ثقافة
كبار في مسيرتي… د. فيليب سالم: “هيُوستن عاصمة بْطرَّام”(هنري زغيب)
هنري زغيب* – الحوارنيوز
بيننا قصيدة منصور الرحباني “طار الزمانُ بنا يا مطعمَ الحلبي”– أَنطلياس 2013
(13 تموز/يوليو: نُضيء معه شمعتَه الثمانين)
منذ التقَيتُه مرةً أُولى لدى منصور الرحباني، وأَنا ما زلتُ أَلْتقيه بدون انقطاع: بعيدًا حيث يكون، أَو في لبنان حين يعود ليجثُو على أَرض بْطرَّام. فهو من سِرْب لبناني ناصع يغادر لبنان ولا يغادرُه لبنان.
هذا رجلٌ لا يفارقك منه الطيف ولا الصوت ولا القلب، كأَنك دائمًا في قلبه وصوته وطيفه.
بعد لقاءَات تالية كان يقول لي: “عند هبوط الطائرة لا بُدَّ من زيارة منصور ومهاتفتكَ قبل الإِكمال إلى بْطرَّام”. وبعد غياب منصور، بات يقول لي بغَصَّة: “عند هبوط الطائرة، لا بدَّ من مهاتفة هنري وتَذَكُّر الحبيب منصور قبل الإِكمال إِلى بْطرَّام”.
كيف يمكن الردُّ بما يعادل نُبْلَها، هذه الصداقة الأَبلَغ من كلماتها؟
بْطرَّام حيثما يكون
ولادتُه فيها (1941)، حياتُه منها، حنينُه الدائمُ إِليها. لا تطأُ قدماه أَرض بيروت حتى تسابقَه لهفتُه إِلى بْطرَّام. لم أَعرف في مسيرتي وفاءً بَنَويًّا لضيعته الأُم كما أَعرفه في نبض فيليب سالم. ما إِن يهنأ فيها حتى يهاتفَني: “الصنوبرة في انتظارك”، فأَهرع إِليه نجلس تحتها، نتناول فطور الصباح مع زيت الكورة وزيتونها، ونسمات تدغدغ الصنوبرة فوقنا مدَندِنةً له بالحنين: يزيد عمرها عن 100 سنة، وعى عليها منذ طفولته الأُولى، ويتمتَّع دومًا باستمطار الذكريات: زاوية “الـمُرَبَّع” الذي وُلِد فيه، الدرَج العتيق الذي كم بَــرَى عليه خطواته، الطريق الـمُـتَـأَفْــعِـن بين الشجَر والتذكار، الكنيسة التي كلما عاد إِلى بْطرَّام يحرص على خدمة قدَّاسها صبيحة الأَحد، الشُرفة العُليا تجمَعُنا سهرةً قُبالة القرنة السوداء، الغرفة التي كَنَزَ فيها أَوراقَ أَبيه أَديب، أَخبار أُمه التقيَّة تحرِّضه على العلْم…
كلّ ذلك، إِذ يستذكرُه، لا يصدر عن صوتِه وحسْب بل عن أُوركسترا وجهِه الفائح بالفرح أَن يكون قَفَزَ من هيوستن إِلى بطرَّام في ومضةِ زمنٍ يَـمتَطيها عادةً مرَّتَين في السنة (تموز/يوليو وكانون الأَول/ديسمبر) فيستعيد نَـفَسَهُ النقيَّ على أَرض الكُورة المباركة.
وفاءٌ دائمٌ لها
أَذكُر عينيه، ذاتَ كنتُ أَجول معه في دروب بْطرَّام عند عصريةٍ صيفية، كيف انقلب من رفيقِ جولةٍ إِلى نوستالجيا في هيئة رجُل يشير إِلى شجرة هنا كان فَيـئُها ملعبَه، إِلى حافةٍ هناك كان يتسلَّقها ليقطف كبوش التوت من بستان الجيران، إِلى بيت هنالك مهجورٍ كم زهَا بساكنيه قبل أَن يهاجروا ولا عودة. كان في صوته حنانٌ لونُهُ الوفاء، مذاقُهُ الولاء، نبرتُهُ انغماسٌ كيانـيٌّ في كل حبَّة ترابٍ من ضيعته، في كل نسمةٍ كورانيةٍ تَـمُرُّ بها، في كل حجرٍ من بيوتها المستلقية على كتف الذكريات، في كل بستان ممتدٍّ وسْع الأَمَل، في كل هضبةٍ قبالتَها تفتح شباكها صباحًا لتدخل منه الشمس على أَهل بْطرَّام.
في تلك الجولة، لم أَكن أُحسُّه يَمشي بل كانت قدماه تقبِّلان أَرض ضيعته في شغَف الفرح بالعَودةِ الواعدةِ بعَودات مقْبِلات لا إِلى انتهاء. وإِذِ استدَرنا عائدَين، خلتُ الجولة انتهَت. سوى أَنه حَزَمَ: “فلْنمضِ إِلى خَلْوةٍ بَعد”. وإِذا بتلك “الخلوَة” تلَّةٌ عند خاصرة بْطرَّام رمَقَها بقلبه وهو يُـبادرني: “هنا يَرقد أَبي وأُمي. وهنا سأَلتحق بهما حين تأْتي الساعة”. وفي إِيابنا من تلك التلّة، خلتُني عدتُ وحدي لعُمْقِ ما كان صمتُهُ يَهدُر في ذاك الغروب الصيفي، والشمسُ تسحب آخر رُسُلها عن هامات الشجر في بساتين بْطرَّام.
هيوستن عاصمة بطرَّام
هل تغادره بطرَّام حين يغادرها؟ أَبدًا: خلال زيارتي الولايات المتحدة سنة 2014، لم يكن ممكنًا أَلَّا “أُعرِّجَ” عليه. لا تكساس بدون هيوستن، ولا هيوستن بدون فيليب سالم. بقيتُ أُحسُّ أَنني على أَرض أَميركية حتى دخلتُ عيادتَه فخِلتُني سأَجلس معه تحت تلك الصنوبرة. ولم أَكُن مخطئًا. فما فتح ذراعيه كي يستقبلني بــ”العبْطة” المعهودة، حتى أَدخلني إِلى مكتبه فإِذا بي فعلًا “هناك”: حَولي لوحات زيتية لمشاهد من بْطرَّام، على مكتبه إِناءٌ عريض فيه غصنُ زيتونةٍ من بْطرَّام، أَمامه بين أَوراقه وأَقلامه قصعة هادئةٌ هانئةٌ فيها حفنةُ ترابٍ من أَرض بْطرَّام. عندها أَيقنتُ أَنني معه في مملكة بْطرَّام وعاصمتها هيوستن.
هذا صديقٌ من نِعَم الحياة حين تسخو بالنِعمَتَين القُصْوَيَين: الحُب والصداقة. وها الحياة أَهدَتْنيهِما: نعمة الحب حين هَدَتني إِلى داناي التي استولَدَت من خريفي ربيعًا دائمًا، وحين أَهْدتْني صداقةَ فيليب سالم.
وصداقته ليست أَحادية الوُجْهة. ها أَنا أَدعوه فلا يَعتذر عن تلبية: إِلى بيروت سنة 2018 مفتتحًا المؤْتمر الدولي الثالث لجبران (الجامعة اللبنانية الأَميركية تنسيقًا مع كرسي جبران في جامعة ميريلند) وإِلى نيويورك في السنة ذاتها مُحاضرًا في مؤْتمر جبران الدولي الرابع.
من جلجلة السرطان إِلى قيامة لبنان
لأَنه يعرفني شَغوفًا بلبنان اللبناني، حين هيَّأَ للطبع كتابه “من جلجلة السرطان قيامة لبنان”، سأَلَني – يا لنُبْلِه! – أَن أَكتُب مقدمة الكتاب، فنسَجْتُها مُغتبطًا أُخاصِر فكره اللبناني الساطع رؤْيةً ورؤْيا، منذ إِيمانه طبيبًا يضبُط السرطان بالقدرة الإلهية: “الفرح الأَكبر في قلبي هو شفاء مريض، وهذا تكريم من الله”، وبهذه الحالة النورانية ينتصر على الموت بانتصار مريضِه في شفائه، حتى إِيمانه بالقُدرة اللبنانية العظيمة على تخَطِّي سرطان الـمِحَن أَشْرَسِها وأَخْطَرِها، مبَشِّرًا بنقْلةٍ جريئةٍ في الذهنيَّة والعقليَّة، في خلْق إِنسان جديد يَثُور لا بالسلاح بل بالعقل. ويدعو أَبناء لبنان الجدُد أَن يتمرَّدوا على الواقع لصنْع مستقبلٍ يليق بهم وبوطنهم، بتغيير واقعٍ لبنانيٍّ أَسيرِ الطائفيّة، برفض الانتماء إِلى زعيم أَو شخص بل إِلى لبنان الوطن “فليتمرَّدوا بالمحبَّة لا بالحقد وبالتواصل مع الجميع لا بالفئوية، وهو التمَرُّد الحضاريّ الحقيقيّ”. ولأَنه عرف زعماء لبنانيّين يتعامَلون بأُسلوبٍ دونـيٍّ أَمام أَسيادهم خارج لبنان، عرفَ الذُلَّ على وجوههم لا يخجلون لأَنّ هَـمَّهم إِرضاءُ قيادات خارجيّة لتثبيت مصالحهم الشخصيّة على حساب مصلحة وطنهم وشعبهم. لذا صرخ بِحزم: “لبنان أَهمُّ وطنٍ في الشرق، يملك مواردَ في الطبيعة وفي الإِنسان لا تملكُها أَيُّ دولةٍ في المنطقة، وهنا عظمةُ لبنان”.
محاضرًا معنا في مؤْتمر جبران – نيويورك 2018
ربيعُه الثَمانُون
أَقُول فيه الكثير بعد، فيليب سالم. لا ينقُصُني قولٌ ولا تنضب ذكريات معه من الأَمس والحاضر وننسُج معه ذاكرةً للمستقبل.
غير أَنني اليوم أَكتفي من مسيرتي معه بإِهدائه عبر “أَسواق العرب” هذه الوردة النوستالجية: هو اليوم في هيوستن، ونحن حَوله حيثُما نحن، نُضيءُ معه -ولو عن بُعد- شمعتَه الثمانين معانقينَه بـ”العَبْطة الفيليبية” الأَليفة، داعين بالصفاء الدائم لربيعه الثمانين أَن تَظَلَّ لنا منه هناءَةُ الاصطفاء.
-
هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية.