د. عدنان عويّد – الحوارنيوز خاص
مدخل:
هناك غياب فاضح في مفهوم الدولة وآليّة تشكلها وطبيعتها وكيفيّة الوصول إلى قيادتها في عالمنا العربي، حيث لعبت القوى الحاكمة المستبدة دوراً كبيراً في التعمية على هذه القضية، لما لها من أهمية في تجهيل الشعب وإبعاد تفكيره عن دور وممارسات هذه القوى الحاكمة التي وصلت إلى قيادة الدولة والمجتمع دون وجه حق، وراحت عبر عشرات السنين تفرض وصايتها على الشعوب العربيّة، واعتبارها قاصرة غير قادرة على قيادة نفسها واختيار من يقوم بحكمها واختيار النظام الذي يحقق لها مصالحها، وذلك كله من أجل استمرار هذه القوى المستبدة في السلطة ونهب ثروات الشعوب واستعبادها باسم حقوق وهميّة كاذبة لا تمت إلى الحقيقة بصلة. وبناءً على ذلك تأتي دعوتنا إلى ضرورة طرح مفهوم الدولة وكيفية تشكلها ومن هي القوى الشرعية المناط بها قيادة هذه الدولة وعودتها إلى حضن الشعب بعد أن استلبت منه مئات السنين بوجه غير شرعي.
في المفهوم:
الدولة في مفهومها العام، هي مجموعة كبيرة من الأفراد، يُمارسون نشاطهم على إقليم جغرافيّ محدد، ويخضعون لنظام سياسيّ معين مُتفق عليه في ما بينهم يتولى شؤون إدارة حياتهم الداخليّة منها والخارجيّة. أي تشرف الدولة على أنشطة تمارسها مكونات الدولة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، تهدف إلى تقدم هذه المكونات وازدهارها وتحسين مستوى حياة الأفراد داخل هذه الدولة. وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول، وإن اختلفت أشكالها.(1). وللدولة سياق تاريخيّ، فهي لم تتشكل وفق إرادات ورغبات ونيات حسنة لشخصيات أو قوى اجتماعيّة من خارج تاريخ الممارسة الاجتماعيّة، أي من خارج التناقضات والصراعات الدائرة بين القوى الاجتماعيّة عبر مراحل التاريخ. فالدولة نشأت بعد ظهور الملكيّة الخاصة وانقسام المجتمع إلى مالك ومنتج. أي نشأت وسط هذا الصراع، ومن الحاجة لضبط عمليّة الصراع الطبقيّ وقوننته، لتكون بالتالي دولة الطبقة الأقوى التي امتلكت المال أولاً، وفيما بعد السلطة والمال معاً. أي الطبقة التي امتلكت القوة الاقتصاديّة التي منحتها القدرة للسيطرة على السلطة السياسيّة. أي السيطرة على مقدرات الدولة التي ستمنحها وسائل جديدة للسيطرة على بقية مكونات المجتمع واستغلالها. وعلى ذلك فقد كانت الدولة في النظم القديمة، هي دولة مالكي العبيد للسيطرة على العبيد، كما كانت الدولة الإقطاعيّة، أي القوى الأرستقراطيّة للسيطرة على رقيق الأرض من الفلاحين والتابعين، كما كانت الدولة النيابيّة الحديثة وهي أداة رأس المال لاستغلال العمل الأجير.(2). وفي معظم الحالات التاريخيّة تتناسب حقوق المواطنين مع ثرواتهم، بغض النظر عن شكل الدولة، ملكيّة كانت أو جمهوريّة أو دينيّة، أو بغض النظر عن مضمونها أيضاً دكتاتوريّة كانت أو استبداديّة أو دستوريّة ديمقراطيّة، أو شموليّة أو اليغارشيّة. (3) . إن كل ما جئنا إليه هنا يؤكد إذاً، أن الدولة هي تنظيم عمل مؤسسات وجدت باسم القانون شرعته الطبقة الحاكمة بهدف تنظيم العلاقات القائمة في بنية المجتمع والدولة معا، بغض النظر هنا عن طبيعة القوى الحاكمة ومصالحها، والدولة الحديثة لا تخرج عن هذا السياق.
الدولة الحديثة:
أشهر منظري الدولة الحديثة:
نيكولا ميكافيلي (1469-1527): وهو مفكر إيطالي، يعد الدولة سلطة مركزيّة السيادة، وبالتالي هي قادرة على تنظيم الروابط بين السلطتين الروحيّة (رجال الدين) والزمنيّة (الحكام). ويعتبر ميكافيلي من أشد المنتقدين للكنيسة الكاثوليكيّة، ويؤكد على الفصل التام وفقاً لتعبيره بين “الله والعالم”،أي بين الدين والدولة.
جان بودان (1529-1596): حيث يعتبر وجود السلطة العامة بوصفها نظاماً موحداً شرطاً لوجود الدولة، التي تشكل – أي الدولة – مقر السلطة السياديّة.
جان جاك روسو :1712 – 1778 ووفقا لروسو، يستطيع الأفراد الحفاظ على أنفسهم والبقاء أحرارا من خلال الانضمام إلى المجتمع المدني عن طريق العقد الاجتماعي والتخلي عن مطالبهم بالحق الطبيعي، ويحدد كتابه العقد الاجتماعي الذي نشر عام 1762 بالسطور الافتتاحية المثيرة: «يولد الإنسان حرًا وهو مقيد في كل مكان. إن أولئك الذين يعتقدون أنفسهم سادة الآخرين هم في الحقيقة عبيد أكبر منهم». وإن الخضوع لسلطة الإرادة العامة للشعب ككل، يضمن للأفراد عدم الخضوع لإرادة الآخرين ويضمن أيضًا طاعتهم لأنفسهم بشكل جماعي لأنهم هم من وضعوا القانون.
كارل ماركس (1818-1883): مفكر ألماني، يرى في الدولة ممارسة العنف، وأداة للقمع لتحقيق مصالح الطبقة الحاكمة، وينبغي التخلص منها بعد فترة قصيرة من ديكتاتوريّة البروليتارية. فبزوال الصراع الطبقيّ واستغلال المالك للمنتج تزول الدولة.
ماكس فيبر (1864-1920): عالم اجتماع ألماني، يرى الدولة مؤسسة، في إقليم معين، لديها احتكار العنف الجسديّ الشرعيّ. ويعني ذلك أن على الأفراد التعرف على سلطة الدولة والموافقة على طاعتها. (4).
إن الدولة الحديثة وفقاً لرؤى هؤلاء الفلاسفة، هي الدولة التي خرجت من سلطة الملك والنبلاء والكنيسة، لتدخل عالم الشعوب، بيد أن سياسات الحكومات الداخلية والخارجية في الدولة الحديثة أي دولة القانون، يجب أن تخضع لقواعد ثابتةٍ وأكيدة أقرها القانون أو الدستور الذي يوافق عليه الشعب، كما أن هذه السياسات ستخضع بالضرورة للأفراد الذين يستطيعون المطالبة باحترام هذه القواعد عن طريق إثارة حقوقهم، أمام قضاةٍ مستقلّين. ثم إن القواعد العامّة للتضامن الاجتماعيّ والرقابة الاقتصاديّة والمواطنة وتأكيد الحريّة والمشاركة السياسيّة وغير ذلك من القضايا التي تهم الفرد والمجتمع التي وضعها المشروع الحديث (الدستور)، لا تستطيع أن تستوعب كامل قيمتها إلا إذا كانت الأطراف المعنية قادرةً على تفهُّمها واستعمالها والإفادة منها، وبهذا الشرط وحده لا تعود الدولة مجرّد آلةٍ للشعبويّة أو الدكتاتوريّة. وبناءً على ذلك تبدو فكرة الدولة الحديثة ذات اتجاهَين رئيسَين:
الأول: هي السلطة العليا الرفيعة الشأن، التي تتولّى ممارسات التحكيم الأعلى بين مختلف القوى الاجتماعيّة المكونة للمجتمع، والتي جاءت برضى الشعب.
وثانياً: هي تمثّل كل هذه المكونات في وحدتها.
وإلى هذا، فإن الدولة الحديثة بوصفها مالكة القدرة على التحكم بكل شيء، فهي لا تعيش إلا في ذهن خدامها، أي إنها موقف فكريّ وعمليّ معا، أي هي موقف فكريّ يعيش في عقل مكوناتها الاجتماعيّة، على أنها وحدها من يستطيع تحقيق التوازن وتأمين العدالة بين الناس، وهي موقف عمليّ ممثلة بمؤسساتها التي تمارس ما يسعى الناس إلى تحقيقه من توازن في حياتهم العمليّة. (5).
صفات الدولة الحديثة:
تبعًا للتحولات التي طرأت في مجال العلوم السياسيّة المعاصرة، دخلت مجموعةٌ من الصفات أضفيت إلى مفهوم الدولة الحديثة. نعرض أبرزها على الوجه التالي:
أولا: لا يمكن فهم الدولة الحديثة إلا بوصف كونها منجزًا غربيًا أوروبيًا. بمعنى أنها نتاج التحولات الاقتصاديّة والسياسيّة والتقنيّة والمعرفيّة الأوروبيّة التي فرضتها الثورة الصناعيّة ،وتشكل الطبقتين البرجوازيّة والعماليّة وما حققته هاتان الطبقتان من انتصارات على الدولة التقليديّة، دولة الملك والنبلاء والكنيسة، ولا ننسى ما أضافته حركة التنوير ممثلة بقادتها روسو وفولتير ومونتسيكو وهيوم ولوك .. وغيرهم على فكرة الدولة بعد الثورة الفرنسية (1789)، حيث ساهم هؤلاء المنورون في تشكيل الدولة الحديثة وإعطائها التبرير الإيديولوجيّ والقانونيّ المطلوبين لتشكيل نموذج سياسيّ ثقافيّ جديد.
ثانيًا: تنبني الدولة على فكرةٍ «إرادة التمثيل »، بمعنى أن الأمّة التي تجسِّد الدولة، أو تمثل مصالحها الدولة، هي وحدها صاحبة إرادتها ومصيرها عبر ممثليها المنتخبين لإدارة شؤونها، وبالتالي هي – أي الأمة – التي تمتلك السيادة على نفسها، وحتى تكتسب السيادة مدلولًاً حقيقيًا داخل الدولة، لا بد لهذه السيادة من أن تؤسّس أو تشرع قوانين لفرض السلطة أو الحكم،حتى يعطي معنىً حقيقيًا لهذه السيادة.
ثالثًا: يمثّل القانون إذاً تعبيراً عن الإرادة السياديّة للأمة، لدرجة أن الإرادة السياديّة تتوقّف عن العمل إذا ما أعلنت الدولة رسميًا أن بلدًا أو كيانًا آخر هو من يزوّدها بالقانون أو يتحكم بشؤونها الداخليّة والخارجيّة. وإذا كان فرض القانون يحسب تحقّقًا للإرادة السياديّة للأمة داخل مؤسسات الدولة، فإنّ إرادةً من غير أداة قسرٍ تدعمها ليست قوّةً أو سلطةً على الإطلاق، ما يجعل العنف (ضرورةً) في فهم ظاهرة الدولة واستقرارها وتنفيذا لمهامها إذا اقتضت الحاجة. ومن هنا ترسم أو تقونن الدولة وحدها حدود العنف، ونوعه ومستواه اللذين تحدّهما معاييرها أو قوانينها. فالدولة هي الفاعل الأعلى في تشريع العنف الذي يطبّق على الخارجين على إرادتها، أي إرداة الأمة أي الشعب، وهي المالكة للحق الحصري في ممارسته.
رابعًا: إن النظام الإداري جزءٌ أساسيٌ من بنية الدولة الحديثة، وهو امتدادٌ للنظام القانوني للدولة، وإن النظام الإداري يمتلك سلطةً ملزمةً لأفراد الدولة (المواطنون) ولكل ما يقع ضمن إقليم السيادة. كما يتميّز هذا النظام بنوعٍ عقلانيٍّ من السيطرة، وتتّسم هذه السيطرة بالطوعيّة والتنظيم، وتتضمّن سمة الطوعيّة الأساس العقلانيّ. بمعنى أن التنظيم السياسي مقرّر بقواعد عقلانيّةٍّ غير خاضعةٍ لعُرفٍ أو مرسومٍ دينيّ أو سلطة فرديّة، أو أي سلطة خارج الإرادة الشعبيّة. أي إرادة الأمة .
خامسًا: تكمن قوّة أي دولةٍ وتماسكها في قدرتها على تنظيم المجتمع والتوغل فيه ثقافيّاً، أي خلق وعي فرديّ وجماهيريّ بدور الدولة وأهميتها ومكانتها وبالتالي الالتزام بتطبيق قوانينها. ولأن الدولة هي صاحبة السيادة والإرادة السياسيّة التي منحها لها الشعب بإرادته وفق عقد اجتماعيّ صوت عليه الشعب، فلا يمكن لأي وحدةٍ أو كيانٍ في الدولة أن يتمتّع بأي سلطةٍ مستقلةٍ ذاتياً. فالكيانات الداخلية والبنى العضويّة، مثل العشيرة والقبيلة والطائفة، أو التنظيمات بكل أشكالها كالحرفيين والجماعات الدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، تؤثّر في القرار السياسيّ والتنظيم الاجتماعيّ إذا كان لها وجود مؤثّر، كما أنها تؤثّر في درجة ولاء الفرد للدولة والمواطنة، ولذلك تسعى الدولة الحديثة (الديمقراطيّة – المدنيّة) إلى تحييد هذه البنى العضويّة والمتحدات الاجتماعيّة من أجل توجيه ولائها للدولة وتنمية الفرد والمجتمع, (6).
سادسًا: يسود الاعتقاد بأن العمود الفقريّ للحكم الديموقراطيّ يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، حيث تحقّق كل سلطةٍ استقلالها ولا تطغى إحداها على الأخرى، فتستقل السلطة التشريعيّة بسَنّ القوانين، وتقوم السلطة القضائيّة بتفسير هذه القوانين، بينما تعمل السلطة التنفيذيّة على تطبيقها، وعلى ذلك ينظر لمبدأ الفصل بين السلطات على أنّه شرطٌ لكي تصبح الدولة دستوريّةً وديموقراطيّة.
سابعاً: إن الدولة الحديثة الديمقراطيّة، هي دولة علمانيّة بالضرورة، أي هي دولة مدنيّة، تقوم على المؤسسات والمواطنة والتشاركيّة وتداول السلطة والتعدديّة، وأي قوى اجتماعية تحاول التفرد بسلطتها بشكل غير قانوني، هي قوى خارجة عن إرادة الدولة أي إرادة الشعب/الأمة، الأمر الذي سيجعلها تُحَوّل هذه الدولة إلى دولة شموليّة دكتاتوريّة تعمل لخدمة مصالح أنانيّة ضيقة، كالعمل على خدمة طائفة أو مذهب أو عشيرة أو قبيلة أو حزب أو أسرة أو قائد فرد مستبد. أي إلى دولة تقودها عصابة.
*كاتب وباحث من سوريّة.
الهوامش:
1- الويكيبيديا.
2- (للاستزادة في معرفة أصل الدولة، راجع كتاب أنجلز – أصل نطام الأسرة والدولة والملكية الفردية – فريدريك انجلز – الناشر مؤسسة هنداوي – المملكة المتحدة لندن.).
3- (للاستزادة في هذا الموضوع رجع موقع موضوع عن أنواع أنظمة الحكم. وكذلك موقع (مقال). أنظمة الحكم في العالم – بقلم ليلى جبريل – نوفمبر 26، 2021.).
4- راجع موقع – (رائج). مصطلح الدولة الحديثة. تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019. وحول روسو راجع الويكيبيديا.
5- (للاستزادة في مفهوم الدولة الحديثة، راجع كتاب (الدولة فلسفتها وتاريخها من الاغريق إلى ما بعد الحداثة). محمود حيدر- المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية. ص91 وما بعد).
6- (للاستزادة في هذا الاتجاه راجع كتاب (الدولة فلسفتها وتاريخها من الاغريق إلى ما بعد الحداثة). محمود حيدر- المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية. المرجع نغسه. ص 80 وما بعد.)