الصورة العربية القاتمة
هناك سبل يمكن اجتيازها للتعامل مع قضايا الاختلاف والخلاف الواقعين في كل مجتمع، عربياً كان أو غير عربي، وفي كل زمان ومكان، عربيين كانا أو غير عربيين، للتوصل إلى نقاط مشتركة تزيل نقاط الخلاف أو تهمشها، أو اللجوء من خلالها-أي تلك السبل- للركون إلى نقاط الخلاف التي تزيل نقاط الالتقاء أو تهمشها…
والدول الغربية خير مصداق على السبيل الأول التي استطاعت بعد حروب عالمية دامية أن تنتج فلسفة سياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية وأخلاقية و… فسار الخلق في طريق ثابت عنوانه المستقبل الأفضل، القريب والبعيد، بعيداً عن كل ألوان الصراعات المتنوعة وحساسياتها المفرطة.
أما ساحتنا العربية القاتمة والداكنة، والتي تفخر بأن الأديان وُلدت في أرضها الطاهرة، وأن الأنبياء عاشوا في رحابها العظيمة، فالأمر مختلف، وما سيكتب من أسطر ليس عناوين جديدة خافية على أحد، لكن تكرار كتابتها ليس إلا سبيلاً للقدرة على كظم الغيظ أكثر، والصبر على الألم والخنوع والتراخي أكثر، ولعن لون العتمة أكثر طالما أننا لا نستطيع أن نشعل شمعة حب…
لقد تفرق العرب أدياناً ومذاهب وقبائل ومناطق ومواقف وأفكاراً وتطلعات نحو الماضي والحاضر والمستقبل، وأكثر ما اتفقوا عليه لم يكن إلا عامل تفرقة أكبر بينهم.
وقيل إن للمؤامرة دوراً في بث الصراعات المسيحية الإسلامية، وهناك أكثر من بلد عربي يتنوع طائفياً ويمكن للمؤامرة أن تسعى بجهد بسيط لإشعال الحروب بين أبنائه الذين يفرقهما الانتماء الديني ولا يجمعهما الانتماء الوطني، ولبنان مثال صارخ في هذه المعادلة الجهنمية.
وقيل إن للمؤامرة دوراً في بث الحساسيات المذهبية، السنية الشيعية، وتحويل هذه الحساسيات إلى حروب يسقط في خضمها الكثير من الضحايا، كما حدث في سوريا والعراق ولبنان وغيرها…
نعم إن للمؤامرة دورها البارز في إيقاظ الفتن المختلفة، لكن السؤال البدهي الذي يجب أن يكون عنواناً دائماً لتطلعاتنا المستقبلية الهادفة: لماذا لا تطال الفتن إلا منطقتنا وغيرنا من بلاد العالم الثالث الفقيرة المتخلفة التي تعيش في غربة مع تاريخها؟
لماذا من السهل أن تنتج خلافاتنا حروباً دامية لا يطفئ نارها ولا يهدئ أوارها إلا من صنع المؤامرة وفتح للموت طريقاً في بلادنا؟
لقد اختلفنا كعرب في الله وكتبه ورسله، واعتبر كل طرف أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، وأن الآخر في النار وبئس المصير، فكانت الصراعات ولما تزل.
واختلفنا كمسلمين في تفسير الكتاب وسنة نبيه والخلافة والإمامة ورجالات التاريخ الإسلامي والأحداث والحوادث، ولم يشفع الزمان في قفزاته الطويلة، ولا التاريخ في أحداثه المتراكمة في تهدئة النفوس، بل على العكس فإن للمستقبل أشباحاً سوداء مظلمة تستعد للانقضاض على كل موضع لا يزال فيه شيء من الحكمة والموعظة الحسنة.
لقد اتفقنا على الخضوع لسايكس بيكو وتقسيم البلاد والعباد، ولم نتفق حتى على تنظيم الحدود بين البلد العربي والآخر.
واختلفنا على نكبة فلسطين وكيفية استرجاعها، واتفقنا على مهادنة العدو…
واختلفنا في كيفية حماية الشعب الفلسطيني، واتفقنا على تدميره.
اختلفنا في الحرب الأهلية اللبنانية، والحرب العراقية الإيرانية، واحتلال صدام للكويت، وتدمير العراق، والمقاومة اللبنانية لإسرائيل…
اختلفنا في الربيع العربي، وسقوط الأنظمة الدكتاتورية، وحركة الإخوان المسلمين، وجبهة النصرة، والقاعدة، وأسماء جديدة أو مستجدة لا شك ستقتحم عناوين التاريخ سلباً أو إيجاباً.
اختلفنا في الحرب السورية بين تأييد النظام ودعمه، ودعم ما سُمي بالمعارضة وتسليحها، والمجازر التي تقع والقتلى الذين يصبحون في كل يوم عدداً جديدة يُضاف إلى اليوم الذي سبقه، وكل بلد عربي مشغول بهمومه وشجونه وأزماته، مشغول بليالٍ ضاع فيها بدرها، ونهارات تشكو شمسها الكليلة، كل بلد مشغول بنفسه عن غيره، إلا عند الأزمات المشتعلة بينهما، وعند التآمر مع المستعمِر القديم الجديد.
هل للمناخ الحار الجاف دوره في سيرورتنا الشاذة؟ وهذا السؤال لا يصب في المنحى الكوميدي الساخر الذي بات جزءاً من حياتنا السوداء، بل انه نظرية غربية جدية طالما نوقشت في الدراسات العلمية الهادئة من أجل معرفة سبب العجز العربي العقيم.
إننا دوماً خارج المعادلة، خارج اللعبة الأممية، بل إننا الوقود الذي يؤسس لكل المعادلات والمبادرات، والدمى التي تحركها خيوط السياسة والأمن والاقتصاد… إننا أجزاء متناحرة يحاول كل منها أن يذوب في الكيانات الكبرى والانصهار في بوتقتها النتنة… إننا شعوب مستغَلة عند صنع الفتن والمكائد، وشعوب منسية عند توزيع الحصص والجوائز…
الصورة العربية بالفعل صورة قاتمة داكنة سوداء…