حكم الواقع
د. عدنان عويّد – الحوارنيوز خاص
إذا كان حكم القيمة هو مجموعة المبادئ والقوانين والأنظمة والعقائد والايديولوجيات والتشريعات والقيم الأخلاقية والعادات والتقاليد.. الخ، التي نرغب في تطبيقها على سلوكياتنا وطرق تفكيرنا، وطموحاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لاعتقادنا أو إيماننا بأنها هي القادرة على تحقيق حياة أفضل لنا. فإن حكم الواقع هو مجموعة الظروف الموضوعية والذاتية التي تحيط وتتحكم بنا أثناء ممارستنا لنشاطاتنا المادية والروحية في هذه الحياة، وبالتالي ستتحكم هذه الظروف بالضرورة بمعظم أحكامنا القيمية التي جئنا على تعريفها أعلاه.
فإذا كان المقصود بالظروف (الموضوعية) هنا، هي تلك القوانين الموضوعية المستقلة عن وعينا وإرادتنا التي تجري في عالمنا الطبيعي الكوني وفي وجودنا الاجتماعي دون إرادتنا، كالقوانين الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية وغيرها في العالم الكوني. أو في وجودنا الاجتماعي بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، كقوانين التحولات الاقتصادية مثلاً، كقانون القيمة وفضل القيمة، وتراكم الرأسمال، والاحتكار والاستغلال، وتأثر قوى الانتاج على علاقات الانتاج.. الخ. أو في المجتمع، كقانون التناقضات الطبقية والصراع الطبقي وغيرها. أو في السياسة حيث تظهر من خلال التحولات الكبيرة والعميقة في انتقال المجتمعات من بنية العشيرة والقبيلة إلى بنية الدولة، وقوانين عملها، ومن يتحكم فيها من القوى الاجتماعية تاريخيا.. أما على مستوى البنية الثقافية، فتظهر طبيعة الوعي الذي يتحكم في إنتاجه الواقع المعيوش، على اعتبار أن التوجه العام لساكن القصر غير ساكن الكوخ كما يقول فيورباخ، وبنية التفكر في المجتمع البدائي غيرها في المجتمع الرعوي أو الزراعي أو الصناعي.. وغير ذلك.
أما الظروف (الذاتية)، فهي الظروف المتعلقة بالحامل الاجتماعي لهذه القيم والممارس لها في الواقع، من حيث وضعه الاجتماعي ودرجة ثقافته واهتماماته ومصالحه ودرجة انتمائه لمعتقده أو دينه أو مذهبه أو طائفته أو غيرها من مرجعياته الإنتسابية.
إذن، حكم الواقع هو الحكم الذي يتحكم في طبيعة ودرجة حكم القيمة.. والرياح تجري دائما بما لا تشتهي السُفُن أو السَفَن.
إن الدعوة للدولة المدنية والتنظير لها حكم قيمة لما لهذه الدولة من أهمية في تحقيق العدالة والمساوة وسيادة القانون والمؤسسات والحرية ومساواة المرأة والتقدم على كافة المستويات، بيد أن أنظمة العشيرة والقبيلة والطائفة وتخلف قوى وعلاقات الإنتاج وتعدد أساليب الانتاج وتداخلها وسيادة المتخلف منها كظروف موضوعية من جهة، وأنانية الطبقة الحاكمة ومصالحها الضيقة من جهة ثانية، يحولان دون تحقيق هذه الدولة في مجتمعات عالمنا العربي على سبيل المثال.
وما ينطبق على الدولة المدنية ينطبق على دولة الحاكمية التي تريد العودة بالواقع وفقاً لقيم الماضي متجاهله الشرط الزمني والمكاني في قبول قيم الحاكمية أو رفضها.
وهكذا علينا دائما أن نربط أحكام قيمنا بواقعنا, مع تأكيدنا على ضرورة تجاوز هذه الظروف ولكن بمواقف عقلانية نقدية، وليس بمواقف ذاتية ورغبوية تنطلق من المثالية الذاتية أو الموضوعية، فبمثل هذه المواقف المنفصلة عن الواقع أو المتعالية عليه، تجعلنا نمارس سلوكيات تدميرية لواقعنا وتزيد من تخلفنا.. فعندما نقول الواقع للدين أو للأيديولوجيا وليس العكس، أو عندما نقول نحن لا نبحث عن الواقع في النظريات بل في التجربة أو الممارسة، فنحن في كلا التوجهين نمارس الخطأ في المنهج في نظرتنا الأيديولوجيا المتعالية عن واقعنا وضرورة الصعود إليها، فنحن في مثل هذا الموقف الفكري المتعالي، نعمل على لوي عنق الواقع كي ينسجم مع العقيدة أو الأيديولوجيا، وفي مثل هذه الحالة نقع تحت سرير بروكوست،(1) أو اليسار أو اليمين الطفوليين.(2). أما في توجهنا نحو التجربة، فهذا يدفعنا لجعل المجتمع ساحة للتجارب.. نجرب ونخطئ ونخطئ ونجرب وهكذا دون مراعاة لأي مواقف استراتيجية أو أهداف عامة ذات طابع عقلاني تطابق واقعنا.
ملاك القول: حكم الواقع في صيغته العقلانية النقدية, هو الحكم الذي يبحت عن حكم قيمة ينسجم معه, وهنا نحقق حكم قيمة مطابقا للواقع, ولكنه قابل للتطور والتبدل وقادر عبر حوامل اجتماعية مؤمنة بقضايا الإنسان أن تعمل وتساهم في تجاوز ما هو متخلف في عالم دولنا ومجتمعاتنا نحو عالم أكثر رقياً وتقدما.
كاتب وباحث من سورية*
1- سرير بروكست. بروكست قاطع طريق في الأسطورة اليونانية، لديه سرير يضع عليه ضحيته، فإذا كان الضحية أطول من السرير قام بتقطيع أجزاء من ساقي الضحية كي يتساوى مع طول السرير، وإن كانت الضحية أقصر من السرير، قام بمط ساقي الضحية كي يتساوى مع السرير. ففي كلتا الحالتين تأتي عملية التوازي قاسية وخارج المنطق.
2- اليسار الطفولي أو اليمين الطفولي هو تشبيه بليغ بوضعية طفل يريد من أمه أو أبيه أن تحقق رغباته دون النظر إلى امكانياتهما في تحقيق هذه الرغبات