د. جواد الهنداوي – الحوارنيوز خاص
ظّنتْ الادارة الأميركية، بأنَّ اشغال روسيا في حرب اوكرانيا سيمنعها ، على الاقل ، عن ترسيخ و توسيع مساحة نفوذها الدولي .
ادركت الدول العظمى المنافسة لأميركا، وهما الصين و روسيا ،بأنَّ لعنة احتلال العراق قد دبّت في جسد وفي روح أميركا ، فأصبحت ، ومنذ عقد من الزمن في حالة “الرجل المريض ” ، تتلقى الضربات و الاهانات وتهدّد ولا تُقدِمْ ، وتستعين بمجاميع مسّلحة وارهابية هنا وهناك ، وبسياسة الاغتيال والغدر والسطو وسرقة الثروات ، و خلق الازمات .
قدّمت ايران للعالم شهادة مرض ووهن و عجز أميركا .فكّم من مرّة ركلت ايران ” خطوط حمر اميركية ” ، وقصفت مواقع أميركية واسقطت مسيّرات و طائرة أميركية ، و أسرت جنود من البحرية الأميركية ، و اهملت العقوبات الأميركية المفروضة عليها وعلى دول اخرى مثل فنزويلا و سوريا ولبنان و روسيا ، فكسرت حصارهم، و زودّتهم بالوقود وبالسلاح .
عندما تفقد الدولة هيبتها تخسرُ نصف قوتها ،و يبدأ سباق التنافس على نفوذها ، وهكذا هو حال أميركا وحلفائها الغربيين الآن . و تتقاسم الادوار اليوم روسيا و الصين على النفوذ السياسي و الجغرافي و الاقتصادي لأميركا و الغرب . تتولى الصين النفوذ الاقتصادي ، وقريباً سيكون لها دور مهم في الجانب النقدي ،عندما تروّج التعامل التجاري مع روسيا والهند وايران في العملة الوطنية ،بدلاً من الدولار ؛ وتتولى روسيا النفوذ السياسي والجغرافي .
ظّنتْ الادارة الأميركية ،بأنَ اشغال روسيا في حرب اوكرانيا سيمنعها من ترسيخ و توسيع مساحة نفوذها الدولي ،خاصة في منطقة الشرق الاوسط . و ظّنتْ ايضاً بأنَّ الحرب في اوكرانيا ستقود الى تفتيت روسيا ،مثلما كانت نتائج احتلال الاتحاد السوفييتي لافغانستان ،والتي ادّتْ الى انهيار الاتحاد . حاولت الادارة الأميركية تكرار تجربة افغانستان ،والقاعدة ، والاتحاد السوفييتي بأخرى اوكرانيا ،آزوف ، روسيا .
جاءت نتائج الحرب ، ونحن على بعد ساعات من عام جديد ، على غير ما تنتظره الادارة الأميركية و الدول الغربية ؛ فتضاريس و جغرافية و موقع اوكرانيا تختلفُ كُلياً عن تضاريس وجغرافية و موقع افغانستان ؛ و لا تواجه الجيوش الروسية في المناورة والتكتيك و الامدادات ذات الصعوبات والاخطار التي واجهتها جيوش الاتحاد السوفيتي في افغانستان . مواجهة الشعوب الاوربية لازمات النقل و الطاقة و الوقود والغذاء جعلتها تدرك اهمية و دور روسيا في الامن و الغذاء والطاقة . اصبح المواطن الاوروبي اكثر قُرباً من روسيا واكثرُ بُعداً عن أميركا ،ليس فقط من الناحية الجغرافية والحدود المُتاخمة ، وانما ايضاً اقتصادياً و اجتماعياً و امنياً . بعض الكتّاب الاوروبيين لم يتردْدوا من نشر آرائهم القائلة بأنَّ من اهداف الحرب في اوكرانيا هو الحيلولة دون التعاون والشراكة الاوروبية الروسية في مجالات النقل و الطاقة ،وخاصة بين المانيا و روسيا .
الحرب في اوكرانيا أيقظت الاوروبيين من تداعيات التبعية المطلقة للسياسة الأميركية ، و كشفت عن ابتزاز وجشع أميركا حتى مع حلفائها الاستراتيجيين .
الحرب العسكرية و الاقتصادية التي تقودها أميركا على سوريا ساهمت بشكل كبير في ترسيخ و توسّع نفوذ روسيا، ليس في سوريا وحسبْ ، وانما في المنطقة ، حيث اصبحَ لروسيا علاقات تعاون و تفاهمات سياسية و اقتصادية ،وخاصة في مجال الطاقة مع المملكة العربية السعودية .
اغتنمت دول مجلس التعاون الخليجي مناسبة انشغال أميركا في حرب اوكرانيا كي تُلزِمْ أميركا بأعادة نظرتها و تعاملها معها (للاستزادة عن الموضوع ،انظر مقال بعنوان ” حرب بوتين في اوكرانيا تسبّبت في تحّول علاقات الخليج مع الغرب ، للصحفي لبيل لو ،في موقع ميدل آست آي ، مترجم للعربية ،صحيفة القدس العربي يوم ٢٠٢٢/١٢/٢٣ “) كذلك مع اسرائيل التي تتشاور مع روسيا بقدر ما تتشاور مع أميركا بشأن مواقف وقرارات سياسية و عسكرية تخصّ سوريا وايران . وتتشاور وتتعاون تركيا اليوم مع روسيا وبثقة واطمئنان اكثر من تشاورها وتعاونها مع أميركا . وسيشهد عام ٢٠٢٣ اعادة العلاقات السياسية والدبلوماسية بين تركيا وسوريا و بفعل دور ونفوذ روسيا ، وهذا ما يعزّزُ سُمعة ومكانة الدور والنفوذ الروسي الساعي لانهاء الحروب والسلام بخلاف الدور والنفوذ الاميركي الساعي لافتعال الحروب وخلق الازمات و اشاعة الفوضى .
حرب اوكرانيا عزّزت ووسّعت حجم التعاون العسكري الروسي الايراني . لم يقتصرْ التعاون على تجهيز روسيا بالمسّيرات ، وانما تعداه الى تعاون استشاري عسكري وتزويد ايران بمعدات عسكرية تم اغتنامها في معارك اوكرانيا . هكذا اصبحَ نفوذ ودور روسيا في الجغرافية الحيوية لآسيا ، والتي كانت ،في سبعينيات القرن الماضي حكراً للدور والنفوذ الاميركي ( ايران ،السعودية ،تركيا ، اسرائيل ) .
لم تكتفْ روسيا بأدوار وبنفوذ في اوروبا و آسيا ،بل امتد دورها السياسي ونشاطها الاقتصادي الى افريقيا ،حيث تسيطرُ الآن على صناعة وتجارة الذهب في جمهورية مالي .
كما لها الآن دور سياسي مهم في جمهورية افريقيا الوسطى ،حيث ساهمت روسيا في تثبيت الرئيس فوستين ارشانج لولاية ثالثة ، دعماً لاستقرار البلد والقضاء على الفساد المستشري فيه ، والذي مزّقته الحرب الدائرة منذ عام ٢٠١٤ .
في تقرير لصحيفة نيويورك تايمز وبعنوان ” بوتين فشلَ في تحويل اوكرانيا الى دولة تابعة لكنه نجحَ في افريقيا الوسطى ” ،اعدّه روجر كوهين ، ونشرته بالعربية صحيفة القدس العربي ليوم ٢٠٢٢/١٢/٢٧ ، قال فيه :” يبدو انَّ الغرب خسر عقول وقلوب السكان هنا ،فالاطار الذي يقترحه الرئيس بايدن حول النزاع العالمي بين الاستبداد والديمقراطية لم يجد صداه في القارة الافريقية ، على العكس فحرب اوكرانيا وربما بسببها يبدوا ان سكان القارة متشككين من القيم الغربية “.
ويضيف كاتب التقرير ، ما قاله مواطنون ،في مقابلات اجراها معهم ” قوات حفظ النظام تقوم بدوريات وتلتقط صور عندما يقتل احد ، امّا الروس فيقتلون.. لقد جلبوا لنا نوعاً من السلام ” .
القمّة الافريقية التي دعا اليها ورعاها الرئيس بايدن ،في واشنطن ،منتصف شهر ديسمبر الجاري جاءت بعد فوات الأوان ، تحذير وزير الخارجية الامريكي الرؤساء الافارقة من انَّ الوجود العسكري والنفوذ السياسي الروسي في بلدانهم يستهدف ثرواتهم ويهدّد استقرار بلدانهم لم يلقْ آذاناً صاغية . تعليقات وآراء الصحف الافريقية عبّرت عن استغرابها لتوقيت ولموضوع القمّة قائلةً ” أميركا الآن عرفت أن القارة الافريقية بحاجة الى سلام وتعاون وازدهار “!
*سفير عراقي سابق ورئيس المركز العربي الأوروبي للسياسات وتعزيز القدرات-، بروكسل