هدى سويد ـ إيطاليّا
تضرُّ الديموقراطيّة أحيانا عندما يتم استخدامها من قبل الذين لا علاقة لهم بها ، أو من يسيئون استخدامها .
ففي بلد يُعدُّ ديموقراطيا، يكفي أولئك إفتعال أزمة للإطاحة بحكومة ووضع البلاد على "كفّهم "!
في بلد ديموقراطي ـ وإن سلّمنا جدلا أنّ الديموقراطية باتت بحاجة إلى إعادة النظر في تقنياتها ومفاهيمها ـ تكفي الحاجة إلى برلماني واحد دون معرفة نواياه ، يُدلي بصوته مؤازرا أومُعارضا كي يقلب الأمور رأسا على عقب ويُغيّر مسار الأمور المصيريّة ! فكيف إن كان يحصل ذلك في مرحلة مُظلمة كالكوفيد 19، وفي بلد اعتاد على عدم ديمومة الحكومات والمُناكفات كإيطاليا ، حيث تغليب المصالح الحزبيّة أحيانا ومفاتيحها بمفاهيمها الديموقراطيّة تطغى على الوطنيّة ؟
وإن كان ذلك ما يتميّز به السياسيون بشكل عام ، أي قلب الطاولات إن كانوا خارج بريقها ، غير راضين "ديموقراطيّا" وانطلاقا من عزلتهم ، بتفرد الأغلبية الحاكمة واستثنائهم في اتخاذ القرارات .
وإن كنّا نجد أحيانا من يُراعون الأوضاع واضعين مصلحتهم الشخصيّة ومُعارضتهم على حدة مُنتظرين الوقت المُناسب ، لكننا نجد أيضا آخرين ينتهزون الأوضاع ،موقتين قنابلهم للإصطياد في المياه العكرة ، كالأزمة التي انفتحت على مصراعيها في الآونة الأخيرة .
وكما سعى ترامب في أميركا بأنانيته وجنون عظمته الكيد ، وقلب أميركا والبيت الأبيض على رأس الأميركيين والرئيس المُنتخب ، ففي إيطاليا ثمة شبيه به يُدعى "ماتيو رينزي" الجاهز دوما لإفتعال هكذا نوع من الهزّات تحت شعار "أنا موجود" ، أكثر من أي غرض ديموقراطي ووطني آخر، مع فارق كبير بينه وبين ترامب أنّه لا يُشكّل في إيطاليّا أكثر من 2,5بالمئة (وثمة من يخمد اللهعلى هذه النعمة) !
وبالرغم من النسبة هذه التي يُمثلها ـ وإن كان الإعتراض حق ديموقراطي ـ عمد مؤخرا الى اختلاق وافتعال صراع وأسباب ليس الهدف منها سوى نسف الحكومة التي يترأسّها جوزيبي كونتي ، واضعا البلاد أمام أزمة هي بغنى عنها في ظل الظروف العصيبة ، وكأنّ ما تمرّ به من طوفان على موج الوباء على مُختلف الصعد غير كاف، من صحيّة، إقتصادية ، ماليّة وإجتماعية ، وفي فترة بدأ حصاد إيجابيّات الجهود السياسيّة وما نجم عنها من ثمار تلخصت بمُساعدات المجموعة الأوروبيّة .
يبدأ السياسيون المعارضون في كل مرّة بنوباتهم وأمراضهم ، يُعبرون من خلالها عن حرقتهم بسبب بعدهم عن صلب اتخاذ القرارات، سواء من قبل أحزاب يمينية وفاشيّة ـ كرابطة الشمال (ماتيو سالفيني) وأخوة إيطاليا (جورجيا ميلوني) وإيطاليا القوية(سيلفيو برلسكوني ) أو من قبل التي تُسمّي نفسها باليسارية ،وهي كثيرة إن استثنينا منها الحزب الديموقراطي ( سكرتيره الحالي نيقولا زينغاريتي) منها على سبيل المثال التي يرأسها رينزي ـ مُتذرعين ب "ضرورات وطنيّة" مُستفيدين من مواقف وأوضاع صعبة تسود البلاد للعب على أوتار المواطن الحسّاسة ، وهي كثيرة في هذه الفترة بسبب كارثة الوباء وما خلّفه من إقفال ، والبطالة ، إضافة إلى عبء اللاجئين والنازحين ، إلخ .. الغرض منها الحصول على كرسي أو حقيبة وزاريّة ، وكيف الحال إن كانوا يجدون اليوم في مسألة المساعدات الأوروبيّة التي تقدر بحوالي 209 مليار يورو فرصة ل " ضروراتهم " واحتجاجهم ، ينصبون أنفسهم مُدافعين عن الفقراء والمُحتاجين متذرعين بسوء توزيع المساعدة وضرورة تنظيم نفقاتها .
وهكذا فعل رينزي (مواليد 1975) الذي درس القضاء وترأس سابقا بلدية فلورنسا ما بين 2009 و2014 كما كان عضوا في الحزب الديموقراطي للوسط اليساري كما يُسمى (تأسس عام 2007 فوق أنقاض أو بتحديث الحزب الشيوعي وتولّى حكومات ثلاث ويشارك في الحكومة الحاليّة منذ العام 2018 ) وعلى مدى فترة منذ توليه عام 2013 أقصى فيها كل الرموز الحزبيّة القديمة ، وسعى بكل أوصاله للوصول إلى رئاسة الحكومة الإيطالية وتمكّن من ذلك بعزل رفيق دربه في الحزب أنريكو ليتّا ـ الذي ترأس الحكومة لفترة وجيزة ـ مُستفيدا حينها من موقعه كسكرتير للحزب الذي كان يُشكّل حينها قوة سياسيّة .
واعتُبر رينزي الرئيس الأصغر سنّا في تاريخ الحكومات الإيطاليّة كما كانت حكومته التكنوقراط (2014 ـ 2016) التي استمرت أكثر من كل الحكومات السابقة وعقد المواطن عليها الآمال ، إلاّ أنّها ورينزي انتهيا بالفشل الذريع معا ، وأصبح بعد سقوطها سيناتور في المجلس النيابي ، كما استمر السقوط حليفه بخسارته موقع سكرتير الحزب ، بل عندما لم يحرز ديموقراطيّا أغلبيّة الأصوات المطلوبة للفوز ، ولم يتم انتخابه من جديد عام 2017 ، انفصل عن الحزب وشكّل حزبه الخاص " تعيش إيطاليّا " ، الذي منه تمّ اختيار وزيرتين إلى جانبه في حكومة كونتي ،ومعه في البرلمان عدد قليل من النواب ، بينما قدّم استقالته مع وزيرتيه (وصل مناصروه هؤلاء عندما كان الحزب الديموقراطي غير منقسم بعد ) مُحاولا التأكيد أنه لا يتمسك بالكراسي مع أنها حلمه الدائم ، إثر حملة أثارها دون سابق إنذارعلى الحكومة الحاليّة خارج جدران الديموقراطية الموقع الأساسي للإعتراض ، حملة غير مُقنعة لأحد ودون منطق ، إلا المستفيدين منها ، طالب فيها بمد جسر مواصلات ما بين إقليمين جنوبين !؟ وكأن البلاد في وضع طبيعي لا طوارئ فيه ، مُثيرا سوء توزيع نفقات المساعدة الأوروبيّة ، مُستفيدا من شلل قطاعات في لعبته الرخيصة ، مُطالبا الأغلبية المتمثلة باعتماد رأيه في تخصيص ودعم بعض القطاعات بنسب مُخالفة لما أقرته الحكومة ،وبالطبع فإن الهدف من كل ذلك هو إسقاط الحكومة ليس إلاّ ، بتهديده لها والتلويح بفقدانها لأغلبية الأصوات واضعا إياها في مأزق حرج في هذه الفترة الحرجة .
وإن كان اليمين اليوم سعيدا بحملة رينزي رغم كراهيته له كشخص تماما ككراهية الشارع أيضا ، إلاّ أنه باستقالته وحملته أجبر الحكومة على الدعوة إلى عقد اجتماع يوم غد وبعد غد (برلمان ومجلس شيوخ) وهي الحكومة القائمة منذ 2018 التي استمرت أكثر من حكومة رينزي ، رغم كل العراقيل والتحالفات السياسيّة الصعبة التي واجهتها أقلّها قيامها بالتحالف مع الضدين ، إذ بدأت بغالبية حركة الخمس نجوم الشعبية التي تحالفت مع رابطة الشمال اليمينية الفاشيّة ، أعقبها عزل للرابطة بسبب مواقفها من النازحين وإقامتها تحالفا مع الحزب الديموقراطي ، وفي الحالتين ترأسّها دوما جوزيبي كونتي (مواليد 1964) الذي درس القضاء أيضا ومارس كبروفسور قدير التدريس الجامعي ، كما أثبت لغاية الآن تحمّل وجمع الأضداد ومضى قُدما بالحكومة والبلاد نحو شاطئ الأمان بتعاونه وحنكته كما ذكائه مع الجميع ، في ظل ظروف مُعقدة لا تشهدها إيطاليا فقط بل العالم كله بسبب جائحة الكورونا المُستجدّة .
وما بين رنزي وكونتي المحبوب شعبيّا فارق شاسع ، لما يحظى به الأخير من تقدير واحترام ربما أكثر من أي رئيس حكومة سابق ، ويعتقد حسب أقواله أنّ العالم بحاجة للإنطلاق من قاعدة احترام الحقوق والحريّة بشكل رئيسي ، وأنّ نظريّات وإيديولوجيّا التسعينات لم تعد صالحة ، وهو بالتالي كانتماء سياسي أكثر ليبراليّا وإن اختارته حركة الخمس نجوم ، هل بوسعه التغلب من جديد على خصومه ؟ وكما تغلّب من قبل على سالفيني بذكاء ، هل بوسعه رغم كل الأعداء خاصة اليمينية تجاوز رنزي المُتغطرس الغيور منه كغريم في الدراسة كما المنصب ، والاستمرار بالحكومة ما بعد الجلستين المُقبلتين ؟ هل سيفتقر إلى أصوات رينزي أم سيجد بسهولة أصواتا حليفة تخشى على البلاد في هذه المرحلة وتقف إلى جانب حكومته كما وقفت سابقا ، ويحقق فوزا أكثر مما حققه سابقا في مشواره الصعب أي أكثر من 350 صوتا ضد 236 وغياب 35 عند استلامه مسؤولياته ، بينما حاز بعد المشكلة التي افتعلها سالفيني ضده (وانتهت بابعاد الأخير عن الحكومة) على أصوات بلغت 343 صوتا مقابل 133 وغياب خمسة؟
حينها يُردد الإيطاليون "ارتحنا من رينزي" ! أمّ أن للعبة الديموقراطيّة والسياسية مفاتيح بمقدورها تغيير الطموحات والآمال باستقرار ما ؟