كتب علي يوسف
بعيداً عن سياسات التقاذف الداخلية السخيفة التي تعبر عن حجم التبعية لمعظم القوى السياسية اللبنانية موالاة ومعارضة فإن الفهم الحقيقي أو على الأقل ادراك اسباب هذا الاهتراء الكامل واحتمالاته المستقبلية يتطلب نظره اشمل على الواقع الحالي للتوازنات الاقليمية والدولية واستشراف اتجاهات تطورها.
لقد دفع العالم كله من اوروبا الى آسيا الى افريقيا ثمناً باهظاً لانهيار الاتحاد السوفياتي وثورات التكنولوجيا والعولمة وبروز سياسات القطب الواحد على المستوى الدولي من قبل دولة حديثة بلا تاريخ وحضارة هي اقوى دولة في العالم عسكرياً واقتصادياً هي الولايات المتحدة الاميركية، ولكنها تتميز بنظام يعمل بآليات مافياوية على المستوى الدولي يسلخ عن هذه الدولة صفات الدولة الكبرى التي كانت تتميز بها الدول الكبرى سابقاً والتي من أهم صفاتها وضع الحلول، وإن كانت إستعمارية، إلا انها تؤمّن حداً من الاستقرار على المستوى التاريخي المتوسط على الأقل.
ولعل نظرية “الفوضى الخلاقة” لهذا النظام الاميركي هي أكبر دليل على ما نقول، كما ان الممارسات تؤكد نجاح هذا النظام في الاحتلال والضرب العسكري واحداث الفوضى في كثير من دول العالم وعجزه عن ايجاد أي تسوية لأي مشكلة من مشكلات العالم.
إلا أن بروز الصين كقوة اقتصادية وتكنولوجية واستعادة روسيا لدور عالمي جديد بعد نجاح الرئيس المخضرم بوتين في اصلاح الوضع الداخلي لروسيا وفي إحداث ثورة في الصناعات العسكرية وحنكة عالية في السياسات الخارجية والدبلوماسية. هذان العاملان اديا الى بدء مرحلة تعديل التوازنات الدولية.
المستوى الدولي
وقد وصلنا الآن الى صورة من أبرز ملامحها:
- تحالف دولي صيني- روسي ولأول مرة شكل جاذباً لانضمام دول متعددة الى هذا الحلف الذي بدأ يشق طريقه نحو استعادة “طريق الحرير” وفرض واقع سياسي وعسكري واقتصادي جديد في العالم.
- تراجع الولايات المتحدة الاميركية امام الهزائم التي تعرضت لها في فيتنام الى افغانستان الى العراق وبدء فشل سياسات الاعتماد على الارهاب والفوضى في العالم وكذلك بدء فشل سياسات الحصار التي باتت تتجه لتؤدي دوراً عكسياً حوّل عدداً من الدول المحاصرة الى دول تعتمد على مواردها الذاتية بشرياً واقتصادياً للوصول الى معدلات تنمية عالية رغم الحصار.
- وقوع الولايات المتحدة الاميركية بفعل سياستها في ديون لم تعرفها في تاريخها وكان يمكن لولا اقتصادها الواسع وقوتها العسكرية المهددة للعالم أن تؤدي الى انهيار واسع للعملة الاميركية وبالتالي للاقتصادي الاميركي وللمجتمع الاميركي والنظام الاميركي عموماً
- تراجع كبير للوضع الاقتصادي وللدور العالمي لدول اوروبا باستثناء ألمانيا مما جعل اوروبا تأخذ صفة “القارة العجوز” بعد أن تجاوزت ديون كل بلد من البلدان الاوروبية الأساسية باستثناء المانيا طبعاً أكثر من 120 في المئة من دخلها القومي.
وقد كان لسياسات الالتحاق بالولايات المتحدة الاميركية الدور الكبير في الوصول الى ما وصلت اليه اوروبا التي بدأت الآن تشعر بفداحة ما ارتكبته قياداتها وأحزابها خلال الفترة الماضية.
المستوى الاقليمي
أما على المستوى الاقليمي فإن العاملان الاساسيان اللذان يحكمان الساسة الاميركية وسياسات ما يسمى الدول التي تقدم لها الطاعة لأن وصف التبعية لها مديح لهم. هما النفط ووجود وتفوق اسرائيل.
ومع كل التغيرات التي تحصل في العالم فإن المنطقة ما تزال تعيش تحت تأثير السياسات المتعلقة بالنفط والوجود الاسرائيلي.
ورغم أن الولايات المتحدة الاميركية لم تعد بحاجة الى النفط العربي والى ثروات الغاز والنفط المختزنة في البحر المتوسط والتي تنشط عمليات السعي لاستخراجها إلا ان هذا العامل ما يزال يحمل أهمية كبرى ليس من باب الحاجة الاميركية وإنما من باب منع الإفادة السهلة منه من قبل الصين واوروبا ومن باب منع الافادة السهلة منه للدول التي تملكه بما يحقق لها ازدهاراً وقدرة على النمو قد يكون لهما تأثير على السياسات الأميركية المتعلقة بدعم اسرائيل وبقائها وتفوقها الذي يسمح لها بذلك.
ويمكن بسهولة فهم كل التطورات التي حصلت في المنطقة انطلاقاً من هذين العاملين وخصوصاً بعد تحرير لبنان في العام 2000 من قوات العدو الاسرائيلي وبعد انتصار المقاومة على الغزو الاسرائيلي في العام 2006 والذي كان يهدف الى الرد على التحرير كما يهدف الى انهاء المقاومة تمهيداً لاستعادة توازن قوى لمصلحة العدو الاسرائيلي على نحو كامل.
ازاء هذا الفشل وكذلك فشل استكمال مشروع تهويد فلسطين عبر طرد كل الفلسطينيين من فلسطين وايجاد وطن بديل لهم ان في الاردن عبر محاولات عدة او في لبنان عام 1976 او من خلال مشروع التفتيت والدويلات الصغيرة عبر ضرب الدول المركزية بواسطة الارهاب والحركات التي تحمل طابعاً دينياً وصلت المنطقة بعد التطورات الدموية والتهديدية الى:
- فشل مشروع التفتيت عبر الإرهاب في العراق وسوريا ولبنان الذي ادى عملياً الى خرق حصانات الكيانات وتحول الى فرصة لنشوء محور المقاومة الذي بات يمتد من ايران الى العراق الى سوريا الى لبنان الى فلسطين وتشارك في تبني طروحاته تنظيمات وجماهير عربية واسلامية في كل الدول العربية والاسلامية مشرقاً ومغرباً.
- فشل مشروع الكيانات الطائفية والمذهبية الصغيرة المتقاتلة التي ترى في اسرائيل دولة حامية لها. ونشوء محور المقاومة الذي بات يهدد وجود الكيان الاسرائيلي .
- فشل مشروع التوسع التركي باتجاه الامبراطورية التركية والذي استجد بعد سيطرة حزب العدالة والتنمية (الاخوان المسلمون) على الحكم في تركيا برئاسة اردوغان وتبني إمارة قطر تمويل محاولات سيطرة الاخوان المسلمين على الدول العربية والاسلامية شرقاً وغرباً وصولاً الى أفريقيا.
وفشل هذا المشروع يشكل فشلاً للمشروع الموازي الذي كان يهدف من خلاله الى إنهاء قضية فلسطين عبر إلغاء الصراع العربي الاسرائيلي، خصوصاً وأن تركيا تقيم افضل العلاقات مع الكيان الصهيوني.
- تعرض الدول المطيعة للولايات المتحدة الاميركية إلى اكبر عملية تدمير لقدراتها عبر توريطها في حروب وخلافات مثل تورط السعودية والامارات في الحرب على اليمن وتورط السودان في التقسيم وفي الحرب على اليمن وتورط ليبيا في حرب أهلية وتورط دول الخليج في دعم السعودية مما أدى الى خسارتها لاموالها واحتياطاتها من بيع النفط المخصصة للتنمية وللأجيال المقبلة. وأجبر بعض هذه الدول الى الاعتراف باسرائيل تحت شعار تأمين الحماية لأنظمتها الهشة. والمضحك ان هذا يتم في وقت باتت فيه اسرائيل بحاجة الى حماية وهي تبني الدروع المسلحة لحمايتها إن في فلسطين أو على الحدود اللبنانية أو على الحدود السورية.
- فشل مشروع ايجاد وطن بديل للفلسطينيين وبالتالي عودة القضية الفلسطينية الى خارج مشاريع التسويات المطروحة لتعود قضية غزو واحتلال صهيوني مما أدى الى ما شهدناه من إحياء الانتفاضة الكبرى في اراضي ال 48 خلال معركة سيف القدس التي شكلت تحولاً استراتيجياً على طريق التحرير الشامل.
- فشل مشاريع ومحاولات جر المنطقة الى حروب مذهبية بفعل ممارسات قوى محور المقاومة التي لم تنزلق الى ما يحقق هذا الهدف وامتنعت عن الاستجابة لأي مغريات طائفية أو مذهبية والتأكيد دائماً على قضايا التحرير والاستقلال والكرامة والحقوق والعدالة والافادة من الثروات الوطنية.
ويجب الاعتراف بالدور الفلسطيني الكبير في افشال مشاريع الحروب المذهبية أو الخلافات المذهبية وكذلك دور المنظمات والجماهير في كثير من الدول التي تمسكت بعروبتها وبقضية فلسطين الأساس على حساب حسابات المذاهب البغيضة.
- بعد تراجع الدور المصري الذي شكل طوال المرحلة الناصرية قيادة عربية وأفريقية وبعدما حل في العراق وسوريا باتت الدول العربية من دون قيادة حقيقية فأفتقد الاقليم الى شريك عربي لتركيا وايران للبحث في مشروع اقليمي أمني واقتصادي قادر على تحقيق شروط حد أدنى من الأمن والاستقرار في المنطقة عبر اقتراح مجموعة تسويات مرحلية قابلة للتطوير .
لبنان في قلب العاصفة
واقع وتوجهات واحتمالات
بما أن المقاومة في لبنان تعتبر من أهم اركان محور المقاومة كونها صاحبة انجاز التحرير ومن ثم هزيمة الآلية العسكرية الصهيونية والجيش الذي بات يقهر، وصاحبة انجاز الردع الواقعي الواضح الذي يحرص العدو الاسرائيلي على أخذه بعين الاعتبار وهي صاحبة انجاز المشاركة والقيادة في القضاء على مشروع التفتيت الأرهابي في لبنان وسوريا والعراق، وصاحبة الأدوار الداعمة بأشكال مختلفة للمقاومة الفلسطينية في فلسطين وللجان الشعبية وانصار الله في اليمن.
كان لا بد من محاولة القضاء على هذه المقاومة اما عبر اشغالها بحرب أهلية لم تنجح الولايات الاميركية والانظمة المطيعة لها في تحقيقها بفعل قوة المقاومة من جهة وبفعل عدم القدرة على تمويل وايجاد طرف مقابل بحجم يسمح له بتنفيذ هذا الدور. فكان خيار الحصار والتجويع الذي اعتمدته الولايات المتحدة الاميركية في أكثر من مكان حيث تعجز عن استعمال القوة العسكرية وحيث تستطيع تنفيذه بكلفة أقل بكثير كونها ما تزال تسيطر على النظام المالي العالمي وتمسك به وقادرة على فرض عقوبات قاتلة على من يعارضها أو لا ينفذ رغباتها وقراراتها.
وقد بدأ هذا الحصار عملياً بعد أن فشلت القوى المطيعة للولايات المتحدة الاميركية والقوى المطيعة للدول المطيعة للولايات المتحدة الاميركية في الفوز بأكثرية نيابية قادرة على الأقل على تشكيل حكومة تحرج المقاومة أو تسعى لمواجهتها عبر القوى والاجهزة الأمنية التي عملت الولايات المتحدة الاميركية على محاولة استيعاب قياداتها بأشكال مختلفة علماً أن وضع هذه القوى والاجهزة في لبنان محكوم بآليات التركيب الطائفي التي تشل فاعليتها في التدخل في انقسامات محلية.
وطوال هذه المدة كان الحصار يشتد بالتعاون مع جزء أساسي من الدولة اللبنانية ومؤسساتها السياسية والأمنية والأقتصادية والاجتماعية، ويمكن اتهام مصرف لبنان والمصارف اللبنانية وأحزاب أساسية في تغطية هذا الحصار وافساح المجال له اعتقاداً بأن ذلك سيؤدي الى انقلاب بيئة المقاومة عليها بفعل الأزمة الاقتصادية وبالتالي تفجير المقاومة من داخلها عبر تحميلها مسؤولية ما وصل اليه الوضع.
إلاّ أن ما غاب عن هؤلاء أن هذه الأزمة سوف تصل الى مكان لا رجعة فيه ،وأن المقاومة هي الأقل ملكية للمؤسسات الاقتصادية الاساسية، وأن القوى المناهضة لها في لبنان هي التي تملك المصارف وهي التي تملك المؤسسات التجارية الكبرى وهي التي تملك أكثرية القطاع الصناعي وهي التي تملك شركات المحروقات وهي التي تملك شركات استيراد الدواء وهي التي تملك أكثرية المؤسسات الاستشفائية وغيرها وغيرها…
كما غاب عن هؤلاء أن الأزمة ستفتح العيون على الاحتكارات الكبيرة في لبنان الموجودة منذ نشأته. وتصبح هذه الاحتكارات أهدافاً للتحركات الشعبية.
وغاب أيضاً عن هؤلاء أن بنية النظام اللبناني ستهتز من دون أن يكون هناك قدرة على تغييره كون هذا النظام هو من أقوى الأنظمة في المنطقة اذ يمثل في بنيته التكوينية توازنات المنطقة بأسرها وبالتالي يصعب تغييره من دون تغيير هذه التوازنات في المنطقة وليس محليّاً فقط . وبالتالي فإن الأزمة التي سيعيشها النظام ستكون أزمة طويلة مستعصية على الحل وخاضعة فقط لعمليات ترقيع إذ لا يمكن معها العودة الى الوراء ولا التقدم الى الأمام في انتظار تطورات المنطقة.
وانطلاقاً من ذلك سنكون أمام هجرة للقادرين وللكفاءات مما يهدد ركائز الوطن على كل صعيد.
صحيح أن هذه النظرة هي نظرة سوداوية ولكنها نظرة واقعية بحيث كان يمكن أن نصل الى ما يشبه دمار شبه كلي لكل المؤسسات وصولاً الى التصحر والعوز والجوع الخ…
الخرق الايجابي
إلاّ أن وجود المقاومة بهذا الحجم من القوة والدور والنجاح في وجود محور مقاومة يمتد على مساحة المنطقة ووجود التحولات الدولية التي حصلت والتي تحدثنا عنها سابقاً لجهة صعود التحالف الصيني الروسي الجاذب دولياً. يجعل في الإمكان بدأ مرحلة تحوّل بنيوي في الاقتصاد الوطني قادر على تأمين وسائل الصمود في انتظار التحولات الكبرى المنتظرة في المنطقة وغير البعيدة على ما أعتقد والتي يفترض أن تتوج بنظام مالي عالمي جديد هو شرط أساسي لتحوّل حاسم.
وهنا تأتي باخرة المازوت الايرانية والتي تشكل بداية قافلة بواخر المحروقات لتأخذ موقعها ومعناها الاستراتيجي وليس الظرفي أو التجاري أو التنفيسي أو كما يتصورها البعض كخطوة تخفيف معاناة.
وهنا يأخذ الاتفاق النفطي مع العراق بعده الحقيقي.
ومن المؤكد أن هذا سيشكل بداية لبواخر دواء ومواد غذائية ومواد زراعية ومواد صناعية ومواد أولية ايرانية وعراقية وسورية وصولاً الى مشاريع بنى تحتية واستثمارية صينية وروسية. ولن يكون بامكان قوى العجز المطيعة استخدام عوز الناس وجوعهم في الاستثمار في الانتخابات النيابية المقبلة لتغيير معادلات مستجدة غير قادرة أوهامهم وعجزهم عن تغييرها. فلا يمكن مقارنة مجموعة من القوى المطيعة التي لا تملك قرارها ولا تملك إلا قدرة التصريح والشتم والنق بهوامش محددة لها من الخارج على مواجهة قوة قادرة قواعدها صلبة وصاحبة قرار ومشاركة فعلية في القرار الاقليمي بل أساسية فيه ويشكل امتداداً لها ويستجاب لطلباتها من دون تردد. وهذا ما يؤكده سماحة السيد حسن نصرالله دائماً حين يقول “نحن سادة عند ولاية الفقيه ولسنا اتباعاً”.
إن الباخرة الايرانية ليست باخرة بل هي اعلان عن دخول الاقتصاد اللبناني في اقتصادات محور الممانعة ومن لا يدرك ذلك سيبقى خارج السياسة وخارج الحاضر وخارج المستقبل ولن يملك مستقبلاً سوى نعي تبعية رأينا نتائجها في افغانستان مؤخراً.