فَلْيصْمد الجسر ولْتَجْهل لماذا !
حيّان سليم حيدر
عن إطلالات الوزراء بشكل خاص وسائر المسؤولين، رؤساء ونواب وموظفون، غالبية وزراء اليوم والأمس وما قبل الأمس، منهم مَن يشرح لماذا هناك أزمة في الكهرباء، ومنهم مَن يُفنّد أسباب فقدان مادة المازوت والفيول، والآخر عن الحلول للنفايات، أو المياه المبتذلة أو تلك التي لم تُبْتذل بعد، إلى معضلة الإتصالات، ناهيكم عن موضوع التعيينات، فإلى تبريرات تصاعد سعر الرغيف واختفائه مع وزنه من الأسواق، إلى إنفلات سعر صرف الليرة وفقدان الدولار ومن ثم التخبّط في الأرقام وسوق الصرّافين، وكلّها مبنية على معلومات وردت ومنها لم ترِد بعد أو لَنْ ترِد. وما أدراكم بتضارب صلاحيات الأمن بالقضاء أو معه، إلى تبعثر قرار السياسة الخارجية، وطبعًا إلى ذروة العُقَد تلك المُناط بها تفسير مواد الدستور والصيغة ("اللمّاعة") ومفاهيم الميثاقية، إلى.. ما لا نهاية من المآسي.
واللبناني مع كلّ هذه وبسببها ربّما لم يعد مِهَنيًّا في كثير من أعماله من كثرة إنشغاله بأن يصبح خبيرًا في تفاصيل طاقات مصانع الكهرباء، كلّ على حدة، وفي طاقة تخزين كلّ منها بالفيول (ليست جمع فيل) والمازوت وأين ذهب، وبسعر فرز النفايات وكلفة جمعها وموقع وطاقة معامل الفرز وما إذا هي مستعملة لحد طاقتها المتاحة وإلى مواقع المكبّات. هذا إلى جانب كلفة صنع الرغيف من القمح فالطحن وسعر كيس البلاستيك إلى شريط الربط والتوصيل. وهو بات المَرْجع في مكوّنات الحصّة الغذائية ومكامن الإحتكار (متلازمة الإحتقار) لكلّ مادة ولكلّ مستفيد ومن عدم ثقة "الدولة" (وينيّة؟) بأجهزتها أي بنفسها إلى… والأمر لا ينتهي، ولن. ومنها إلى كَيْفية الوصول إلى الأرقام الكبرى لدى أهل الحساب في الإدارات واللجان البرلمانية والمصارف وصندوق النقد. وبعد كلّ ذلك، ينبري المسؤول (والامسؤول) ليقول أنّ الحلّ (مع الخارج) هو في إستعادة الثقة. وقد بشّرتم، فباشروا بأنفسكم !
يجري هذا كلّه من على المنابر والشاشات فيطلّ المسؤول مخاطبًا الشعب برصانة الأستاذ الجامعي المتحكّم بمادّته، بدقّة الباحث في المختبر، برقّة الباحث الإجتماعي، بخبرة قاضي التحقيق، بحنكة سياسة "المصيبة مصيبة" (المعروفة سابقًا بالخطوة خطوة(1))، بإنتهازية "فاوضه تحت الضغط" (المعروفة بمقولة "أضرب الحديد وهو حامٍ")(2) بالمنهجية الإستراتيجية المعروفة ب "قاوم قاوم، فاوض فاوض"(3)، بإحتيال "إكذب إكذب" حتى يصدّقوك (4).
وجلّ هذه المواضيع باتت من نوع "البحث عن حلولٍ لِلّامشاكل"، أي بما يُعْرف بالأجنبي:
Solving non-problems.
في ربيع العام 1964، وأنا أتحضّر لمغادرة الصفوف الثانوية إلى المدرّجات الجامعية، وفي غياب الأهل في مهام دبلوماسية في الغربة، قصدت خالي، المدير العام والسفير، عضو البحوث العلمية والخبير لدى المنظمات العلمية الدولية وكبرى شركات الإستشارات العالمية، قصدته للأستئناس برأيه، وهو خرّيج جامعات فرنسا العلمية الكبرى، كون لغتي العلمية كانت الفرنسية، وكنت أنوي التخصّص في الهندسة، فاختصر لي الوضع، يومذاك، بحالتين إثنين إذ قال: هناك في فرنسا ما يسمّى بالمدارس الكبرى Les Grandes Ecoles في عالم الهندسة وأشهرها الإسمان ….
وباختصار، فخرّيج الجامعة الأولى ذي الإسم الطنّان هو من النوع الذي يبني لك جسرًا، متقدّم التصوّر، فائق الجمال، وبعد حين، ينهار الجسر، فينبري المهندس دارسًا خلفيات الكارثة، جامعًا الدلائل، واضعًا المؤشرات، شارحًا بتميّز المتفوِّق وفي "أبهى" تعابير التفسير "لماذا إنهار الجسر". أمّا خرّيج الجامعة الثانية ذي الإسم العلمي المتواضع، فيبني لك جسرًا، عمليًّا، بشكل عادي بسيط، ويخدم الجسر وظيفته لأجيال وأجيال ولا ينهار، والمهندس لا يعلم السبب، والناس لا تهتم !.. فماذا تختار؟
وفي النهاية، وأمام هذه المعضلة (اللغز)، وربّما بسببها، رأيتني أذهب إلى جامعة لندن، ولغتي الدراسية الثانية لم تكن حائلًا دون ذلك، ولكن هذه قصّة غير ذي صلة..
الحكماء والأذكياء:
في خضمّ المطالبة بعد "تشرينية لبنان" بحكومة تكنوقراط أو إختصاصيّين أو مستقلّين، صنِّفْهم كما شئت، كنت قد كتبت مقالة بعنوان "حكومة "فإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أخلاقُهم … ذَهَبوا !" (22-11-2019) وفيها بعض المواصفات الأخلاقية المطلوبة لحكومة ما بعد الإنتفاضة، لا بل لأيّ حكومة. أراني أضيف على ما جاء فيها أنّنا نحتاج، وفي كلّ وقت وحتى صلاح الأمور، إلى حكومة حكماء مُحاطين بمستشارين من الأذكياء، وذلك تطبيقًا للمقولة – القاعدة أنّ: "الذكي يعرف كيف يخرج من مأزق لم يكن الحكيم ليدخل فيه". وهل فهمنا؟ كفانا أذكياء!..
أيها المؤمنون. هل ورد إلى ذهنكم أنّ الربّ ربّما أرسل الكورونا إلى البشر كمًّا لأفواه المتفوّهين السافرين؟ وفي هذا السياق أقترح عقابًا لهؤلاء المتفوّهين مفاده أن يُجْبَروا على الإستماع، كلّ يوم، ولساعات مكرّرة، إلى تصريحات لهم ولأسلافهم ولأعوانهم ولأخصامهم… إلى يوم صلاح الأمور.
أيّها الوزير…(الرئيس، النائب، المسؤول، إلخ…) … الشعب يريدك أن تبني له جسرًا عاديًّا جدًّا ليقوم بوظيفته وأن تجهل أنت لماذا بقي صامدًا ولا يريد منك أيّما تفسير، مهما برع وبلغ، لماذا إنهار الجسر الجميل (كما الأحلام الجميلة) الذي بنيته أنت أو بناه أسلافك!.. هل هذا طلب معقد؟ هل هذا طلب مستحيل؟.
بيروت، في 21 تموز 2020م. حيّان سليم حيدر
من جمعية بناة الجسور
______________________________
— (1) هنري كيسينجر Henry Kissinger – (2) فيليب حبيب Philip Habib – (3) هو شي مينه Ho Chi Minh – (4) جوزف غوبّلز Joseph Goebbels