د. طنوس شلهوب
في الخامس من كانون الثاني ورد على موقع مونت كارلو الدولية النص التالي في سياق الخبر عن التهاتف بين الرئيس الروسي بوتين والمستشارة الالمانية ميركل والبحث بامكانية إنتاج مشترك للقاح الروسي سبوتنيك: "لقد لقي اللقاح الروسي "سبوتنيك-في"، تشكيكاً على الصعيد الدولي، إذ اعتبر الاعلان عنه متسرعاً منذ شهر آب، حتى قبل بدء المرحلة الثالثة من التجارب السريرية على عدد كبير من الناس، ونشر النتائج العلمية. بدأ تطعيم المواطنين الروس باللقاح اعتباراً من مطلع كانون الأول، وتم إرسال كميات منه إلى بيلاروس وصربيا والأرجنتين. لكن موسكو أقرت بأن ليس لديها الموارد الضرورية لإنتاج الكميات اللازمة بسرعة".
هذا نموذج عن كيفية تعاطي وسائل الإعلام الأوروبية مع اللقاح الروسي، في حين أن وسائل الإعلام الأميركية والكندية كانت تتناول مسألة اللقاحات بتغييب تسمية اللقاحين الروسي والصيني. ولو عدنا الى الخبر أعلاه كما أوردته مونت كارلو الدولية فانها لم تكتفِ بالتشكيك بفعالية اللقاح، إنما غمزت من عدم امتلاك روسيا للموارد الضرورية لإنتاج الكميات اللازمة بسرعة.
وفي لبنان على سبيل المثال، فانه في احدى الحلقات التلفزيونية على قناة "الجديد" تم إستضافة شخصين للحديث عن موضوع الكورونا واللقاحات، أحدهما باحث سوري يعمل في مركز متخصص بالفيروسات في موسكو، وأخر طبيب من الجامعة الأميركية في بيروت، وفي هذه الحلقة قدم الطبيب السوري شرحاً علمياً لما توصل اليه العلماء الروس من شرح لأسباب ردود الفعل المتفاوتة عند الناس تجاه فيروس كوفيد 19 (وهو استنتاج يستند الى معرفة الآليات التي يتفاعل فيها الجسم مع الفيروس، ومن دونها لا يمكن وضع استراتيجية لتعطيل فاعلية الفيروس من خلال اللقاح)، والمفاجأة أن الطبيب اللبناني وصف الاستنتاجات الروسية بأنها غير علمية، هكذا، ببساطة وهو يجلس في الإستوديو أطلق حكمه على العلماء الروس، وهنا تدخل مقدم البرنامج ليضفي على الأجواء مسحة من السخرية من خلال تناول شخص الطبيب السوري.
وبالعودة الى الصين، فأنه ومع تفشي الفيروس وتناقل وسائل الإعلام لحجم الكارثة الانسانية في مدينة ووهان، جرى التعاطي مع المسألة وكأنها مشكلة صينية خاصة، واندفع الكثيرون على مواقع التواصل للسخرية من الصينيين وتحميلهم مسؤولية ظهور الفيروس وذلك ربطاً بنوعية الأطعمة والحشرات التي يتناولونها، وصارت تظهر في وسائل الإعلام التأويلات المختلفة، منها العلمي ومنها غير العلمي، وكانت المفاجأة بموقفيّ كل من ترامب وجونسون، باعتبار أن الفيروس هو مجرد انفلونزا، مع إصرار الأول على مطالبة الصين بتعويضات عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الإقفال، والذي أضطرت البلدان الرأسمالية للتعاطي معه بجدية مع انفجار الوضع الصحي في ايطاليا واسبانيا وفرنسا، في حين كانت السلطات الصينية قد نفذت خطة طوارىء غير مسبوقة فاجأت العالم بمستوى تنظيمها وكفاءتها بادارة الكارثة، وفي خضم المواجهة، لم ترد الصين بما ألصق بها من اتهامات، بل تعاطت مع الجائحة خارج البلاد بمسؤولية عالية وبدعم للبلدان المنكوبة، في وقت كانت البلدان الاوروبية تتبادل الاتهامات بالمسؤولية وبالفشل، وشعر الايطاليون والاسبان بأنهم متروكون لمصيرهم بالرغم من الروابط القائمة ضمن الإتحاد الأوروبي في وقت كانت تتوافد الطواقم الطبية الكوبية والمساعدات الصينية الى إيطاليا.
أما كوبا، تلك الجزيرة المحاصرة من قبل اقوى دولة في العالم بهدف تجويع شعبها، وفي ظل تواطؤ اوروبي مع الاميركيين، فانها ارسلت فرقها الطبية للدعم والمساعدة، وهي التي تملك نظاماً صحياً هو الأعلى كفاءة وفعالية في العالم، وتشير الأرقام الى أنه حتى الثاني من شهر شباط فان إجمالي عدد الذين أصيبوا في الجزيرة بكورونا هو 28636 شخصاً، تعافى منهم حوالي 23000، وتوفي فقط 218 شخصاً على عدد سكان يتعدى احد عشر مليون شخص، أي أن عدد الوفيات الى السكان يشكل 19 شخصا بالمليون، في حين أن عدد الوفيات الى السكان في الولايات المتحدة الأميركية، الدولة العظمى التي تحاصر كوبا هو 1375 شخصاً بالمليون لنفس الفترة، أي أكثر بأثنين وسبعين مرة. هل قرأتم في مكان ما هكذا مقاربة؟ أليس لافتاً هذا التعتيم في الإعلام العالمي على إنجازات كوبا في المجال الصحي وفي التقدم الطبي والدوائي؟
ومع تفاقم الوضع العالمي بنتيجة الجائحة، وقد تبين أنه حتى الأن لم تتمكن مراكز الأبحاث من التوصل الى إنتاج دواء لمكافحة كورونا، فأن الحل الوحيد المتبقي لاحتواء الفيروس يكمن فقط بالتلقيح العام لكل الناس، وهذا يفترض توفير مليارات الجرعات من اللقاحات، والتي لن تتمكن شركة واحدة أو شركتان من تأمينها، مما يستدعي إسقاط المحرمات السياسية المفروضة على كل من روسيا والصين، والتعاطي بواقعية مع الأمر، خصوصاً أن شركة فايزر التي كانت تطمح للفوز بالكعكة الكبرى من الأسواق لم تتمكن من تنفيذ كامل التزاماتها تجاه الدول التي وقعت عقوداً معها.
وفي بداية هذا الشهر تراجع التشكيك والتعتيم على اللقاح الروسي في وسائل الاعلام (بالرغم من أن روسيا كما الصين سبق ووقعتا اتفاقيات مع عدد كبير من الدول لتزويدها اللقاحات) مع الخبر الذي نشرته مجلة "ذا لانسيت" الطبية والمرفق بجداول نتائج صادق عليها خبراء مستقلون تؤكد أن لقاح “سبوتنيك-في” الروسي فعال بنسبة 91.6% ضد فيروس كورونا، وقال متخصصان بريطانيان لم يشاركا في الدراسة في تعليق مشترك إن "النتائج الواردة في المجلة واضحة وتمت برهنة المبدأ العلمي الذي يقوم عليه". وتتوافق هذه النتائج الأولى التي جرت المصادقة على فاعليتها مع تأكيدات روسيا، لكن الدول الغربية اتهمت موسكو بعدم الشفافية بشأن اللقاح. وتصنف هذه النتائج لقاح “سبوتنيك-في” بين اللقاحات الأكثر فاعلية، الى جانب لقاحي فايزر/بايونتيك ومودرنا (95% تقريبا) اللذين أعدا باستخدام تقنية مختلفة.
وجاءت النتائج التي نشرت في “ذا لانسيت” من خلال آخر مرحلة من التجارب السريرية للقاح، وهي المرحلة الثالثة التي شارك فيها حوالي 20 ألف شخص. ومن أصل 14 ألف و900 شخص تلقوا الجرعتين من اللقاح، جاءت نتيجة 16 متطوعا إيجابية (بنسبة 0.1%) مقابل 62 من أصل 4900 شخص تلقوا الدواء الوهمي (بنسبة 1.3%). ورأت الدراسة أن اللقاح يبدو فعالا لدى الأشخاص الذين تفوق أعمارهم 60 عاما، وذلك استنادا إلى حوالي ألفي حالة من هذه الفئة العمرية. وأظهرت البيانات أن اللقاح يحمي بشكل جيد جدا من الأشكال المتوسطة إلى الشديدة من المرض.
وعقب نشر مجلة "ذا لانسيت" نتائج اللقاح الروسي تناولت صحيفة "لو جورنال دو ديمانش" الفرنسية الموضوع بالقول إن اللقاح الروسي المضاد لكورونا يتمتع بكفاءة عالية وبظروف تخزين بسيطة، ولذلك تطلبه الآن بالفعل خمسون دولة بما في ذلك دول أوروبية. وكتبت الصحيفة تقول: "حين ظهر اللقاح، بدأت فرنسا والمجتمع الدولي بأسره في التعبير عن شكوكهم بشأنه. لكن الآن، بعد مرور ستة أشهر، وبفعالية تزيد عن 91 ٪ وظروف تخزين بسيطة، أصبح اللقاح الروسي أقل فأقل عرضة للتندر"، مشددة على أن لقاح "سبوتنيك-في"، أخذا في الاعتبار الصعوبات التي تواجه الحصول على لقاحات أخرى، أصبح للكثيرين حلا جيدا. وكانت روسيا تقدمت بإجراءات تسجيل اللقاح في العشرين من الشهر المنصرم، وقبل الحصول على موافقة الاتحاد الاوروبي وافقت هنغاريا عليه وطلبت من روسيا كميات كبيرة منه، وتؤكد روسيا أنه حتى الأن فأن خمسين دولة حجزت للحصول على اللقاح بكميات تصل الى مليار ومئتي مليون جرعة، ومن بين تلك الدول إيران والجزائر (حيث بدأ التطعيم) والهند وفنزويلا والبرازيل والأرجنتين. ومن المتوقع أن يبدأ إنتاج اللقاح الروسي الثاني في الأيام المقبلة، علاوة على أن مركز "غاماليا" يعد بإطلاق لقاح مخفف يتطلب حقنة لمرة واحدة، وهو يعمل أيضا على تطوير نسخة لقاح آخر.
قد يكون مفهوماً الصراع بين الشركات والبلدان دفاعاً عن المصالح، ولكن من الجلي أن الامبريالية واعلامها لا يكترثان لصحة الناس ولا لحياتهم، والسؤال الذي يقلق الكثيرين هو هل ستبقى سياسات الدول الرأسمالية في المجال الصحي مقيدة باعتبارات الربح وبأولويات الصناعات العسكرية على حساب برامج الصحة والتعليم والعمل، أو أن تغيرات فعلية ستطرأ لمصلحة الانسان وحماية ملايين الناس الذين أعطوا الرأسمالية تعبهم وشبابهم وهم في شيخوختهم يحتاجون لحماية المجتمع ورعايته لهم ولصحتهم. وفي ظل هذه الجائحة تبين أن المراكز الأمبريالية لا ترضى بموقع لروسيا الرأسمالية ضمن النادي، والمطلوب أن تكون روسيا ضعيفة وواهنة لكي تلائم مصالح هذه المراكز، وأن نظامي التعليم والصحة العاملين اليوم في روسيا الرأسمالية، إنما هما من بقايا الاشتراكية السوفياتية، لذا، ما زالا يحتفظان بفعاليتهما وبمضمونهما الإنساني.
وعلى خلفية تعرية جائحة كورونا للرأسمالية، وما يمكن توقعه من تداعيات اقتصادية بعد العودة الى الحياة الطبيعية في حال تم تأمين اللقاح لكل سكان الأرض، من الملائم ايراد ما قاله الكاتب أندريه فولتشيك عن اسباب كونه شيوعياً: إن الرأسمالية حقنت بنجاح الأنانية والسّخرية والجشع واللامبالاة في الوعي الباطن لغالبية الناس. لهذا السبب، على الرغم من كل تلك الامتيازات المادية والاجتماعية، يبدو أنّ سكان أوروبا وأمريكا الشمالية (وكذلك اليابان) يعانون من الاكتئاب والتشاؤم. إنّهم يعيشون لأنفسهم فقط على حساب الآخرين. إنهم يريدون المزيد والمزيد من السّلع المادية والمزيد والمزيد من الامتيازات. لهذا السبب يكرهون الشيوعية. لهذا السبب يتمسكون بالأكاذيب والخداع والمعتقدات التي تصلهم من دعاية النظام الرأسمالي. إن الشيوعية هي ضميرهم السّيئ، وهي تثير الخوف من أن تنكشف فقاعة الأكاذيب في يوم من الأيام. ومعظم الناس في الغرب، حتى أولئك الذين يزعمون أنهم ينتمون إلى اليسار، يريدون الشيوعية أن تزول. يريدون تشويهها وتغطيتها بالقذارة، وإنزالها " إلى مستواهم" وخنقها. إنهم يحاولون بشدة إقناع أنفسهم بأن الشيوعية خاطئة. خلاف ذلك، فإن المسؤولية عن مئات الملايين من الأرواح المفقودة ستطاردهم باستمرار.
ويضيف فولتشيك: قبل رحيله، قال لي الكاتب والثوري الأوروغواياني العظيم إدواردو غاليانو: "قريباً سيأتي وقتٌ، وسيُعيد العالم رفع لافتات قديمة مرّة أخرى!" يحدث ذلك الآن! في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا، وفي جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي السابق والصين تقريباً، يطالب النّاس بالمزيد من الشيوعية، وليس تقليلها. إنّهم لا يسمون الشيوعية دائمًا باسمها، لكنهم يطالبون بجوهرها: الحرية والتّضامن، والعاطفة، والحماسة ، والشجاعة لتغيير العالم، والمساواة، والعدالة، والتضامن الأممي".