لن يفلتوا من العقاب..فجريمتهم موصوفة!
د. ماري ناصيف الدبس- خاص الحوار نيوز
لم تكن أصوات سيارات الاسعاف، التي كانت تنقل الجرحى إلى المستشفيات، قد خفتت بعد، ولم يكن البيروتيون قد استفاقوا بعد من هول الكارثة حتى بدأت التسريبات تنتشر كالنار في الهشيم، في محاولة لدفع المسؤولية عن هذا وذاك من الذين تقع عليهم بشكل دامغ وصريح.
كيف يمكن إبقاء آلاف الأطنان من نيترات الأومنياك داخل العنبر رقم 12 طيلة ست سنوات دون الشعور بمسؤولية ما يمكن أن يحدث، خاصة وأن أحد قياديي الطبقة المسيطرة تحدث، منذ مدة ليست بالطويلة وفي معرض مواجهة الكيان الصهيوني، عن أن الأمر لا يتطلب الكثير "كم صاروخ من عندنا زائد حاويات الأمونيا في حيفا، نتيجتهم قنبلة نووية". على ما يبدو لم يسمع أحد الحديث أو أنه سمعه وتغاضى عنه ولم يحاول من بيدههم القرار الأمني والقضائي، والسياسي خاصة أن يذكّروا أو يتذكّروا أن "القنبلة النووية" الموقوتة قابعة في العنبر رقم 12…
بل الأنكى من هذا وذاك أن المسؤولين عن سلامة المرفأ هم من أعطى أمر "تحصين" العنبر المذكور، فأشعلوا الشرارة التي تحولت إلى حريق تاخروا في طلب عناصر الاطفاء لحصره، وهكذا حصد الفساد والاستهتار عشرات القتلى وآلاف الجرحى وأتى على الأخضر واليابس، محوّلا العاصمة إلى ركام، بدءا بأحواض المرفأ والمنطقة الشعبية المحيطة ووصولا إلى كل حي وبناء في بيروت وضواحيها… هذا، عدا عن النتائج اللاحقة لانفجار 2700 طن من المواد السامة التي انتشرت في الهواء ودخلت إلى كل بيت وغرفة بعد أن قضى الانفجار، الذي شبّه بزلزال تفوق قوته ال4،5 على مقياس ريختر، على زجاج النوافذ وأبواب البيوت، إضافة إلى الشرفات التي انهارت والسيارات التي تطايرت أشلاؤها.
بعد هذا الدمار العظيم اجتمع مجلس الدفاع الأعلى وأعلن حالة الطواريء ونزول الجيش "لحماية العاصمة"… وهي أمور لم نفقه معناها ولا ضرورتها.
حماية العاصمة ممن؟ ومن ماذا؟ هل هناك أشياء أخرى مخبأة؟ وماذا ينتظر أبناء بيروت، خاصة في الأحياء الشعبية، أكثر مما يعانون، بعد أن قتل الأبناء وانهارت المنازل وحل الخراب الكامل على ما تبقّى لهم من متاع الدنيا… فاكتمل النقل بالزعرور، بعد أن تمت مصادرة جنى عمرهم من قبل بعض المسؤولين في مؤسسات الدولة بالتواطؤ مع المصارف، وبعد أن طال الصرف الكيفي مئات الآلاف من بينهم، وبعد أن اقترب سوء التغذية الممهّد للمجاعة من عدد كبير منهم؛ هذا، عدا مشكلة جائحة الكورونا التي تنتشر اليوم كالنار في الهشيم بسبب انعدام التدابير الوقائية الفعلية، إلا في المؤتمرات الصحفية المنقولة على شاشات التلفزيون…
ولا ننسى كيف تهمل الخطط والاقتراحات التي يتقدم بها العديدون من خارج السلطتين التنفيذية والتشريعية من أجل منع الانهيار الشامل اقتصاديا واجتماعيا وماليا، بينما يستمر نهب البنزين والمازوت والفيول من قبل بعض المحاسيب، ومعه "السلة الغذائية المدعومة". بل، لا ننسى ذكر كيف يجد مجلس الوزراء الوقت فقط لإقرار 15 فرعا جديدا لبعض الكليات في الجامعة اللبنانية، وبالتساوي بين المناطق ذات الصبغات الطائفية المختلفة، ولا يجدون ها الوقت من أجل الاعتناء بشؤون المواطنين.
بكل الأحوال، كل هذه التساؤلات لم تعد ذات قيمة في ظل الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحقنا بالأمس والتي لا يمكن لأي كان من المسؤولين التعويض عنها ب"الزيارات" التي انطلقت قبل ظهر اليوم إلى المرفأ والأسواق والباخرة السياحية، حيث قتل اثنان… وربما ستستكمل تلك الزيارات بالمرور قرب الكرنتينا المنكوبة والأشرفية التحتا وبرج حمود، ولا ننسى مقر الدفاع المدني الذي جابه النيران، أولا، ومن ثم البيوت والمتاجر والشركات المنهارة على أصحابها، فكان نصيب عديده أن استشهد منهم من استشهد في سبيل الواجب، كما استشهد من قبلهم أطباء وممرضات في المستشفى الحكومي في بيروت قبل أن يحصلوا على ما وعدهم به رئيس الجمهورية في المقابلة التي أجراها معهم عبر السكايب (أو أي تقنية أخرى)…
لكل ذلك وغيره الكثير، نقول إن هذه الجريمة التي ارتكبت بحقنا، نحن الشعب اللبناني الذي حمل السلاح مرارا وتكرارا دفاعا عن الوطن وفي المقاومة الوطنية ضد العدوان والاحتلال الصهيونيين، رغم كل الجراح التي تركتها قنابل السلطة ورصاصها في العديد منا، منذ العام 1946 عندما قتلت وردة بطرس عمدا، ومن بعده في المظاهرات الطلابية، وكذلك في 23 نيسان 1969 ومظاهرات مزارعي التبغ وعمال غندور، وخاصة على حواجز القتل الطائفي وبفعل القنص والقصف المدفعي، أن هذه الجريمة هي جريمة ضد الانسانية، بل جريمة إبادة جماعية… لذا، لن نسمح بأن تمر مرور الكرام وأن يجري لفلفة التحقيق بها كما في كل الجرائم السابقة. أقول ذلك وأنا لا أستبق الأمور، بل أحذّر من محاولة اللفلفة، خاصة بعد أن بدأت التسريبات التي أشرت إليها في بداية حديثي.
فلنكن متيقظين. ولنستعد للنضال الذي لا بد منه حتى لا تهدر دماء الشهداء مرة ثانية!
*استاذة جامعية وعضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي اللبناني