قد فتكت بالعالم وناسه واقتصاده وما تزال تنذر بشر مستطير على مختلف الصعد.
كل ذلك صحيح .لكن الناس تهتم بالنتائج وليس بالمبررات .وما تريده الناس لم تستطع الحكومة الحالية حتى الآن تأمينه أو توفيره كما كان مؤمّلا منها،إما لقصور ذاتي من داخلها ،أو لظروف خارجة عن إرادتها.
كان الأمل في حكومة الرئيس حسان دياب على الأقل ،أن تستعيد مؤسسات الدولة من سلطات الثلاثين عاما الماضية من خلال تشكيلات وتعيينات ادارية وقضائية وأمنية تستطيع من خلالها تنظيف البلد من جائحة الفساد المزمن والذي يعترف به الجميع .لكن الحكومة ما تزال عاجزة حتى هذه اللحظة عن تعيين محافظ انتهت ولايته .
قد نجد للحكومة ألف مبرر ومبرر منطقي لهذا العجز،لكن الناس –تكرارا- تهمها النتائج وليس المبررات .وقد ترضى الناس ب"الشيطان" بديلا ل"الملاك" حسان دياب،توهما بالخلاص والإنقاذ،ولجم الدولار عند حدود معينة ولو على ثلاثة آلاف ليرة،حتى لو كان هذا الشيطان في نظر البعض هو سعد الحريري نفسه،خاصة وأن التعويل على "ثورة 17 تشرين" تضاءل في نفوس العامة والخاصة الى الحد الأدنى.
وقبل أن تصبح عودة سعد الحريري الى رئاسة الحكومة مطلبا شعبيا ،في إطار تسوية سياسية يحبذها أهل النظام ،يبقى الرهان على انتفاضة حكومية تسندها انتفاضة شعبية عارمة تبدل الأحوال من حال الى حال.وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!!