كتب د.عماد عكوش
في عام 1907 تم الاحتفال بإنشاء خط الترامواي في العاصمة بيروت ، وكان ذلك بمناسبة المولد السلطاني في العام 98 ، وفي عام 1964 تم التوقف عن العمل به وجاء ذلك بعد إصدار الحكومة أمرها بذلك ، بحيث عَينت بدل منه الحافلات ، وقامت بعملية تدريب سائقي الترامواي على قيادة تلك الحافلات .
أما بخصوص سكة الحديد فقد تم بناء أول خط سكة حديد في لبنان عندما كان لبنان جزءاً من الإمبراطورية العثمانية ، عندما حصلت الشركة الفرنسية “هيئة السكك الحديدية العثمانية الاقتصادية بيروت-دمشق-حوران” على ترخيص عام 1891 . كان الهدف أن تربط هذه السكك الحديدية مدينة بيروت بمدينة دمشق ما أتاح لدمشق سهولة الوصول إلى ميناء بيروت ، فأصبحت العاصمة اللبنانية بفضله مركزا اقتصاديا وتجاريا هاما في المنطقة، وأُطلق على البلاد لقب “بوابة الشرق” .
أما اليوم، فعجلات القطار متوقفة ، فيما تئن بيروت ألما من واقع اقتصادي أرهقها ، وسط طموحات متجددة بإعادة إحياء المشروع لتستعيد دورها الرائد تاريخيا كواحدة من أبرز عواصم المنطقة ، وبقيت حركة القطارات بين مختلف المناطق اللبنانية ، جنوبا وشرقا وشمالا ، إلى أن توقفت عن العمل خلال الحرب الأهلية (1975 – 1990) . كما تسبّبت الحروب الإسرائيلية على لبنان بتضرر أجزاء من سكك الحديد . كان القطار يربط المناطق ببعضها ، معززاً الاقتصاد والروابط الاجتماعية ومن خلال بطاقة سفر واحدة كان يمكن الوصول عبره إلى أوروبا.
خلال الحرب التي بدأت في العام 1975 تضرر قسم كبير من الباصات والحافلات . واستخدمت الأطراف المسلحة حافلات الدولة كمتاريس عريضة ومحصنة لحماية نفسها. وارتبطت حركة الباصات خلال فترة الحرب الأهلية بالوضع الأمني، فكان كل منها يعمل ضمن منطقته . بعد الحرب الأهلية تم أعادة أحياء باص الدولة ومحاولات عدة نجحت في الإبقاء على أثر لهذا الباص . ففي العام 2000 زوّد القصر الجمهوري أيام الجنرال لحود، مصلحة النقل المشترك بـ 37 باصاً بعد أن منحته الإمارات 40 باصاً، مبقياً على ثلاثة منها، بعض هذه الباصات تعطل لاحقاً. وفي العام 2004 أصدر مجلس الوزراء قراراً يقضي بشراء 250 باصاً، لكن القرار لم ينفّذ. وكان بطل العرقلة أنذاك فؤاد السنيورة ، بإعاقة تنفيذه . وفي العام 2012 قام وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي بشراء 20 باصاً لوضعها في الخدمة ، واتهم بتخصيص 6 منها للعمل على خط يربط الكولا بخلدة وببلدته بيصور . لكن الضربة الموجعة تلقتها المصلحة في العام 1997من خلال صفقة حافلات “الكاروسا” ، عندما اشترت الدولة اللبنانية 200 حافلة “كاروسا” تشيكية . يومها وصلت الحافلات إلى لبنان ليكتشف المعنيون أن نصفها معطل ، فجرى شحنها إلى موقف مار مخايل ، والقسم الصالح منها تعطّل بمرور الوقت . وتبيّن للدولة فشل الصفقة بعد أن اكتشفت أن هذه الباصات لا تصلح للعمل في مناخ لبنان ، من دون أن يحاسب أحد . ولا يزال بعض هذه الباصات مرمياً في محطة مار مخايل ، تغطيه الرسومات والغبار . لم يعد باص النقل المشترك الذي اشتهر باسم “جحش الدولة” مَلك الطريق وسيّد النقل العام بعدما اضطر للخروج عن مساراته. رسمت له وسائل النقل الأخرى حدوده ، ولاحقه بعض السائقين العموميين ليوقفوه في محلات كثيرة بالقوة أو بالرشوة فكان الأيقاف شبه التام .
أسباب الفشل :
للفشل أسباب متعددة منها ما هو متعلق بالدولة وفسادها وفساد الأدارات ،ومنها ما هو متعلق بمصالح نقابات وشركات خاصة . بما خص الفساد نذكر توقف العدد الأكبر من الباصات التابعة للنقل المشترك في لبنان ، بعد أن تم شراؤها سابقاً عبر صفقات ، هو “نتيجة لشراء آليات لا جدوى لها كباصات “كاروسة الـ 200” التي تم شراؤها في صفقة من تشيكيا عام 1997، وهي لا تتناسب بمواصفاتها الفنية مع طبيعة أرض لبنان ومناخه . إضافة الى عدم توافر قطع الغيار المناسبة لها ، مما قلص مدة إستهلاكها ، إلى أن توقفت جميعها عام 2009 .
لتعزيز هذا القطاع لجأت الدولة اللبنانية لطلب قرض من البنك الدولي بقيمة 300 مليون دولار وهو بالمناسبة القرض الأول من نوعه المخصص لمصلحة النقل العام . ولشرح أهمية المشروع ، تكفي الإشارة إلى أنه لو كان ثمة نقل عام في لبنان لما كانت أزمة المحروقات المستفحلة ، ولما تكبّد الناس عناء الانتظار لساعات في الطوابير ، ويبدوا أن الدولة والمسؤولين السياسيين في الطريق لألغاء هذا المشروع واستعمال هذا القرض في مكان أخر . المؤسف أن لنقابات النقل كان الدور الأبرز من خلال الأحزاب التابعة لها في تعطيل كل خطط النقل من خلال صفقات الفساد والتي أدت لشراء ناقلات خردة ، أو من خلال تعطيل تطبيق خطة النقل التي تم وضعها ومنها الباص السريع بقيمة 300 مليون دولار عبر قرض من البنك الدولي وتسعى الأحزاب لتحويله لتمويل البطاقة التمويلية ، أو من خلال أستمرار تعطيل خطة أنشاء سكة الحديد أو تجديدها .
الخطة الأقل كلفة :
إن أزمة النقل العام في لبنان تعتبر الأكبر على الإطلاق ، حيث تكلف سنوياً الاقتصاد اللبناني ملياري دولار أمريكي ما بين تكلفة مباشرة وغير مباشرة ، وهي تفوق أزمة الكهرباء . متوقعاً أن ترتفع حدة الأزمة نظراً إلى عوامل عديدة ، أهمها الارتفاع المستمر لعدد سكان لبنان ، والحاجة المتزايدة إلى المركبات الآلية نظراً لغياب الصيانة اللازمة للطرق . لقد تم وضع خطط عديدة للنهوض بقطاع النقل لكن المؤسف أن هذه العملية كانت تتم من خلال وعبرالقطاع العام مباشرة وببركة المسؤولين السياسيين مما حولها الى مجرد خطط غير قابلة للنجاح لعدة أسباب :
– دخول السماسرة على خط وضع هذه الخطط والصفقات .
– الأدارة الفاشلة للقطاع العام لن تمكن أي مشروع من النجاح .
– المصالح المتضاربة ما بين هكذا مشاريع وكارتيلات النقل سواء المعبر عنه بنقابات النقل والذي تسيطر عليه نقابات مقربة جدا” من الأحزاب والتي يمكن لهكذا مشاريع أن تؤثر بشكل كبير على حجم أعمالهم ، أو سواء المعبر عنه بشركات النقل والتي هي مقربة أيضا” من رجال السياسة والتي يمكن لخطط النقل الحديثة أن تؤثر على نشاطها وفقا” لأعتقادها .
أما بخصوص خطط النقل الأوفر والأقل كلفة والأكثر فاعلية للأقتصاد والمواطن يجب أن تقوم على التالي :
خطة الباص السريع :
مشروع الباصات المحددة المسار والذي يربط المناطق اللبنانية ببعضها البعض عبر باصات سريعة شبيهة بالقطارات ، حيث تكون جزءاً أساسياً من خطة تطوير النقل العام في لبنان ، هذا المشروع جرى تخصيص مبلغ 300 مليون دولار من قبل البنك الدولي له ، ويمكن تمويلها من القطاع الخاص وتحت إشراف الدولة في حال لم يقم البنك الدولي بذلك عبر أجراء مناقصة لتمويل هذا المشروع بطريقة BOT وبالتالي أستثماره من قبل القطاع الخاص ومن ثم أعادة أستملاكه لاحقا من قبل الدولة اللبنانية أوخصخصته بالكامل لاحقا” دون منح أمتياز خاص لأي شركة نقل . هذه الخطة تخفض كلفة النقل على المواطن اللبناني بنسبة تزيد عن 50 بالمئة عن الأسعار المعتمدة حاليا” وتربط الكثير من المناطق والقرى ببعضها مما تمكن السكان في الأرياف من البقاء في أماكنهم وعدم الأكتظاظ في المدن .
خطة المترو :
يمكن البدء فورا بخطة المترو المعلق فوق الطرقات الدولية والتي تشبك طرقات الضواحي بمدينة بيروت ،وهناك تجارب ناجحة لهكذا أنواع من المترو جرى تنفيذها في مصر في مدينة الأسكندرية الساحلية ، وفي العاصمة الأدارية الجديدة لمصر ، وفي اليابان أيضا” ، وفي الصين . من مميزات هذا النوع أنه يمكن أستعمال شبكة الكهرباء لتشغيله بأقل كلفة ويؤدي الى خفض نسبة التلوث في العاصمة وبنسبة كبيرة .
– انخفاض الكلفة وخاصة كلفة الأستملاكات لأن معظم العربات ستمر فوق الطرق الدولية والطرقات الرئيسية وخفض كلفة الحفر والبناء .
– السرعة في أنجاز المشروع لعدم الحاجة لحفر طرق خاصة لتمرير هذه الحافلات أو هدم منشأت وبالتالي خفض الوقت المقدر لأنجاز المشروع بنسبة تزيد عن 50 بالمئة ويمكن تحقيقه خلال ثلاث سنوات فقط .
– بالنسبة للكلفة الأجمالية فتتراوح كلفة الكلم الواحد مع الحافلات والمحطات ما بين 30 الى 40 مليون دولار تقريبا” ونحن لا نحتاج لأكثر من 50 كلم دائري .
خطة سكة الحديد :
بعد الثورة الصناعية ، وصلت سكة الحديد إلى ما بات يُعرف لاحقاً بلبنان الكبير في العام ١٨٩٥. تعايش مع سكان لبنان أيام العثمانيين وأيام الفرنسيين وأيام الاستقلال وأيام الحرب الأهلية ، قبل أن يفرمله السلم الأهلي ، فيسيّر رحلته الأخيرة في العام ١٩٩٥، منهياً مسيرة استمرت مئة عام . انقطاع صلة الوصل هذه ، أسهم سريعاً في تغيير نمط الحياة . نزوح من كل حدب وصوب إلى العاصمة . أُهملت المناطق وأُهملت القطاعات الزراعية والصناعية ، وصارت بيروت السياحة والخدمات والأرباح الريعية هدفاً للسلطة وإغراءً للساعين إلى أقصر الطرق نحو الثروة .
محاولات رسمية عديدة أجريت لأعادة أحياء هذا القطاع ، لكنّ أياً منها لم يتّسم بالجدية. في العام ٢٠١٤، قررت الحكومة دراسة إمكانية إعادة إحياء القطارات ، على أن تكون البداية إنشاء سكّة بين بيروت وطرابلس . تكفّل الاتحاد الأوروبي ، عبر البنك الأوروبي للتثمير ، بتمويل الدراسة بكلفة تصل إلى مليوني يورو . في المرحلة الأولى ، أنجز الاستشاري الدولي شركة egiss الفرنسية دراسة الجدوى للخط ، بالتعاون مع الاستشاري المحلي شركة «جيكوم» . وفي المرحلة الثانية كان يفترض أن تجرى دراسة تنفيذية للقسم الممتد من بيروت إلى طبرجا، لكنها لم تستكمل .
خلاصة دراسة الجدوى أن لعودة القطار فوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة ، لكن يبقى البحث في الخط الذي سيسلكه ، وفي حجم التعديات على حرمه خلال السنوات الثلاثين السابقة . الخبر المفرح ، الذي سبق أن أعلنه وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس ، أن لا تعديات جوهرية على السكة . كذلك ، فإن الدراسة التي أعدّتها شركة «جيكوم» بيّنت أن لا تعديات من النوع الذي لا يمكن إزالته أو يشكّل عائقاً أمام تنفيذ المشروع . واللافت أيضاً أن المتعدّي الأكبر هو الدولة ، ممثلة بوزارة الأشغال ، إذ إن معظم التعديات هي عبارة عن طرقات استحدثت على مسار السكّة ، والعيّنة الأبرز عنها هي الطريق البحرية ، الممتدة من المرفأ حتى ضبية.
لم تنفذّ المرحلة الثانية من الدراسة لأن البنك الأوروبي فرمل اندفاعته ، بعدما تقاطعت الدراسة مع دراسة أخرى كان أعدّها مجلس الإنماء والإعمار ، بالتعاون مع البنك الدولي ، لإنشاء خط باصات يصل بيروت بطبرجا . اقترح لبنان حينها استبدال المنطقة المقرر إجراء الدراسة التنفيذية لها ، والبدء بالقسم الممتد من طبرجا إلى طرابلس بداية ، على أن يتكامل المشروعان من خلال إنشاء محطة للربط بينهما في طبرجا .
لم يحصل أي تطور منذ ذلك الحين ، وتردّد أن البنك الأوروبي تراجع عن الهبة بسبب عدم اهتمام السلطات اللبنانية . أسدلت الستارة على المشروع لنحو سنتين ، إلى أن ظهر الصينيون ، فأبدوا اهتماماً بالاستثمار في شبكة القطارات ، تمويلاً وتشغيلاً . لكن الدخول في نفق الأزمة المالية وتأليف الحكومة أعاد الأمور إلى النقطة الصفر ، قبل أن تتبين إعادة تحريك الملف ، عبر تحديث العرض الصيني المقدم إلى لبنان ، إذ راسلت شركة CMEC رئيس الحكومة حسان دياب، في ١٦ آذار الماضي ، معلنة اهتمامها بمشروع سكة الحديد من طرابلس إلى بيروت، وبأي مشاريع سكك حديد أخرى ، موضحة أنها سبق أن أنجزت مشاريع في ٦٣ دولة ، آخرها سكة حديد في الأرجنتين بطول ٢٤٠٠ كيلو متر . وقد ترافق هذا العرض مع كتاب من بنك الصين يبدي فيه استعداده لتمويل المشروع . وزير الأشغال ميشال نجار أكد لـ«الأخبار» أن الصين «أبدت رغبة في تنفيذ أي مشروع عن طريق BOT أو حتى تمويل مشاريع ، خاصة النفق بين مرفأ بيروت والبقاع» . وهو المشروع الذي أقرّ بموجب القانون الرقم ١٧٤، تاريخ ٨ أيار ٢٠٢٠ ، الذي يجيز للحكومة اللبنانية إنجاز نفق بين بيروت والبقاع على طريقة BOT أو بالشراكة مع القطاع الخاص وتقديم مشروع متكامل عن خطة المشروع ومراحل تنفيذه وتكاليفه ضمن مهلة ستة أشهر من تاريخ نفاذ القانون المذكور» . إضافة إلى خطّي بيروت – طرابلس وبيروت – البقاع ، أنجزت الدراسات اللازمة لإعادة إحياء خط طرابلس – الحدود اللبنانية السورية (العبودية).
بهذا السرد المفصل يتبين لنا سهولة وأمكانية أنشاء السكة أو أعادة أحيائها وبتكلفة صفر بالنسبة للدولة اللبنانية مع ما يدر ذلك من مليارات الدولارات على الأقتصاد الوطني وزيادة في معدلات النمو في الناتج القومي ، ومن هذا السرد أيضا” يتبين لنا من الذي عطل كل هذه المشاريع ، ومن كان له مصلحة في تعطيلها ، ويتبين لنا أن الكلفة ليست مهمة ويستطيع لبنان أنجاز كل هذه المشايع دون أن يكبد الخزينة دولار واحد ، لأن التمويل جاهز ومن جهات عدة ، وتصوروا لن أن كل مشاريع النقل هذه نفذت بالكامل وخاصة سكة الحديد التي تربط مدن الساحل كلها لتعود وتستدير من أقصى الشمال الى البقاع ليمر بوسط البقاع ومنها الى أقصى الجنوب ومنها الى الساحل الجنوبي مجددا” ، وتفرعها عند منطقة رياق لتصل الى دمشق وعند الهرمل لتصعد باتجاه حمص ، كل هذه الوسائل الحديثة في النقل كانت لتنقل لبنان خمسون سنة الى الأمام وتزيد من الناتج القومي بنسبة تزيد عن 6 بالمئة سنويا لفترة تزيد عن عشر سنوات قادمة ، لكن للأسف السياسة وأصحاب المصالح من كارتيلات المحروقات والذين سيتضررون ، الى كارتيلات ونقابات النقل العام كلهم كانوا سدا منيعا أمام هذه الخطط وتطور النقل العام في لبنان .
زر الذهاب إلى الأعلى