محمد هاني شقير – الحوارنيوز- خاص
يجهد الوطنيون انفسهم في جميع مستوياتهم السياسية والشعبية والتنظيمية، محاولين ترميم ما يمكن ترميمه ممّا تبقّى من انتفاضة ١٧ تشرين ٢٠١٩.
بعد سنة ونصف السنة على انطلاقة الانتفاضة، يزيد تعلق الحزب الشيوعي بها ،معتبرًا انها حبل النجاة الأوحد لوطنٍ اثخنه حاكموه جراحًا وقتلاً، حتى بات جثةً ينتظر الجميع توقيت إعلان موته الفعلي وليس السريري كما هو حاصل اليوم.
لقد مرت انتفاضة ١٧ تشرين بطرق متعددة ووصلت الى مستويات متقدمة جدًا وغير مسبوقة، شعبيًا وجماهيريًا، وملأت نخبها الشوارع، وتحولت ساحات بيروت والمناطق الى واحات نقاش وتفاعل لا نظير لهما. وتحلق الناس حول المنتدين وكانوا ينصتون باهتمام إلى كل محاضر أثناء تشريحه أزمة الوطن وأسبابها العميقة والحلول التي من شأنها النهوض به من جديد.
كيف تعامل الفقراء مع المنتفضين؟
عوّل المنتفضون ذوو البعد اليساري القومي كثيرًا، منذ البدايات، على جماهير الفقراء وظنوا – وإن بعض الظنّ إثم- أن بعض القوى السلطوية غير المنضوية في الانتفاضة يمكن ان تترك لتلك الجماهير حرية التحرك والنشاط، لكن ما جرى كان مخيبًا ومنطقيًا في آن؛ فقد انسحب الطيف الواسع من تلك الجماهير من الصفوف ملتزمين بدقة توجهات القوى التي تؤثر فيهم، بل تحول جزء منهم الى أداة قمع للمنتفضين في الساحات وتشويه لحراكهم في وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فصاروا – كما قواهم وأعلامهم- يبحثون بين المنتفضين عن مغالٍ هنا ومناوىء هناك، ويكفي أن نشير مثلاً الى واقعة تمنُّع وسيلة إعلامية (…) عن نقل مشهد حرق العلم الإسرائيلي، وتفضيلها البحث عمّن يشتم في مكانٍ آخر، والشواهد في هذا المضمار لا تعدّ ولا تحصى.
ماذا عن اليمين والجمعيات؟
بموازاة ذلك وضع اليمين اللبناني وبعض جمعيات المجتمع المدني، إمكانات طائلة لخدمة اهدافهم في الانتفاضة، وهم صوبوا على نحو مريب وشخصي على اركان السلطة، وكأن الأزمة تكمن في الأشخاص أنفسهم! وكرسوا اعلامهم لطرح مشروعهم الواحد الأوحد القائم على تجديد النظام الطائفي من خلال إجراء انتخابات نيابية مبكرة وفق القانون الانتخابي ذاته، فجل همهم كان وما زال وسيبقى، نتش عدد من النواب من جسد التيار الوطني الحر وبعض قوى السلطة الأخرى، وكفى الله المؤمنين شر القتال!
ماذا عن القوى التقدمية؟
لقد اتضح جليًا ان جزءًا كبيرًا من القوى التقدمية في الانتفاضة ينشط في الساحات ويملأها في بيروت والمناطق، وتزينت ساحتا العازارية ورياض الصلح والشارع الطويل الذي يربطهما بهذه القوى والمجموعات. ويحضرني هنا صورة جيفري فيلتمان التي علقت فوق مبنى مهجور وقد ألصق فيها فمه. ولكن ترى من الذي “شلّعها” في ذلك الحين؟ ولأي سبب فعل ذلك؟
تكمن المشكلة هنا في أفراد هذه القوى بالذات، فهم لم يستطيعوا، أو لم يريدوا بلورة قيادة موحدة تقود عملهم وفعالياتهم، وصار كل فصيل منها يعتقد بأنّه هو نفسه من يملك الحقيقة، وليس على سائر الفصائل سوى الاقتداء به!
لكن وللأمانة، فقد جرت محاولات حثيثة، بلا حسابات فئوية، لتجميع تلك القوى تحت شعارات وبرنامج محدد وواضح، بغية تنسيق فعاليات الانتفاضة والخروج بموقف سياسي واحد موحد. غير أن كبر رأس بعضهم وحجم الهجمة ضد الانتفاضة خيب الآمال. وربما يعتقد بعضهم أن الأمر سهل، وهو بمتناول الجميع، لكن الحقيقة غير ذلك تمامًا؛ وسيأتي ذلك اليوم الذي يعلن فيه من تولى مهمة التنسيق مع تلك القوى حول حجم اللقاءات والنقاشات التي جرت على جميع الصعد، واستهلكت وقتًا طويلًا، وصل فيها الليل بالنهار مع المعنيين، ولكنّها لم تأت بنتائج ملموسة ومثمرة.
مع كل ذلك، ما الذي يجعل قوتين رئيسيتين كالحزب الشيوعي والتنظيم الشعبي الناصري وبعض المجموعات التي يبدو أن هناك من يعيرها أهمية تفوق حجم فعاليتها، وهذا ليس انتقاصًا منها، بل إضاءة ضرورية يجب التنور بها، يجعلهم يصرّون على الرهان على الانتفاضة كما لو أنها ما زالت كما بدأت في عزّ صخبها وضجيجها الجميل.
بالموازاة، هناك شبه اجماع على أن قوى السلطة السياسية الحاكمة، لا تريد صياغة برنامج اقتصادي اجتماعي سياسي ونقدي، لوقف النزيف الحاصل في جسد الوطن، وهي قوى تنقسم بين مكابر ومنتظر. فالمكابر لا يزال يعتقد أن الحلول متوافرة بين ساعٍ إلى مديونية مشروطة جديدة وبيع ما تبقى من قطاع عام، والمنتظر يبني أحلامه على مراهنة المكابر وتوقعه، وهذا هو الأهم بالنسبة إليه، تطورات عالمية ذات مفاعيل اقليمية كبرى يكون لبنان جزءًا منها.
ما العمل؟
هنا نعود الى تلك القوى المراهنة على حراك الناس، كالتنظيم الناصري والحزب الشيوعي اللذين يقدمان برنامجًا لحل أزمة الوطن، مفصلًا وواضحًا، كما شربل نحاس – الذي ينتظر الرؤساء ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري ليزوروه في عرينه، ويقدموا له السلطة السياسية على طبقٍ سلميٍ فوق حصانٍ ابيض- وكل من يجيد القراءة والإنصات، بمقدوره ان يجيب عن اي سؤال ممكن في هذا السياق. ويمكن تلخيص كل ذلك بمضمون تغريدة واحدة للباحث الاقتصادي كمال حمدان جاء فيها:
“الحلم” بخفض الدولار الى 5 آلاف ل.ل يتحقق بحكومة من خارج المنظومة تتولى الآتي: تحديد الثقب الأسود، توزيع الخسائر، تأمين الرقابة على التحويلات، مواكبة التحقيق الجنائي، رفع السرّية والحصانة، استرداد الأموال، إصلاح المصارف، فرض الضريبة التصاعدية وتفكيك الاحتكارات، إعادة هيكلة الانفاق العام، بدء تنفيذ مشاريع البنى التحتية التي تؤمًن الانتقال الى الفضاء الرحب للانتاج. وقبل ذلك مقاومة الضغوطات الخارجية وتوفير التغطية الصحّية للجميع”٠ يضاف الى ذلك تطبيق ما غفلت عن تطبيقه السلطة منذ ثلاثين عامًا من مندرجات في وثيقة اتفاق الطائف، من جهة إنتاج قانون انتخاب عصري، ووضع خطّة لإلغاء الطائفية السياسية.
هذا في البُعد النظري؛ لكن هل ما زالت الانتفاضة هي الحل؟ وهل تلك الحراكات المركزية والمناطقية التي يصر عليها الشيوعي ستقود الى التغيير المنشود؟
على الرغم من أهمية هذه الحركات، إلا أنها، من المقدّر، ألّا يكتب لها النجاح، في الأقل بالمدى المنظور، وهي لم تعد تجدي نفعًا، وتضيع مجهوداتها عند أول تحرك لقوى السلطة، والذي، لمسناه على مدى الانتفاضة، وعلى نحو لافت، عندما ارتفع سعر صرف الدولار بشكل جنوني مؤخّرًا، بحيث لم يخل من حيثية مذهبية أو طائفية. لذلك، على قوى التغيير الديمقراطي البحث عن سبل اخرى للمواجهة، مهمتها تكمن في اجتراحها خطّ السير نحو رؤية تمتصّ ظلمة النفق، آخذة بعين الاعتبار كل الظروف المحيطة والمساعدة والمانعة ايضًا لنجاحها، شريطة ان يتوافر فيها عنصران رئيسيان: الاقتصاد في الكلفة في زمن ندرة الإمكانات وشح الموارد، ومضاعفة استثمار الفاعلية. وأينما توجّهت الأنظار، لا بدّ من القيام باعتصام مركزي مفتوح في ساحة من ساحات “العاصمة” بيروت، بحيث لا تتوقّف فيه اللقاءات والندوات المفتوحة إعلاميًّا، ويشارك فيها الخبراء والمتخصّصون و”الفاهمون” وكلّ من يتّفق على أهداف إنقاذ الوطن والنهوض لمواجهة الأزمات، بخطط تستند إلى التشريعات والقوانين والحسابات والأرقام والمسارات النافذة… بحيث تطلق فيها القرارات التي تلزم السلطة الأخذ بها، وذلك انطلاقًا من مبدأ الاعتراض السلمي الهادف والمتواصل.
وهنا نطرح سؤالاً على المنتفضين أو على القيمين على الانتفاضة: ألا ترون أنّ وجود الخبراء والمتخصّصين، إلى جانب تحرّكات الناس في الشارع، يضاعف التأثير في الرأي العام اللبناني؟
هناك خشية أن تكون الحراكات، على أهميتها في ظل الظرفين الموضوعي والذاتي اللذين تمر بهما المنطقة ولبنان، أن تكون وحدها قاصرة عن تعديل موازين القوى الداخلية، فلا يُكتب لها النجاح، وتضيق بالتالي، دائرة النار، وتلتهم معها مساحة العقلانية والواقعية!
زر الذهاب إلى الأعلى