بقلم تريستان هيليون –لوني*- TRISTAN HILLION-LAUNEY
ترجمة: يونس زلزلي**
الحوارنيوز – خاص
إذا كانت الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والثّقافيّة للشّيعة اللبنانيّين منذ استقلال لبنان إلى بدايات الحرب الأهليّة في العام 1975، قد وُضِعَتْ تحت الضّوء في السّنوات الأخيرة شأنها في ذلك شأن أوضاع اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان؛ فإنّ التّفاعلات والعلاقات المتبادلة بين هاتين الجماعتين قّلّما حظيت باهتمامٍ موازٍ. بالإضافة إلى ذلك، يكاد يتعذّر إيجاد منشورٍ واحد يخبرنا بما يكفي عن العلاقة المعقّدة الّتي ربطت بين حركتي أمل وفتح في سبعينيّات القرن الماضي.
انبثقت هذه السّلسلة في أربع مقالات من مسحٍ ميدانيّ أجريَ في لبنان في شتاء العام 2020، في إطار رسالة ماجيستير وأطروحة دكتوراه في التّاريخ في مدرسة الدّراسات العليا في العلوم الاجتماعيّة في باريس (EHESS) بعنوان (Amal et les guerres du Liban (1975-1990), Histoires croisées) بهدف إبراز التّقاطعات المشار إليها أعلاه. ستركّز المقالة الأولى على وضعيّة هاتين الجماعتين من الاستقلال إلى عشيّة اندلاع الحرب الأهليّة. في حين، ستُعنى المقالة الثّانية بالسّياقين الجيوسياسيّ الإقليميّ والسّياسيّ والعسكريّ المحلّيّ اللّذين ربطا هاتين الجماعتين. أمّا المقالة الثّالثة؛ فستتناول العلاقات الاستراتيجيّة الّتي انعقدت بين مؤسّس حركة المحرومين (أمل لاحقًا) الإمام موسى الصّدر وياسر عرفات في بداية السّبعينيّات. وتتناول المقالة الرّابعة والأخيرة الخصومات والتّوتّرات والمواجهات بين هذين القطبين منذ بدايات حرب لبنان وصولًا إلى اختفاء القائد الكاريزميّ لحركة أمل في ليبيا في العام 1978.
التّهميش والتّمييز واللّامساواة: يوميّات مشتركة
على الرّغم من تعيين شيعيّ لرئاسة مجلس النّوّاب بعد العام 1947، في إثر احتجاجاتٍ شيعيّةٍ أعقبت منح هذا المنصب لطائفة الرّوم الارثوذكس (Mervin, 2000, p. 412)؛ فإنّ الشّيعة اللبنانيّين، ظلّوا حتّى عشيّة اندلاع الحرب الأهليّة طائفةً مهمَّشة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا وتاريخيًّا. لذلك، “حَوَّلَ شيعة الجنوب وجهتهم إلى حيفا، وفلسطين حاضرتهم الطّبيعيّة” (Picard, 1985, p. 1003)، وليس إلى بيروت. وكان التّطهير العرقيّ في فلسطين (Pappé, 2006)، قد شَتَّتَ سبعمئة ألف فلسطينيّ في البلدان المجاورة، اتّجه ما يقارب المئة ألف منهم إلى لبنان. فانقطعت صلة أهل جبل عامل (جنوب لبنان) مع فلسطين، لتشخص أبصارهم إلى بيروت. في كتابه الصّادر في العام 1946 (Syria and Lebanon. A political essay) أشار ألبرت حوراني إلى حاجة الشّيعة إلى تنظيمٍ اجتماعيّ وإصلاحيّ وإلى تحسين ظروفهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة قبل أيّ شيءٍ آخر”. (Norton, 1987, p. 15) Hourani, 1946, cité par:. وقد أظهرت دراسات سليم نصر أنّ نسبة الأمّيّة بين الشّيعة بلغت 68,9% مقابل 31,5% بين المسيحيّين الكاثوليك في العام 1943 (Nasr, 2013). على الرّغم من النّموّ الاقتصاديّ الكبير في العقود الثّلاثة اللّاحقة؛ فإنّ استفادة الجماهير الشّيعيّة من تنمية البلاد كانت محدودة أو شبه معدومة. وهذا ما يفسّر نزوح الشّيعة من أريافهم بين العامين 1943 و1975، ليستقرّوا في ضواحي العاصمة اللبنانيّة بجهاتها الأربع الشّرقيّة والغربيّة والشّماليّة والجنوبيّة بحثًا عن فرصٍ أفضل. (Nasr, 2013) وغالبًا ما كانت الهجرة والانتقال مشوبتين بعدم الاستقرار في الضّواحي الّتي سكنت فيها أعداد كبيرة من اللّاجئين الفلسطينيّين؛ فأسهموا في تكوين ما عُرِفَ بحزام البؤس حول بيروت. ومع ذلك، لا بدّ من تأكيد نشوء طبقة وسطى متواضعة وبرجوازيّة شيعيّة بفعل افتتاح الجامعة اللبنانيّة في العام 1951، وانتشار المدارس وتوفّر الوظائف العامّة (ابتداءً من عهد الرّئيس فؤاد شهاب بين العامين 1958 و1964). يضاف إليها، وبشكلٍ أساسيّ، نمو رأس مال شيعيّ في أفريقيا والخليج امتلكه بعض المغتربين الشّيعة الّذين تعذّر صعودهم في لبنان. لم يحل ذلك دون بقاء الجماهير الشّيعيّة محكومةً بالتّفاوت والتّمييز اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وسياسيًّا (تمامًا مثل الفلسطينيّين)، يكرَّس هذا التّفاوت في منحى آخر، الإصرار على نعتهم المهين بالمتاولة. وقد أشار حسن شريف مثلًا، أنّه بناءً على إحصاءات حكوميّة ؛ فإنّ الجنوب الّذي يبلغ عدد سكّانه 20% من إجماليّ عدد السّكّان في لبنان في العام 1974، لا يحظى إلّا ب 0،7% من ميزانيّة الدّولة (Norton, 1987, p. 18). تحدّث مسؤولون منهم محسن ابراهيم، المفكّر الشّيعي وعضو حركة القوميّين العرب وأحد مؤسّسي منظّمة العمل الشّيوعيّ في لبنان لاحقًا عن “الطّائفة الطّبقة” (Picard, 1985)، مترجمًا التّفاوت الاجتماعيّ والحرمان اللّذين عانياهما الشّيعة بمصطلحاتٍ ماركسيّة.
أمّا الفلسطينيّون الّذين لجأوا إلى لبنان، وباستثناء بورجوازيّة رجال الأعمال المندمجة كلّيًّا في الدّوائر التّجاريّة والماليّة اللبنانيّة على شاكلة المصرفيّ يوسف بيدس؛ فقد تقاسموا مع الشّيعة اللبنانيّين حياة يوميّة متشابهة. واستقرّ قسمٌ كبيرٌ من هؤلاء في مخيّمات اللّاجئين الّتي كانت تقع بمعظمها في مناطق سكنيّة يغلب عليها الحضور الشّيعيّ (ستّة مخيّمات في جنوب لبنان وستّة في بيروت من إجماليّ ستّة عشر مخيّمًا أنشِئَت في العام1958) (Sfeir, 2008 ; Doraï, 2013 ; Meier, 2015). كان الفلسطينيّون ولا يزالون ممنوعين من مزاولة مهن كثيرة. وقد عانت أكثريّتهم من التّمييز وعدم الاستقرار (Seguin, 1988 ; El-Natour, 1993 ; Sayigh, 1994 ; Doraï, 2013)، على الرّغم من إسهام البرجوازيّة الفلسطينيّة إلى حدٍّ كبير في النموّ الاقتصاديّ اللبنانيّ بعد العام 1948 (El-Natour, 1993 ; Ṭarābulsī, 2013). كانت الجماعتان الشّيعيّة والفلسطينيّة تمثّلان بروليتاريا كبيرة تعتاش غالبًا من أعمالٍ محفوفةٍ بالمخاطر وغير مستقرّة. أمّا بخصوص سكّان المخيّمات الفلسطينيّة؛ فقد أشارت دراسة أجرتها وزارة التّصميم العامّ في العام 1971 إلى أنّ 60% من سكّان المخيّمات البالغين سنّ العمل لا يعملون، وأنّ 40% من القوى العاملة (11000 عاملًا) كانوا عمّالًا مياومين، بينما لم يتجاوز الألفين عدد العاملين بشكلٍ دائم (Seguin, 1989, p. 69). في 14 حزيران 1975، دعا أحد صحافيّي جريدة الأهرام المصريّة موسى الصّدر للرّدّ على تصريح لبيار الجميّل (مؤسّس حزب الكتائب وزعيمه من 1936 إلى 1984)، أعلن فيه أنّه لا يمكن الحديث عن البؤس في لبنان، وأنّ الفقراء فيه كانوا أكثر سعادةً من نظرائهم في بلدان أخرى. فأجاب الإمام موسى الصّدر: “فليسمح لي الشّيخ بيار أن أدلّه إلى أحياء شرشبوك والسّلّم والكرنتينا… إلى حزام البؤس الذي يحيط مدينة بيروت، وليسمح لي أيضًا أن أدلّه إلى قرى المحرومين في البقاع والهرمل… إنّ التّفاوت الفاحش في لبنان يعادل 20 ضعفًا بين المحرومين والمترفين… هذا الواقع ينطبق أيضًا على الفلسطينيين في لبنان، حيث تعيش الاكثريّة في مستوياتٍ حياتيّةٍ بائسة، فضلًا عن الحرمان من الوطن…” (الصّدر، 2000، صفحة 569). تحدّث العديد من المسؤولين في ذلك الحين، بدءًا بالإمام موسى الصّدر، عن التّداخل والتّلاحم بين الجماعتين انطلاقًا من الشّعور المشترك بالحرمان والغبن والظّلم (الصّدر، 2000، صفحة 572) (شمران، 2018، صفحة 143) . ويُلَاحَظ هذا التّرابط في المشهد السّياسيّ، بتزامنه على وجه الخصوص. في الواقع، كان النّشاط السّياسيّ المتزايد للفلسطينيّين منذ العام 1964 هدفًا لقمع أجهزة المخابرات العسكريّة، المكتب الثّاني، حتّى تشرين الثّاني من العام 1969، حين وُقِّعَتْ اتّفاقيّة القاهرة بين العماد قائد الجيش اللبنانيّ إميل البستانيّ وياسر عرفات (رئيس اللجنة التّنفيذيّة لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة منذ شباط 1969). كان العام 1969 مفصليًّا للفلسطينيّين الّذين تمتّعوا بحرّيّةٍ أكبر في العمل بعد أن تحرّروا من الرّعاية القسريّة المصريّة ونالوا اعترافًا من الدّولة اللبنانيّة بنشاطهم السّياسيّ والعسكريّ. نلاحظ أيضًا، أنّ العام 1969 كان مفصليًّا أيضًا للطّائفة الشّيعيّة. ففي 22 أيّار 1969، انتُخِبَ الإمام موسى الصّدر رئيسًا للمجلس الاسلاميّ الشّيعيّ الأعلى (ضاهر، 2000، صفحة 19). يمكن اعتبار هذه اللحظة بمثابة الدّخول الحقيقيّ للشّيعة إلى المشهد السّياسيّ اللبنانيّ واجتماع شريحة واسعة منهم تحت قيادة الإمام موسى الصّدر الكاريزميّة، على الرّغم من معارضة بعض الأعيان والعلماء الّذين قاطعوا الانتخابات. قبل انتخاب الإمام موسى الصّدر رئيسًا للمجلس الاسلاميّ الشّيعيّ الأعلى، لم يكن للشّيعة هيئةٌ وسيطةٌ تمثّلهم مؤسّساتيًّا، خلافًا لمعظم الطّوائف اللبنانيّة الأخرى. يؤكّد حسين الموسوي، المقرّب من الإمام موسى الصّدر منذ مجيئه إلى لبنان، أنّ تأسيس المجلس الاسلاميّ الشّيعيّ الأعلى كان نقطة انطلاق لمرحلة بناء وتنسيق ترمي إلى إنشاء تنظيم سياسيّ:
“والمكان الّذي انطلقنا منه المجلس الشّيعيّ ومن أجل بناء حركة سياسيّة، كما للآخرين حركاتهم: اليمين واليسار عندهم تنظيماتهم، والفلسطينيّون عندهم تنظيماتهم واللبنانيّون والسّوريّون، كلّ واحد عنده تنظيم سياسيّ في لبنان. فكان من حقّ الشّيعة أيضًا المحرومين والمظلومين أن يكون لهم تنظيمٌ سياسيّ يهتمّ بشؤونهم وأمورهم من خلال المجلس النّيابيّ ومن خلال الحكومة وغير ذلك…” (الموسوي، 2019)