في الساعة السادسة من مساء الأربعاء في 12 كانون الثاني الجاري،أصدرت قاضية الأمور المستعجلة في بيروت هالة نجا قرارا مفاجئا قضى بإعفاء رئيس مجلس إدارة تلفزيون لبنان بالتكليف توفيق طرابلسي من مهامه ،وعينت مكانه عضوي مجلس الإدارة المكلفين مصباح مجذوب وخبيرة المحاسبة فيفيان لبّس صفير،لإدارة شؤون تلفزيون لبنان إلى أن يتم تعيين مجلس إدارة أصيل لهذه المؤسسة.
القرار فاجأ الجميع بمن فيهم توفيق طرابلسي نفسه الذي لم يمض على تعيينه بقرار قضائي ستة أشهر،مثلما فاجأ وزير الاعلام بالوكالة عباس الحلبي والموظفين في تلفزيون لبنان.
وكانت القاضية نجا عينت طرابلسي في الثاني من شهر آب 2021 في هذا المنصب ،وبمثابة حارس قضائي ،بعد تعذر تعيين مجلس إدارة أصيل من قبل مجلس الوزراء منذ شهر تموز عام 2013،وبعد عجز رئيس مجلس الإدارة والمدير العام الأصيل إبراهيم الخوري بسبب المرض ،والذي توفي في 28 تموز 2013،وسبق ذلك تعيين طلال المقدسي بقرار قضائي أيضا كرئيس مجلس إدارة ومدير عام بالتكليف في 9 تموز من العام نفسه ،وإلى جانبه الخبير المحاسبي جوزف سماحة كمدير يمثل أعضاء مجلس الإدارة.وقد عينت نجا الى جانب طرابلسي كلا من مصباح مجذوب وفيفيان صفير بصلاحيات أعضاء مجلس الإدارة.
تعددت الروايات حول الأسباب الحقيقية لقرار القاضية نجا إعفاء طرابلسي وتعيين صفير مكانه،لكن الثابت أن طرابلسي كان قد اجتمع يوم الأربعاء الماضي بالقاضية نجا وأبلغها أنه لا يستطيع الاستمرار على النحو الذي هو فيه بسبب الخلافات الحاصلة داخل مجلس الإدارة ،خاصة مع زميلته صفير،هذه الخلافات التي تعرقل سير العمل في التلفزيون ،طالبا توضيح صلاحياته في هذا المجال.
لم يكن طرابلسي يتوقع أن تقدم القاضية نجا على عزله ،بل كان ينتظر قرارا منها لمعالجة الخلافات .لكن هذه الأخيرة بحسب المتابعين كانت قد تلقت تقارير وافية عن واقع الأمور تفيد بتجاوز طرابلسي صلاحياته الممنوحة بموجب القرار القضائي ما دفع صفير الى معارضته ،ومنها بعض التعيينات التي تمت من دون استشارة عضوي مجلس الإدارة،فضلا عن إرتباك طرابلسي في إدارة شؤون المؤسسة خلال الفترة التي تولى فيها المسؤولية.
إلا أن الإنصاف يقتضي وضع الأمور في نصابها الصحيح.فالمشكلة الرئيسية تكمن في واقع تلفزيون لبنان ،وهو المؤسسة التي تملك الدولة اللبنانية كامل أسهمها تقريبا ،بينما هو في الواقع شركة خاصة تخضع لقانون التجارة،والمطلوب النهوض به في “زمن اللادولة” وفي زمن الضائقة المالية التي تمر بها هذه الدولة.فكيف لحارس قضائي أن يعيد ميزان تلفزيون لبنان إلى مراحل الوفرة في ظل هذا الواقع؟
لقد عشت شخصيا واقع تلفزيون لبنان طوال 37 عاما ،في عصرالبحبوحة، وفي زمن القلة والضائقة ،وتدرجت في مواقعه من محرر مذيع حتى منصب مساعد رئيس مجلس الإدارة المدير العام ،وأعي جيدا الكثير من التفاصيل والأسرار التي تعيق نهوض هذه المؤسسة ،وأبرزها أن هذا التلفزيون لم يعد أولوية في برامج الحكومات المتعاقبة منذ أكثر من عشرين عاما ،لدرجة أن الحكومة اللبنانية فكرت وصممت على إقفاله وإلغائه في العام 2001 ،فصرفت موظفيه وأوقفت البث لثلاثة أشهر بنية إعادة تأهيله.ولولا إصرار رئيس الجمهورية العماد ميل لحود في ذلك الوقت على إعادة تشغيله لكان تلفزيون لبنان اليوم في طي النسيان.
منذ اكثر من عشرين عاما يعاني تلفزيون لبنان من شتى أنواع التجاهل الرسمي والنسيان،وهو يسير (في علم المنطق) ب”قوة الاستمرار”،لدرجة ان الدولة لسبب أو لآخر تعجز منذ العام 2013 عن تعيين مجلس إدارة أصيل،إما بسبب غياب الحكومات ،أو بسبب الخلاف على التعيينات.ولهذا استنبط المعنيون ظاهرة “الحارس القضائي” ،فتم تعيين طلال المقدسي بقرار من قاضي الأمور المستعجلة جاد معلوف الذي أقدم في 27 أيارعام 2017 على عزله بطلب من وزير الاعلام ملحم رياشي ،واستمر التلفزيون بعهدة وزراء الاعلام وإدارتهم حتى صيف العام 2021 حيث أصدرت القاضية نجا قرارها بتعيين توفيق طرابلسي.
تجدر الإشارة الى أن القرارات القضائية كانت تؤكد دائما على المعينين “تسيير شؤون التلفزيون إلى أن يتم تعيين مجلس إدارة أصيل”.وهنا كانت تقع الإشكالات حول عبارة “تسيير”،حيث يجتهد المعنيون في تفسيرها.تارة يحق لهم التعيين ،وطورا تقف العبارة سدا في وجه المسؤولين.أحيانا يتولى الرئيس المدير العام إصدار القرارات من دون العودة الى مجلس الإدارة ،فتدب الخلافات ،ويحاول مفوض الحكومة الفصل في هذه الخلافات ،وقد عشت شخصيا وقائع هذه الأمور كأمين سر لمجلس الإدارة خلال ولاية طلال المقدسي وكذلك ولاية إبراهيم الخوري،وتشهد محاضر الجلسات التي كنت أنظمها على ذلك.
أزمة توفيق طرابلسي في تلفزيون لبنان لم تقتصر على الخلافات فقط.لقد جاء الرجل في زمن القلة والانهيار.والمثل يقول”القلة تعلم النقار” .فموازنة تلفزيون لبنان التي تقارب العشرين مليار ليرة ،كانت تساوي نحو 13 مليون دولار أميركي ،وكانت قادرة على تسيير الأمور بشكل معقول ومقبول في منافسة محطات كبرى لها موازناتها الضخمة.هذه الموازنة صارت اليوم نحو 650 ألف دولار ،وهو مبلغ زهيد بالنسبة لمؤسسة من هذا الطراز،إذ لا قدرة لأي إدارة أن تسيّر شركة تتطلب الكثير من المصاريف البرامجية والتقنية،ويربو عدد العاملين فيها على 250 ،أن تتمكن من الاستمرار ،فضلا عن الرواتب التي تآكلت بحيث بات غياب الموظفين خارج قدرة الإدارة على المساءلة والمحاسبة ،ولو من الزاوية الإنسانية والأخلاقية.
ثمة مشكلة أخرى يعاني منها تلفزيون لبنان اليوم شكلت عنصرا ضاغطا على الإدارة الجديدة ،وهي بلوغ العديد من المديرين وكبار الموظفين السن القانونية وإحالتهم على التقاعد(64 سنة).ولأن تسيير أمور الشركة يقتضي عدم التعيين من الخارج بخبرات جديدة يفرضها عصر الاعلام الجديد،كان على هذه الإدارة الاستعانة بالموظفين الحاليين مع ما يفرضه ذلك من فراغ في الكثير من مديريات المؤسسة،فضلا عن التدخلات السياسية في هذه التعيينات ،وهي ظاهرة تاريخية “عريقة” في تلفزيون لبنان،مع ما يعني ذلك من نفور وأحقاد في أوساط العاملين.
أمام هذه الوقائع يفترض أن يكون توفيق طرابلسي مرتاحا لقرار عزله ،لأنه تحرر من مهمة تثقل الكواهل وتُحمّل متنكبها مسؤولية الفشل الذريع.وليس غريبا أن يكون الرجل قد ارتبك في إدارة هذه المؤسسة،فاتخذ قرارات شكلت مآخذ عليه من فريق كبير من الموظفين والمعنيين بقطاع الاعلام المرئي .ويفترض أن تكون السيدة لبس صفير قد عانت من هذه الوقائع خلال الأشهر الستة الماضية،وبصورة لا تحسد على موقعها الجديد ،إلا إذا كانت تراهن على آمال تبدو واهية ،باهتمام رسمي يضع المؤسسة على سكة النهوض.
ومن هنا يطرح السؤال عن مصير تلفزيون لبنان مستقبلا؟
من البديهي التكهن بأن مصير تلفزيون لبنان مرتبط بمصير البلد والدولة.فهذا التلفزيون كان يقوى بقوة الدولة ،ويضعف بضعفها.فكيف إذا كانت الدولة هي نفسها غائبة ومغيبة؟