الدكتور نسيم الخوري –الحوارنيوز خاص
يقودنا الرحيل في قراءة التصريحات والخطب والمقالات والتحليلات سلباً أو إيجاباً في الولايات المتحدة الأميركية، إلى مراكمة علامات التعجّب والاستفهام التي لا تفكّك مدلول مصطلح العظمة المطبوع في الأذهان حول صورة أميركا. إنّها بنيان لتجمّعات شعوب وثقافات متنوعة حافظت على قديمها بالرغم من حداثتها المكتسبة. قد تحصل لهذا التنوّع هزّات عنيفة، لكن صلابة عظيمة تجمعه برعاية منظومة تتجاوز الرئيس وممّا فيها القوانين والتشريعات والأحزاب التي لا تتغيّر مهما تغيّرت العهود أو تبدّل الرؤساء. أكتب هذا، وفي ذهني خلاصة انتظارات لبنانية وعربيّة وإسلامية ودوليّة واسعة، تربط مستقبل شعوبها ودولها بسؤال بسيط متداول عالميّاً اليوم: هل يجدّد ترامب ولايته أم لا؟
أخرج من هذا السؤال الرسمي والشعبي، إلى مقولة علمية اعتمدتها، إن لم أكن مخطئاً، هي أن الدولة العظمى تطبع قناعات مواطنيها فتبدو مثلهم خاضعة بأفكارها وتطلعاتها إلى حجمها الجغرافي. إنّها فكرة محشوّة أيضاً بالإسقاطات والأحلام اللا واعية الكثيرة التي تسكن أحلام أبناء الإمبراطوريات المندثرة بهدف إعادة إحيائها من جديد.
فلنبق في أميركا: الأميركي لا يفكّر ويتطلّع إلى العالم إلاّ بشكل كبير.
أميركا هي الدولة العظمى الأكبر في العالم، وهي الأكثر إصابةً بجرثومة الكورونا، وهي الأكثر صلابةً أساساً وصاحبة الاسم الأكبر في العالم. ويعتبر الدولار الأميركي الذي يجنّن اللبنانيين اليوم، العملة المسيطرة على الإحتياطات النقدية في العالم، والأكثر استخداماً في المعاملات الدولية. وأكبر قيمة لفئة نقدية من الدولار على الإطلاق كانت 100000$ تمّت طباعتها باللون الذهبي للتعامل بين البنوك الفدرالية حصراً وليس للتداول بين الأشخاص. وداعمة أكبر وأعظم المنظمات الدولية التي تعاني التفتّت، بعدما سحبت أيديها منها وآخرها كانت منظمة الصحة العالمية في أصعب الظروف العالمية.
أليست أميركا صاحبة أكبر صحن أكل في العالم، وأضخم همبرغر، وصاحبة أكبر سيّارات فارهة في العالم، وصاحبة أكبر الجادات وأوسع الجسور، وأكبر الثلاجات في العالم، وأليس فيها سقط أعلى برجين بطائرات نسفتها لتصبح صورة القرن أو القرون، إنّها كسقوط برج بابل تبلبلت الألسن في العالم حيالها للمرّة الثانية، بعدما تبلبلت للمرّة الأولى في بلاد ما بين النهرين عندما سعى أهلها إلى الارتقاء للسماء؟
هل أبالغ إن كتبت، أنّ سقوط البرجين جعل أميركا دولةً صاحبة أكبر مصيبة في العالم، بالرغم من الأساطير والأسرار المدفونة تحت ركام البرجين والتي لم ينسحب دخان حرائقها بعد من الأجواء الدولية؟
كان من الطبيعي أن نعاين هذه العظمة وذاك الاعتداد الدولي الأميركي الصاخب، وتلك العناوين الكبرى عبر الغوص في تطلعات أساتذة الجامعات فيها وباحثيها ومفكّريها، يربطهم حبل صرّة سياسية وكأنّهم أحفاد أو أتباع ليو ستراوس، الصديق الحميم للويس براون صاحب المقاولات السياسية الأميركية الضخمة.
من هو ليو ستراوس؟
أستاذ جامعي من أصل يهودي، ترك المانيا النازية إلى أميركا (1940) كان محاضراً في جامعة شيكاغو، وأشرف على أطروحات الدكتوراه في الفلسفة التي حملت اسمه «الستراوسية» بفضل طلابه الذين تحمسوا كثيراً لأفكاره التي يرشح منها الفكر والسلوك السياسي الأميركي الذي قد يعاني منه الكثيرون في منطقتنا والعالم إلى درجة السؤآل عن سبب كراهية أميركا: why they hate us???
ما مختصر فلسفة ستراوس؟
1- الفلسفة سياسيّة: أعاد ستراوس الاعتبار للفلسفة بمعانيها التقليدية، بعدما كادت تفقد رونقها وعظمتها أمام ضحالة «الحداثة» وبهرجاتها وأفكارها الرخوة، تلك الأفكار الخاصة بالحداثة طوباوية برأيه، لذا فإن تخليص الفلسفة من براثن الحداثة التي فتحت نوافذ المعرفة للعاديين من البشر وقلّلت من شأن الفلاسفة والحكّام، يكون في جعلها مادةً كبرى تساعد في تكوين القرار السياسي العريق. إنّها شكل محرّف من تطبيق جمهورية إفلاطون المثالية حيث الحكّام والنخب في منظومة وكل ما عداهم من شعوب أميركية هم في الخارج لا يتدخّلون بالسياسة وهناك جيوش وأسلحة لحراستهم وفلش عظمتهم في الأرض والمحيطات والفضاءات.
2- الدين: إعتبره ملاط المجتمعات المتنوّعة وعقيدتها الأعلى خصوصاً العسكرية منها. فالناس لا يجازفون بأرواحهم إلاّ إذا كانوا موعودين بالجنّة، ولا قيمة لإشاعة الأخلاق والأفكار خارج دوائر العقيدة الدينية. الدين للعامّة من الناس. وعندما حصل إقتراح بسيط بإزالة الشعار المرفوع في العملة الأميركية، ثارت الناس في الولايات بالرفض. IN GOD WE TRUST
3- لا مكان للأخلاق في السياسة، بل كلّ الأمكنة مقبولة للخداع وفنون المراوغة والتسويف. تكاد تقتصر الحقيقة على النخب الحاكمة المؤمنة بمبدأ أنّ القوي يحكم الضعيف بحيث لا يجب أن تصل السياسات الى خواتيمها النبيلة إلاّ بعد جرّ القادة للدخول في محور الشرّ والاستغراق فيه. المصلحة مقدّسة والتعبير الشعبي الأميركي الشائع: لا شيء مجاناً أي:
Nothing is free
بهذا المعنى، أضيء على خمسة زوايا لامعة تقبض عليها نجمة الولايات المتحدة ولا تفلتها وهي تقرع أبواب العالم وفيه ومنه الشرق الأوسط: أسلحة الدمار الشامل، الإرهاب، التهريب الدولي وتبييض الأموال، الديمقراطية، الحرية ومسألة النظم السياسية. الحريّة هي الشعار المقدّس الذي لا يطبّق ويتطلّب أطروحات نقدية واسعة في السياسة العامّة. هذه الزوايا المضيئة معلّقة بسلسال «ذهبي» تُدخل أنظمة الدول وشعوبها أعناقها داخلها حلقات تلو حلقات، فتجد الناس والشباب يخرجون إلى الشوارع في العديد من دول العالم لتحيّة أميركا ومباركتها والبحث عن جامعاتها والعيش فيها والحصول على جواز سفرها ، بينما ترى بالمقابل شعوباً مسحوقة تخرج في التظاهرات فتحرق في الساحات الأعلام الأميركية وتتواصل بال آيفونات وغيرها من المقتنيات التي تصنعها المصانع الأميركية وتغرق بها أسواق العالم. ذاك الرفض وهذا القبول يدوران صاخبين حول مبادئ خمسة ثابتة: مبدأ حصر القوة بأميركا، السيطرة على ثروات النفط والغاز، حماية «إسرائيل»، الحؤول دون أي قوّة عظمى أخرى من الظهور، العبث بالقيم والأديان والأوطان لمصلحة القيم الأميركية.