قطع حساب موازنة 1997:فات أوانه وانعدمت منفعته وبقي الإبراء مستحيلاً*
كتب غسان بيضون*
أخيراً وبعد طول انتظار، صدر تقرير ديوان المحاسبة حول قطع حساب موازنة 1997 وأحيل إلى مجلس النواب، وقد رافقته أخبار ومبالغات عن إنفاق مبالغ بمليارات الدولارات دون توفر اعتمادات لها في الموازنة، وأطلقت مواقف وصدرت تعليقات وتوقعات متسرعة تتجاوز حقيقة هذا "الإنجاز" وأهميته، فبدا وكأنه انتهى إلى الإجابة على الأسئلة والشكوك المتعلقة بالإنفاق الذي أدى إلى انهيار المالية العامة، وحسم مسألة "الإبراء المستحيل"، أو قدم الأدلة الكافية للإطاحة بـ "رؤوس كبيرة، فيما أفضل ما يمكن أن يكون ديوان المحاسبة بنتيجة تدقيق حسابات 2017، وفقاً لصلاحياته، هو بالدرجة الأولى التحقق من صحة معالجة ميزان الدخول الذي أعاق انتظام حسابات المالية العامة واكتمالها حتى اليوم، وبعدها وضع الملاحظات حول قطع حساب موازنة 2017 وتحديد نتيجته الصحيحة. فهل يمكن أن يكون تقرير ديوان المحاسبة هذا قد انطوى فعلاً على موقف حاسم من سلامة معالجة الحسابات القديمة وانطباق استعمال وإدارة الأموال العمومية على القوانين أو من براءة أو إشغال ذمة المعنيين بهذه الإدارة والاستعمال، وإصدار بيانات المطابقة التي يمكن أن يستند إليها مجلس النواب لإعادة النظر بقانون قطع حساب موازنة 2017، الصادر بالرقم 108 تاريخ 23/7/1999، "مع الأخذ بعين الاعتبار التعديلات التي قد يقرّها ديوان المحاسبة لاحقاً في حال وجودها" ؟
إن أهمية قطع حساب موازنة 1997 ترتبط، من جهة، بإمكانية انتفاع السلطة التشريعية من نتائج رقابة ديوان المحاسبة وملاحظاته عليه، لو أنه ورد مكتملاً وشاملاً ومدققاً في موعده بحيث كانت هذه السلطة لتبني موقفها من مشروع موازنة 1999، المعروض عليها معه. ومن جهة أخرى بدقة وصحة أرقامه، المفترض أن تتوازن معها الوضعية المالية للخزينة بما لها وعليها بتاريخ 31/12/1997.
وبالعودة إلى المادة 65 من قانون موازنة 2017، رقم 66 المنشور بتاريخ 7/11/2017، يتبين أنها أوجبت على الحكومة، و "على سبيل الاستثناء ولضرورات الانتظام المالي … إنجاز جميع الحسابات المالية المدققة منذ 1993 وحتى سنة 2015 ضمناً خلال فترة لا تتعدى السنة من تاريخ نفاذ هذا القانون ، وإحالة مشاريع قوانين قطع الحساب عن السنوات التي لم تقرّ فيها إلى مجلس النواب، عملاً بالأصول الدستورية والقانونية المرعية." وبالتالي فإن انتفاع السلطة التشريعية من قطع حساب 2017، يكون قد فات أوانه اليوم لتأخر ورده إليها مع ملاحظات ديوان المحاسبة عليه ضمن المهل والأصول القانونية والدستورية، والتي كان يفترض، لو أنها وردن في الوقت اللازم أن تساهم في توفير رأي موضوعي حول دقة نتيجة تنفيذ موازنة 2017 وتحديد قيمة عجز الموازنات المتراكم حتى نهاية هذه السنة ، وحقيقة قيمة وهيكلية الدين العام المترتب بالمقابل ، بمختلف صيغه وأشكاله ومصادره وعملاته وتطوراته واستبدالاته واستحقاقاته. . هذا فضلاً عن أن قطع حساب 1997 لم تشمله المادة 65 المذكورة كونه سبق وأقرّ بموجب القانون رقم 108/1999، وأن أعمال الفريق الخاص المشكل برئاسة مدير المالية العام لإعادة تكوين وتصحيح وتدقيق الحسابات المالية، العائدة للسنوات السابقة اعتباراً من 1993، قد استغرقت سبع سنوات لتنتهي خلال العام 2018، دون تطبيق الآلية المذكورة المنصوص عليها في القانون، ودون إنجاز حسابات السنوات من 1993 ولغاية 1996 ضمناً، واقتراح استصدار قانون جديد يعفي من أعداد حسابات هذه الفترة، بحيث بقي موضوع ميزان الدخول الذي توصل إليه هذا الفريق التدقيق دون تطبيق الآلية معلقاً، الأمر الذي يطرح التساؤل حول موقف ديوان المحاسبة من المنهجية المعتمدة ونتائج تطبيقها وما إذا كان يمكن تجاوزها والأخذ بها على مسؤولية وزارة المالية، وهل أن الأمر سوف يستدعي نقاشاً إن لم نقل جدلاً في لجنة المال والموازنة والهيئة العامة خلال مناقشة تقرير ديوان المحاسبة حول قطع حساب موازنة 1997، وهل أن مناقشة تقرير ديوان المحاسبة سوف تكون مناسبة لإعادة طرح مسألة التجاوزات والمخالفات الدستورية والقانونية الجسيمة الحاصلة في الإنفاق خلال السنوات السابقة، لا سيما وأن هذه التجاوزات والمخالفات والتقصير قد ساهم في استمرار الغموض حول حقيقة أوضاع المالية العامة التي انتهت إلى تراكم وتفاقم عجز الخزينة ومديونية الدولة وإلى الانهيار المالي الذي وصلت إليه الدولة والاقتصاد، بنتيجة الفوضى المالية التي استمرت اعتباراً من العام 1980 وتخلله إنفاق غير دستوري في غياب الموازنات من 2006 ولغاية 2016، وصولاً إلى العام 2017حيث صدر قانون موازنتها في تعبير واضح على النجاح في إعادة الانتظام إلى المالية العامة، حيث تكشفت المصائب ودخلت البلاد في طور الانهيار بمختلف أشكاله.
إن أهمية انتظام المالية العامة ومخاطر مخالفة أحكام الدستور وقانون المحاسبة العمومية وقانون إنشاء وتنظيم ديوان المحاسبة مرتبطة، كما هو الحال في شؤون المال الخاص، عندما تنفصل ملكيته عن إدارته والتصرف به، بوضع قواعد وضوابط تحكم تداوله والتصرف به لحفظه وحمايته من أي ضرر يمكن أن يلحق به. وتنتهي بتقديم حساب يلخص نتائج تلك الإدارة وذلك التصرف، فكيف عندما يكون المال عاماً تعود ملكيته للشعب الذي انتخب نواباً انتدبوا وزيراً للمالية يديره عنهم ولمصلحتهم. ولهذه الغاية نص الدستور على إنشاء ديوان المحاسبة وأولي مهمة السهر على الاموال العمومية والاموال المودعة في الخزينة ومراقبة استعمال هذه الاموال ومدى انطباق هذا الاستعمال على القوانين والانظمة المرعية الاجراء، وبالفصل في صحة وقانونية معاملاتها وحساباتها، وبمحاكمة المسؤولين عن مخالفة القوانين والانظمة المتعلقة بها. وأوجب تقديم حسابات المالية العامة ونتائج تنفيذ موازناتها، إليه سنوياً ليتولى تدقيقها ووضع ملاحظاته عليها قبل إقرار موازنة جديدة يأذن فيها للحكومة مجدداً بتنفيذ موازنة جديدة.
ها نحن اليوم أمام أخطر وضع مر على دولة لبنان منذ نشوئه بنتيجة الفوضى والعبث المالي الذي استمر طويلاً في غياب الرقابة والتحايل على القوانين والتقصير واستغلال نتائج هذا الوضع، لا فرق أكان ذلك عن سوء أو حسن نية، طالما أنها أدت إلى ما أدت إليه. وفي ظل انهيار المالي الكبير والخطير الحاصل بنتيجة الفوضى في إدارة المالية العامة وغياب الرقابة على مدى أربعين عاماً، تفاقمت خلالها مديونية الدولة وارتفعت إلى مستويات أدت إلى تعليق الوفاء بالتزاماتها، فهل من جدوى بعد من تحديد نتائج تنفيذ موازنة كل سنة من السنوات الماضية على حدى، طالما أن هذا العجز قد انعكس في مديونية الدولة وأن فرق وزارة المالية قد أنجزت ما تمكنت من إنجازه من الحسابات وإنما بحدود ما توفر من مستندات وأجري من تصحيحات بنتيجة التدقيق الذي أجرته، والتي تفاوت اكتمالها ودقتها بموازاة العودة تدريجياً إلى الانتظام، والذي يفترض أن يكون وصل إلى مستوى معقول بنتيجة التدقيق وما نم اكتشافه من أخطاء أدت إلى تصويب عمل النظم المحاسبية وأداء الموظفين المعنيين بتطبيقها إلى حد يقل معه احتمال وقوع الأخطاء إلى مستوى معقول ، وأن تراكم العجز قد انعكس في مديونية الدولة، بحيث تبقى المعالجة الأجدى هي بالتركيز على مكوناتها وخطة معالجتها بعد الاعتراف بكامل مكوناتها، أكانت مسجلة في المحاسبة أم بحكم الديون "المستحقة" غير المدرجة في الحسابات.
ويبقى الإجراء الأهم والأشد إلحاحاً هو أن تشمل مهمة التدقيق الجنائي الموعود، على سبيل المثال لا الحصر :
لدى مصرف لبنان، الهندسات المالية وآلية اصدار سندات الخزينة واليوروبوند وقواعد تحديد الفوائد واحتساب قيمة المبالغ المسجلة على حساب الخزينة من خدمة الدين العام، والتحويلات إلى الخارج الجارية اعتباراً من ٢٠١٦، والنتائج المالية السنوية المتراكمة للمصرف وتحليل مكونات هذه النتائج وتحديد قيمة موجوداته والتزاماته بمختلف مكوناتها المادية والمالية.
لدى وزارة المالية، المبالغ المصروفة على محروقات كهرباء لبنان ومشاريعها وعمليات شراء هذه المحروقات وتكلفتها وحصة كهرباء لبنان منها، وحسابات مخزون المؤسسة منها واستخدامه، مقابل الكهرباء المنتجة والمبالغ المحصلة وقيمة الإصدارات والهدر غير المفوتر والمبالغ غير المحصلة بعد من مبيع الطاقة، إضافة الى المحاسبة مع البواخر وشراء قطع الغيار من الشركات الصانعة، وعلى مشروع مقدمي الخدمات والعقود بالتراضي للتشغيل والصيانة والمبالغ المدفوعة على لاستشاريين واليد العاملة، والأصول التي تملكها المؤسسة وحقيقة أوضاعها المالية، بموجوداتها والتزاماتها وخسائرها اعتباراً من ١٩٩٧.
ولدى وزارة الطاقة والمياه أسباب ونتائج وتكلفة الفشل في تنفيذ خطة الكهرباء وإنشاء معامل الإنتاج في دير عمار والذوق والجية، وما ترتب عنها من خلافات ودعاوى تحكيم، إضافة إلى "مناقصات" البواخر ومقدمي خدمات التوزيع وتكلفة عقودها وقانونية تمديدها، وغيرها من التلزيمات المتعلقة بالتوظيف المقنع في المؤسسات الخاضعة لوصاية هذه الوزارة، وباستثمار قطاعات الطاقة غير التقليدية الجارية خارج إدارة المناقصات ومن منصات هيئات لا كيان قانوني لها ولا صلاحيات ولا أنظمة مالية تحكم أصول المناقصات وتحدد ضوابطها.
ولدى وزارة الاتصالات، عقود التشغيل مع شركتي الخليوي وتنفيذها ونتائجها المالية وتكلفة التوظيف فيها وجدواه.
ولدى الوزارات والهيئات المعنية بشؤون النفايات وتكلفتها.
انتهى
لإيضاح أسباب أزمة تعذر وتأخر إعداد حسابات المالية العامة على مدي أربعين سنة، نضيف إلى المقال الفقرة التالية:
لبيان أهمية انتظام الرقابة على المال العام وجدواه، مقارنة بحالة الفوضى وعدم الالتزام بمقتضياته، نذكّر بأن ديوان المحاسبة أنشئ العام 1951 وباشر مهامه ورقابته على الحسابات وتنفيذ الموازنة وقطع حسابها، وكان أن صدرت آخر وضعية مالية تبين ما للخزينة وما عليها للخزينة بتاريخ 31/12/1979، المتوازنة على القرش، بحيث بلغ مجموع الموجودات 5،576،126،005،72 ل.ل. منها عجز مال الاحتياط البالغ 1،296،466،902،66ل.ل. و يقابلها مجموع المطلوبات بذات القيمة 5،576،126،005،72 ل.ل من ضمنها قروض بقيمة 2،005،100،146،01 ل.ل. وسندات خزينة بقيمة 424،073،737،946،81 ل.ل.
اعتباراً من العام 1980، انقطعت أجهزة وزارة المالية من بعدها عن إعداد حسابات المالية العامة السنوية واستمرت كذلك حتى العام 1993، حيث صدر أول قانون لقطع حساب الموازنة العامة وتضمنت أسبابه الموجبة تبريرات وزارة المالية لهذا الانقطاع، وهي تتعلق بالظروف الإستثنائية التي مرت بها أجهزة وزارة المالية، خلال الفترة بين 1980 و 1992 وحالت دون إعداد حساباتها النظامية خلال هذه السنوات، وأدت إلى تعذر ممارسة ديوان المحاسبة رقابته عليها. واستمر الوضع على هذه الحال حتى صدور القانون 408 /1995، الذي نص على صرف النظر نهائياً عن إعداد حساب مهمة المحتسبين المركزيين، وحساب المهمة العام وقطع حساب الموازنة العامة والموازنات الملحقة للسنوات 1990 وما قبل، الأمر الذي أدى إلى تعذر تحديد ميزان الدخول لحسابات السنوات التالية لتلك السنة، واستمر تعذر إعداد الحسابات النظامية دون أية معالجة، حتى صدور قانون موازنة 2005 رقم 715 / 2006، الذي نصت المادة 23 منه على صرف النظر نهائياً عن إعداد حسابات مهمة المحتسبين المركزيين وحساب المهمة العام وقطع حساب الموازنة العامة والموازنات الملحقة للسنتين 1991 و 1992، وعلى أن يمارس ديوان المحاسبة رقابته على الحسابات اعتباراً من حساب السنة 1993. وقد أسست هذه المادة لمعالجة مسألة ميزان الدخول للحسابات وذلك عن طريق فتح "حساب موقت للتسوية"، على أن يصار إلى تصفية هذا الحساب تدريجياً، على أن تحدد دقائق تطبيق هذه المادة بقرار مشترك يصدر عن وزير المالية ورئيس ديوان المحاسبة. وقد تأخر صدور القرار المشترك حتى العام 2011، حتى 17/8/2011، وتحددت فيه الإجراءات الواجب اعتمادها لتحديد ميزان الدخول وإعداد حسابات الأعوام من 1993 ولغاية العام 1996، ضمناً.
*نشر في جريدة النهار اليوم
*مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه.خبير في شؤون الإدارة المالية والموازنة العامة والرقابة على حساباتها في ديوان المحاسبة سابقاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ