محمد قجة* – الحوارنيوز- خاص
كنت أقرأ في أحد كتب التراث، تلك الكتب التي تتناول موضوعات عامة، تقفز خلالها من فكرة إلى أخرى، بشكل فيه صفة الشمولية وأحياناً الموسوعية، وفيه كثير من الاطّراد. وقد لفت نظري الحديث عن أحد القضاة، وأسلوبه في معالجة القضايا التي تعرض على محكمته. ومن المعلوم أن منصب القضاء كان يحذره ويتهرب منه كثيرون من الفقهاء، نظراً لحساسية العمل فيه، وخوفاً من الوقوع في خطأ بحق أحد المتخاصمين.
وحكاية القاضي الذي نحن بصدده أنه جاءه يوماً طبيب يعرض عليه الموضوع التالي:
يا سيدي القاضي.. لقد جاءني منذ أيام رجل يشكو بلهفة من أن ابنه الوحيد مريض جداً، وطلب مني أن أرافقه إلى بلده حيث الولد المريض، فاتفقت معه على أن يدفع لي ألف درهم لقاء علاج الولد وشفائه بإذن الله. وقد توجهت معه فعلاً ـ بعد أن وافق على دفع المبلغ ـ ووصلنا إلى منزله، فقمت بفحص المريض وعرفت علته ووصفت له الأشربة اللازمة، ونصحته ببعض الأطعمة، فتماثل إلى الشفاء بعون الله ورعايته .
وكان لا بد لي أن أنتظر دفع المبلغ المتفق عليه، ولكن الرجل تملّص من ذلك وادّعى أنه لا يملك هذا المبلغ، ثم أعلن صراحة أنه لن يدفع، وأمام ثورتي واحتجاجي، عرض عليّ الرجل أن أدّعي على أحد الأثرياء بمبلغ ألف درهم، وأبدى الرجل استعداده لأن يشهد هو وابنه على صحة دعواي ضد الرجل الثري.. وها أنذا أنقل إليك شكواي يا سيدي القاضي.
وكان القاضي يدرك أن للرجل المذكور سوابق في الإدلاء بشهادات ليست صحيحة، ولكنه لم يتثبت من ذلك بالدليل القاطع، وكان في كل مرة يدفع الأمور بالتي هي أحسن، ويحاول التوفيق بين المتخاصمين وقد أدرك أنه لو استدعى الرجل وابنه فسوف يشهدان زوراً ليتخلصا من دفع المبلغ للطبيب.
ونام القاضي ليلته يقلّب الأمر.. وفي صبيحة اليوم التالي استدعى الطبيب، ونقده ألف درهم من ماله الخاص، ونصحه بطيّ دعواه، فهو لا يريد سماع دعوى ضد شخص لا علم له بموضوعها، ولا يريد استماع شهادة يعلم أنها زور. ولذلك آثر أن يخسر ألف درهم من ماله اتقاءً لمتاعب لا يريدها للآخرين.
*****
ذكرتني تلك الحكاية بحكايةٍ أخرى كان جدي المرحوم يرويها لنا.. حينما كانت نسبة الأمية تقترب من مائة بالمائة، وكنت لا تكاد تجد في مدينة من يستطيع قراءة رسالة إلا بشق النفس.
وخلاصة تلك الحكاية أن إحدى ولايات الدولة توفي فيها القاضي، وكان على الوزير المسؤول أن يعين قاضياً بدلاً منه، ويبدو أن منصب القاضي كانت له أهمية تتجاوز حدوده المتعارف عليها، لذلك بادر الوزير المسؤول فاستدعى أحد أقاربه وقال له: سأعينك قاضياً في المدينة الفلانية.
ولكن هذا القريب ردّ قائلاً:
ـ ولكنني لا أعلم شيئاً عن القضاء ولم أسمع أمراً عن هذا العمل.
أجاب الوزير:
ـ إنه عمل سهل يا صاحبي.. يكفي أن تستمع للخصوم بانتباه فتعرف من صاحب الحق ومن عليه الحق .
ولم يقتنع القريب بذلك، بل تساءل:
ـ وكيف أمارس القضاء وأنا لا أعرف القراءة والكتابة، ولا أستطيع قراءة القانون المكتوب، أو قراءة المعروض الذي يقدمه الخصم في المحكمة. أرجو أن تعفيني من هذا العمل، وابحث لي عن عمل أسهل منه .
تضاحك الوزير قائلاً:
ـ أنت تتوهم الأمر يا صديقي.. سأدلك على طريقة سهلة تمارس بها عملك. سوف يأتيك رجل يدّعي على رجل آخر.. ولكي لا تتعب نفسك، اسأل كلاً من الرجلين سؤالاً محدداً: (هل عندك شهود؟) فإذا أجابك أحدهما بأن عنده شهود فاحكم له، والذي ليس عنده شهود فاحكم عليه.
فرح الرجل وقال:
ـ إذا كان الأمر كذلك، فالمسألة سهلة جداً، وأبسط مما كنت أتصور.
*****
ومضى الرجل إلى مكان عمله الجديد، وتسامع الأهالي بمقدم القاضي لاستلام عمله، فخرج وفد يسلمون عليه ويرحبون بقدومه، وفوجئ القاضي بجمهرة من الناس يتحلقون حوله ويقف أحدهم خطيباً فيقول:
ـ باسمكم يا أبناء مدينتي نرحب بالقاضي الجديد، ونحن واثقون أنه رجل واسع العلم والحلم، رحب الصدر والفكر، عظيم الأخلاق والطباع، نموذج للعدل والإنصاف، ينصف المظلوم ويردع الظالم.. ولا تأخذه في الحق لومة لائم …
كان القاضي يستمع إلى الخطبة العصماء يلقيها الرجل، وهو لا يدرك شيئاّ مما يدور حوله، ولكنه تذكر شيئاّ واحداً، هو نصيحة قريبه الوزير بشأن الشهود. فانبرى يسأل الرجل الذي ألقى خطبته العصماء بحدة ولهجة آمرة:
ـ هل لديك شهود على الكلام الذي تقوله؟! وأُسقط في يد الرجل ولم يعلم عن أي شيء يتحدث القاضي.. وسأله:
ـ ولماذا الشهود يا سيدي القاضي؟
التفت القاضي إلى حرسه قائلاً:
ـ خذوا هذا الرجل إلى السجن، لأنه ليس لديه شهود.
*****
إنها مسافة زمنية عمرها أكثر من ألف سنة.. بين القاضي العالم النظيف التقي الذي يمثل مرحلة الازدهار الحضاري، وبين القاضي الجاهل الأميّ الذي يمثل نهاية مرحلة السقوط.
*باحث – سوريا
الأمين العام لدى حلب “عاصمة الثقافة الإسلامية” – رئيس جمعية العاديات.
زر الذهاب إلى الأعلى