بقلم الدكتورعماد عكوش
منذ بداية الثورة الصناعية والتي احتاجت الى الطاقة وبكميات كبيرة، كانت دول كثيرة تحاول السيطرة على لعبة الاسعار والإنتاج، سواء من خلال السيطرة على مناطق الانتاج ، أو من خلال السيطرة على قرار الدول التي تملك احتياطات كبيرة من هذه المواد أو تلك الدول الاكثر انتاجا” .
ما يجري اليوم ان هناك صراعا كبيرا على سوق الاستهلاك لهذه المادة ، وأكبر هذه الاسواق هو ثلاث أسواق : الاتحاد الاوروبي ، الصين ، وتلحق بهما الهند كسوق صاعد يحقق معدلات نمو كبيرة ،ويتوقع ان يكون الاقتصاد الثالث في العالم بعد الولايات المتحدة الاميركية والصين . كما ان هناك سلاحا يتم استعماله من قبل الولايات المتحدة الاميركية لفرض سياستها، وهو سلاح العقوبات والذي تم استعماله سابقا مع ايران ، العراق ، فنزويلا ، وروسيا لاحقا .
العقوبات على روسيا هي العقوبات الاكثر وضوحا لناحية الصراع الاقتصادي على سوق الاستهلاك، والذي بدأ مع فرض عقوبات على مشروع “نورد ستريم 2” لمنع وضع روسيا يدها على سوق الاتحاد الاوروبي كمصدر اساسي للطاقة ولا سيما الغاز الطبيعي الرخيص ، وبالتالي يحرم الولايات المتحدة من بيع غازها المسال والتي تعتبر الولايات المتحدة المصدر الاول في العالم لهذا الغاز ، وبالتالي يمكن ان يؤدي عدم وجود سوق لهذه المادة من ناحية الكميات والاسعار، الى مشكلة اقتصادية كبيرة في الداخل الاميركي .
اليوم برز هذا الصراع وتوسع ليشمل دول “أوبك بلاس” التي تضم أعضاء منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) ومنتجين من خارجها بينهم روسيا ،حيث عقدت الاجتماع الوزاري الثالث والثلاثين في فيينا ، والذي يعتبر أول اجتماع يعقد دون الاتصال بالإنترنت منذ عام 2020 . وفي نهاية الاجتماع ، قررت الدول المشاركة بالإجماع خفض الإنتاج اعتبارًا من نوفمبر من هذا العام ، بمتوسط 2 مليون برميل يوميًا على أساس إنتاج أغسطس ، وستستمر إجراءات خفض الإنتاج حتى ديسمبر 2023 .
وقد أدى هذا القرار إلى غضب إدارة الولايات المتحدة الاميركية ، والتي أعلنت أنها ستتخذ إجراءات مضادة . لكن الإجراءات المضادة للولايات المتحدة في ظل الظروف الحالية ضيقة، منها استخدام احتياطات النفط الاستراتيجية والتي هي ليست سوى قطرة في بحر ، وتحرير القيود المفروضة على استخراج الطاقة في الولايات المتحدة سيتعارض مع الفلسفة الحاكمة للحكومة الديمقراطية ، ومن غير المرجح أن يتم تمرير “قانون مكافحة احتكار إنتاج وتصدير البترول” على المدى القصير ، وبالتالي لا يوجد لدى الولايات المتحدة تقريبًا أي إجراءات حقيقية فعالة قصيرة المدى .
كما لا يفصل قرار خفض الإنتاج سوى شهر واحد عن انتخابات التجديد النصفي الأميركية . وبالنسبة لحكومة ديمقراطية تكافح للتعامل مع التضخم ، فإن خفض إنتاج “أوبك +” هو بلا شك أنباء سيئة ، وبالتأكيد يزعج بايدن كثيرا .
ما يزعج الولايات المتحدة في قرار كبار منتجي النفط أيضا” ، هو جعل العقوبات الغربية على روسيا غير مجدية . وبالتالي ستؤدي تخفيضات الإنتاج إلى ارتفاع أسعار النفط ، ما يجعل من الصعب خفض عائدات النفط الروسية ، وتحقيق الهدف الاساسي من العقوبات وهو أسقاط روسيا أقتصاديا ولاحقا سياسيا .
ومن السياسات التي اعتمدتها الولايات المتحدة الاميركية هي رفع أسعار الفائدة في الأشهر القليلة الماضية من قبل فدرال البنك ، وذلك لمواجهة حالة التضخم المحلي في الولايات المتحدة ، وقد أدى ذلك إلى تعزيز كبير لمؤشر الدولار الأميركي ، وفي الوقت نفسه ، انخفضت أسعار النفط بشدة . والسبب هو أن الدولار الأميركي أصبح أكثر قيمة بعد ارتفاع أسعار الفائدة ، وسعر النفط العالمي المقوم بالدولار الأميركي انخفض بشكل طبيعي . لكن تخفيضات إنتاج “أوبك +” الصارمة أدى الى تجاهل الضغط الأميركي .
وردا على إعلان أوبك بلس ، قال مسؤولو إدارة بايدن إن الرئيس سيأمر وزارة الطاقة بالإفراج عن 10 ملايين برميل إضافي من النفط من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي في نوفمبر ، في مقابل تصريح سابق ، قالت الإدارة فيه إنها لا تعتزم تمديد جهود استمرت ستة أشهر لإطلاق مليون برميل يوميا من الاحتياط ، والتي كان من المقرر أن تنتهي في نهاية شهرتشرين اول .
لا شك أن أوبك تلعب دورا كبيرا في السوق ، فهي تنتج أكثر من ٤٠٪ من النفط الخام في العالم ، وقد كانت هذه النسبة أكثر من النصف في بداية عقد السبعينيات، لكن النسبة الحالية ما زالت تمثل حصة كبيرة . إلا أن نسبة الـ ٦٠٪ المتبقية أيضاً تلعب دوراً كبيراً ، إذ توجد دولتان منتجتان للنفط خارج أوبك تحظيان بأهمية خاصة لأسباب مختلفة وهما : روسيا والولايات المتحدة ،لذلك فإن وقوف روسيا الى جانب دول أوبك يعطي مفعولا مضاعفا .
من ناحية أخرى أدى استغلال النفط الصخري الى الحد من تراجع انتاج الولايات المتحدة للنفط على المدى الطويل . لكنها لا تزال تحتاج إلى استيراد النفط ، حيث يمكنها تلبية ثلثي حاجاتها منه فيما كانت قبل حوالي عقد من الزمان قادرة على الايفاء بثلث حاجتها . هذا ويمكن للنفط الصخري أن يتكيف بسرعة أكبر مع تقلبات السوق النفطية . فهو لا يحتاج إلى استثمار واسع النطاق مثل النفط التقليدي . ويمكن للمستثمر استعادة ماله بسرعة أكبر ولذا يمكن زيادة إنتاج النفط الصخري بسرعة أكبر عندما تبدأ الأسعار بالتحسن، وقد كان النفط الصخري أحد الأسباب وراء الانخفاض الحاد في أسعار النفط بعد منتصف عام ٢٠١٤.
مع ذلك ما تزال أوبك تتمتع بنفوذ غير قليل ولكنها بعيدة جداً عن التحكم الكامل بسوق النفط العالمية . وعلى المدى البعيد ، ومع الجهود العالمية للتصدي للتغير المناخي يمكن ان يؤدي ذلك الى اعتمادنا بشكلٍ أقل على النفط ،عندها يصبح دور أوبك أقل أهمية.
يبقى أن نقول إن الشتاء يقترب وبدأ يدق أبواب أوروبا والنصف الشمالي من الكرة الارضية ، ومن المتوقع أن يشتد الصراع حول ارتفاع أسعار النفط والغاز . وستستمر اللعبة بين “أوبك +” والولايات المتحدة والغرب حول اتجاه أسعار النفط العالمية في التأثير على العالم ، في ظل التضخم الذي يقوض النمو الاقتصادي العالمي والصراعات الجيوسياسية التي تزيد من الازمة، وبالتالي فإن السؤال الدائم هنا هو هل ستستمر هذه اللعبة، وكيف ستنتهي ؟