الحوار نيوز – صحافة
خصصت صحيفة الأخبار في عددها الصادر اليوم ملفا كاملا عن الراحل الكبير طلال سلمان على النحو الآتي:
الراحل وحيداً
تحت هذا العنوان كتب إبراهيم الأمين:
لو أنك كتبت أنت الرثاء وأعفيتنا جميعاً من هذا الحمل، لو أنك، أنت، قلت ما تحب أن يقال فيك، وأن يحجب عن اسمك ما كنت راغباً في محوه، لو أنك قلت لنا كيف تحب رسم صورتك في لحظة الغياب، لو أنك قلت دعكم من هذه الحكاية، وتلك الرحلة، ولا تقفوا عند هذا التل، وعودوا بي الى حيث رغبت في أن أكون في لحظة الوحدة. فمن منا يقدر على تخيّل ما كنت تفكر فيه أخيراً. لو فعلت ذلك لرسبنا جميعاً في امتحان الحديث عنك، وربما، لو أتيحت الفرصة لكل من يريد تذكّرك، أن تكشف فيه علامات الضعف إن قصّر أو بالغ في الكلام، وكان سيكون لضحكتك أن تسخر من كل ألاعيبنا. ونحن نحاول الآن، بعد فوات الأوان، التعرّف على ما كنت عليه أنت، في آخر الزمان. كنت ستمزق كل الأوراق التي كتبت، وربما احتفظت ببعضها، إن وجدت فيها الحب الذي تشتهيه، وكنت لعرفت من بيننا الأقرب الى عقلك أو قلبك أو من يقدر على الاقتراب من حقيقة أحلامك. لكن الحياة لا تسير على هذا النحو. هي قصة تعيد سرد ذاتها مع كل غياب. وليست عند البشر أدوات جديدة لقياس الإحساس بالألم أو لحظة ملامسة الموت. ليس عندهم سوى ما تخيّلوه من قبل، وهم يسيرون في جنازات الآخرين، حيث ينظرون الى الحسرة والتعب والإعياء على من بقي واقفاً ينتظر موعده الآتي. ولأن الجمع متى التمّ، سيذكرك كاتباً عن الآخرين ولأجلهم، فإن الجمع متى انفضّ يتخيّل أنه أخذ حصته منك، وفي حالتك، يأمل الخائفون أن تصيبهم العدوى منك، ولو كانت ألماً، لكن حظهم العاثر يعيدهم الى حقيقتهم، مجرد أنفس تخاف لحظة الرذاذ الأخير. ولأن الحياة تسير تاركة خلفها كل شيء، فإن الموت يمنح صاحبه فقط حظ السير غير ناظر الى الخلف أيضاً. لكنه موت لئيم، يلزم كل الباقين، بالنظر الى ما يتحرك من حولهم، لكنه لا يمنحهم فرصة التجربة. وبينما تمضي النساء باكيات على حيّ لا يقرأ في عقل من رحل، ويمضي الرجال حالمين براحل يعلمنا عن مكتشفه، ها نحن، وأنت الراحل وحيداً، وقد تركتنا جميعاً، ينظر بعضنا إلى بعض، ولا نعرف إن كنا نفحص صدق حزننا على من فقدناه أو على أنفسنا، قبل أن نبتعد غارقين في الأسى. في لحظتي القاسية هذه، أعود معك الى من كنت تهوى مآثره، ومن رغبت في أن تكون نديمه، ذلك الجواهري الحالم بمجده دوماً، وهو يعيد على مسامعنا درسه الأزلي: قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا عنه، فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا!
صاحبنا ورئيس تحريرنا… وداعاً!
وكتب نجيب نصر الله تحت هذا العنوان:
إشكاليات الغياب وتعقيداته من إشكاليات الحضور ومشكلاته. والقول بتناقضهما فحسب ينطوي على تبسيط مخلٍّ، من شأن الاكتفاء به أن يفاقم الإشكاليات ولا يحلّها. علاقة الأول بالثاني كالعلاقة بين وجهَي العملة الواحدة. فترافقهما المستتر هو الأساس الذي ينبغي التوقف عنده أو الانطلاق منه. ففي بعض الغياب حضور، وفي بعض الحضور غياب. وكما أن الغياب، في بعض الحالات، لا يعني الموت، فإن الحضور أيضاً، وخصوصاً الصاخب منه، لا يدلّ على الحياة. والأرجح أنها واحدة من المعضلات التي لا حلول حاسمة لها.
فكم من غائب حاضر، وكم من حاضر ميت. وعليه، فقد يحصل الغياب ولا يحصل الموت. وقد يحصل الموت ويمتنع الغياب. وطلال سلمان، في غيابه الموجع اليوم، مثال عن الموت الصعب وتأكيد على تعذّره. فالرجل صاحب أثر. والأثر هذا مقيم وعابر. ولأنه كذلك، لا يمحى ببساطة ولا يزول بسهولة.
ومن علامات هذا الأثر وعناوينه، تحضر «السفير» كتجربة سياسية وثقافية ومهنية رائدة. تجربة غنية عبّرت عن بعض معاني زمنها الناصري الناهض بالأفكار والعابق بالهمم والأحلام والتطلّعات. فكانت المثل والمثال في دفاعها عن قضايا الأمة واحتضانها لخيار المقاومة وتصدّيها للاستعمار ولأدواته الرثّة التي مثّلتها قوى الرجعية العربية. والأرجح أن هذه التجربة الفريدة ما كانت لتقوم، ولا كانت لتنجح لولا مواصفات صانعها ومهندس رحلتها طلال سلمان. فكان أن ارتبط بها وارتبطت به حتى صارا واحداً. فالصانع المجتهد صار صنيعة الفكرة. والصنيعة أمست جزءاً عضوياً من الصانع. ومعهما صُنعت حكاية كبيرة عبرت الحدود وتجاوزت السدود، حكاية كتب حروفها مناضلون ومناضلات تعاقبوا على مدّها بالذخيرة المعرفية والنضالية والثقافية والمهنية طوال عقود أربعة حافلة. فعندما يذكر طلال سلمان، تحضر «السفير» ومعها كوكبة من الأسماء التي يصعب أن تتكرر والتي ربما كان يصعب أن تجتمع لولاه، كما يتعذّر أن تلتقي إلا حوله ومعه. وأول هذه الأسماء وأبرزها جوزف سماحة، بسعة عقله وواسع معرفته وصلابة التزامه الوطني والقومي، وبلال الحسن، وناجي العلي ومحيي الدين اللباد وحازم صاغية وجهاد الزين وإلياس خوري وعباس بيضون ومصطفى الحسيني… فضلاً عن كوكبة الجنود المجهولين الذين تقدّمهم ياسر نعمة بإخلاصه وتفانيه وحسن إدارته، فضلاً عن كثيرين… وهذا هو أثر طلال سلمان الذي يصعب أن يمحى ويتعذّر أن يزول. ففي قدرته على الجمع، أتاح لصوت العروبة التي حمل لواءها أن يعلو وأن يصدح في كامل الخريطة العربية.
طلال سلمان، وبحقّ لا مبالغة فيه، أحد أعلام الصحافة العربية. وبرحيله تخسر المهنة صحافياً مناضلاً عاصر الأحداث ورافق الوقائع وتجاوز تقلّباتها محافظاً على جوهر الفكرة التي حفّزته على المغامرة الجميلة التي خاضها من ألِف المهنة إلى يائها رئيساً لتحرير «السفير»، قبل أن يقرر، في غفلة عن الجميع، الانسحاب من المشهد العام، تاركاً للقلق المهني ولأسئلته أن تتوالد وتتوالد.
العزاء للصديقة هنادي وللأعزاء: أحمد وربيعة وعلي. والمواساة لفؤاد اللبان الذي أخلص لـ«الأستاذ» ما وسعه الإخلاص، ولديانا قوصان التي أدارت يوميات «الأستاذ» بحنكة تركت أثرها تنظيماً وتدبيراً… ولكثر غيرهم فازوا بفرصة المرور بحياة مناضل عربي حمل اسم طلال سلمان.
صفحة تطوى من تاريخ الصحافة اللبنانية: طلال سلمان «يغيب ولا ينطفئ»
وتحت هذا العنوان كتب نزار نمر:
Top of Form
Bottom of Form
مَن عايش مرحلة الاقتتال الداخلي في لبنان وحروب الآخرين على أرضه، وكلّ ما سبقها وتلاها من حقبة ما بعد «الطائف» وتحرير الجنوب للوطن والانتفاضات الفلسطينية، وصولاً إلى «الخريف» العربي وأفول أنظمة عربية مع دولها وبدايات الحرب على سوريا، لا يسعه إلا أن يذكر طلال سلمان (1938 – 2023) و«جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان» التي أصدرها طوال 42 عاماً. ورغم غياب «السفير» مع وداع الساعة الأخيرة من عام 2016 بعد محاولة احتجاب سابقة تأجّلت أشهراً، إلّا أنّ الراحل أكمل مسيرته «على الطريق» حتى انطفأ أمس تحت وطأة المرض.
لا تبدأ الحكاية في 26 آذار (مارس) 1974 يوم صدرت «السفير»، لكنّ هذه المحطّة المفصلية أعطت للعودة إلى البدايات نكهةً مغايرة، وربّما استعادت تأريخ المحطّات السابقة وترسيخ المحطّات اللاحقة؛ فنتخيّل فتى بعلبكيّاً ريفيّاً من شمسطار يحزم طموحاته وتطلّعاته وعروبته في حقيبة أحلامه، والدنيا زمن مدّ ناصري بعد نكبة 1948 وما استنسلته من قضايا، وزمن دوَل عربية استقلت وأخرى تناضل للاستقلال، وزمن العدوان الثلاثي على مصر، وزمن الانقسام كالعادة على محورَين متضادَّين وربّما أكثر، وزمن حلف بغداد لـ«صدّ المدّ الشيوعي»، وزمن الـ 1958 بوحدة مصرية – سورية وثورتَين عراقية ولبنانية ووصول قائد الجيش اللبناني العلماني المعتدل فؤاد شهاب إلى سدّة الرئاسة خلفاً للرئيس كميل شمعون المحسوب على حلف بغداد والغرب…
في زمن النضال وإعادة صياغة الشرق والحوادث العنقودية هذا، يقصد فتى ريفي مدينة كوسموبوليتية حبلى بإرهاصات القضايا، ويباشر إقامة طويلة في مهنة المتاعب يستهلّها في أواخر خمسينيات القرن الماضي، مصحّحاً في جريدة «النضال»، فمراسلاً صحافيّاً في جريدة «الشرق»، ثمّ محرّراً وسكرتيراً للتحرير في مجلّة «الحوادث» لصاحبها الصحافي الشهيد سليم اللوزي الذي اغتيل عام 1980، فمديراً للتحرير في مجلّة «الأحد» التي أسّسها نقيب الصحافة الشهيد رياض طه سنة 1950، محقّقاً قفزة صحافية مميّزة بملاحقها وتبويبها. وقد اغتيل طه في 23 تموز (يوليو) 1980 أيضاً، في السنة ذاتها التي تعرّضت فيها مطابع «السفير» للتفجير في 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 1980، قبل أن يتعرّض طلال سلمان، بسبب صلابة موقفه، لمحاولات لتفجير منزله «تُوّجت» في 14 تموز 1984 بمحاولة اغتياله أمام منزله في رأس بيروت، ما ترك ندوباً في وجهه وصدره، بالإضافة إلى ملاحقته من السلطات وسجنه مرّات عدّة بسبب آرائه ومواقفه الجريئة.
وضع الراحل الحجر الأساس في الإعلام العربي الحديث
في خريف 1962، غادر طلال سلمان لبنان إلى الكويت ليصدر مجلّة «دنيا العروبة» عن «دار الرأي العام» لصاحبها عبد العزيز المساعيد، إلا أنّ ذلك لم يدم أكثر من ستّة أشهر، عاد بعدها سلمان إلى بيروت ليعمل مديراً للتحرير في مجلّة «الصياد» لصاحبها سعيد فريحة، ومحرّراً في مجلّة «الحرية» الأسبوعية السياسية العربية التي كانت لسان حال حركة القوميّين العرب منذ 1959، وأصبحت بعد نكسة 1967 ناطقة باسم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» ثم باسم «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» و«منظّمة العمل الشيوعي اللبناني» على إثر انشقاق 1969 في صفوف القوميّين العرب. هذه المجلّة انضمّ إليها الصحافي غسان كنفاني سنة 1961، وهو من بين شهداء الصحافة الجريئة الذين سقطوا أيضاً في بيروت وضواحيها، وقد اغتيل في 8 تموز 1972.
سنة 1974، وقد بلغ الشاب البعلبكي السادسة والثلاثين، أينعت تجربته التي بدأت أواخر الخمسينيات مغامرةً جريئة ستمتدّ حتى نهاية سنة 2016. ففي 26 آذار (مارس) 1974، أصدر العدد الأوّل من «السفير» في بيروت، ليبدأ بذلك النصف الآخر من حياته المهنية كما تجربة صحافية حدّثت معالم المهنة ومقارباتها. أُطلقت «السفير» على أنّها «يومية سياسية مستقلّة»، وحملت شعار «جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان» كما شعار «صوت الذين لا صوت لهم»، وحاول سلمان إظهار استقلاليتها قدر الإمكان. طوال أكثر من أربعة عقود، شكّلت الجريدة مرجعية إعلامية في الشؤون العربية واللبنانية تحظى بالتقدير وبالتأثير في الرأي العام. تضمّنت صفحاتها الأخبار والتغطية الميدانية للأحداث في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع والرياضة والترفيه، بالإضافة إلى التحقيقات الميدانية والعلمية والبيئية.
أعطت «السفير» أهمّية للأحداث اللبنانية التي لم يتناولها الإعلام المهيمن، كما للقضية الفلسطينية، واشتهرت بنشرها كاريكاتورات «حنظلة» للرسّام الفلسطيني الكبير ناجي العلي. واستمرّت في حمل لواء شخصية «حنظلة» ومبدعها بعد استشهاد ناجي العلي، كما في حمل لواء قضية فلسطين وقضايا العرب في افتتاحيات سلمان كل اثنين
وكان لجيل الشباب إضاءة خاصّة، فحظي بملحق في الجريدة تحت اسم «شباب». الملحق الذي كان قوام فريق عمله شباباً جامعيّين، أعاد فتح النقاش حول قضايا منسيّة تتعلّق بالمهمّشين، منتجاً فورة في الأوساط السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما دأبت «السفير» لفترة على نشر ملحق «كتاب في جريدة» مع أعدادها، كان عبارة عن كتاب أسبوعي مجّاني ضمن سعيها لنشر الثقافة بيَد الجميع إيماناً منها بحقّ وصول مختلف طبقات المجتمع إلى المعرفة.
أفاق اللبنانيّون والعرب على عام 2017 من دون «السفير» بعد معاناتها من مشاكل جمّة، واعتبر ناشرها أنّها «تغيب… ولا تنطفئ». بعد مسيرة «السفير» الحافلة، خصّص وقته لخوض تجربة جديدة مع موقعه الإلكتروني الخاصّ الذي حمل اسمه، فنشر مع عدد من الزملاء وأصدقاء «السفير» مقالات أسبوعية تحت شعار «على الطريق»، واستمرّ في كتابة المقالات التحليلية حتّى الرمق الأخير. ويستمرّ الموقع تأكيداً على أنّ طلال سلمان يغيب ولا ينطفئ.
هكذا، تُطوى إحدى الصفحات الأخيرة لحقبة لن تعود من الصحافة اللبنانية والعربية. مع ذلك، وضع الراحل الحجر الأساس في الإعلام العربي الحديث، وسيبقى تأثيره حاضراً في أوساط المهنة مباشرةً أو مداورةً، بما ينفي نسبيّاً ما ذهبت إليه الجريدة في مانشيتها الأخيرة قبل احتجابها: «الوطن بلا السفير»، وينفي اليوم نسبيّاً ما قد يتبادر من تنويع على المانشيت المذكورة بالقول إنّ «الوطن بلا صاحب السفير».
… سنبقى هنا
وكتبت لينا فخر الدين تحت هذا العنوان:
7 سنوات مضت حينما كتبتَ اسمي على العدد الأخير من «السفير»، وأنا هنا أخطّ اسمكَ. أودّعك وأكتب عنك. كنتُ أُدرك دائماً أن ساعة الرحيل لا بدّ أن تحين يوماً. تخيّلتها عشرات المرّات، ولا جرأة لي بالسؤال عمّا إذا كنت قد متَّ فعلاً. أنتَ لا تزال تجلس هناك، في الطابق السادس، تستلّ قلمك وتكتب، وفي يدك سيجارة بيضاء تُشبه كثيراً جسدك النحيل الذي حمَلنا لأعوامٍ. رائحة دخانك تعبق في المكتب الجلدي، وأنت تضحك. تأخذ نفَساً عميقاً، وتتذكّر حادثة عمرها عشرات السنوات، تعود بكَ الذاكرة إلى مكانٍ ما، وأنت تسردها على مهل، وكأن الكلمات تسكنك غير راضية بتركك. أتأمّل تلك اليدَين، التي تعرف وحدها كيف تقصّ علينا الرواية بعناية.
هنا، في مبنى «السفير»، في مكتبك في الطابق السادس، حيث تقابلنا للمرّة الأولى. كانت تلك اليد التي امتدّت وربّتت كتفي. هذه اليد كانت تكفيني حتّى تفتح لي أبواب «السفير» الواسعة. هي اليد السمراء نفسها التي شاركتني أفراحي، وهي اليدُ التي كان صاحبها يطمئن عليّ ليلاً، وهو يهبط درجات «السفير» مودّعاً. وأنت الذي كنت بالنسبة إلينا، أكثر بكثير من «الناشر»، كنتَ أنت الحب الكثير.
توقفت عن الذهاب نحو مكتبك، بعدما أكلني الحنين إلى «السفير». كنتُ أتقصّد التوجّه إلى نزلة «السارولا»، أترصّد سيارتك مركونة على باب الجريدة. أطمئنّ أنّك ما زلت بيننا. أتقصّد السؤال عنك من بُعد. أنا التي كنت أرتعد خوفاً كلما سمعت أنك تُقاوم المرض بعناد، تماماً كما قاومت كلّ شيء. هذا الألم لا يليق بقلبك؛ قلبك الذي اتّسع لحبّنا مع هنادي وربيعة وأحمد وعلي. قلبكَ الذي كان يسأل عن أحوالنا، حتّى بعدما تباعدنا. قلبكَ الذي كان يحمّلنا الفرح، ويرقص معنا على أنغام القُدود الحلبيّة التي تُحبّها.
لطالما عانيت كثيراً، عند كل وداع حبيب، من «فقدان» الذاكرة. ولكن معكَ أنت، الأمر يبدو مختلفاً. ما زلت أذكر كيف تحفر المهنة في أرواحنا كلّ يوم، كيف تحيك قصّة ابن العسكري الآتي من شمسطار وحلمه أن يكون صحافياً، وكان له ما أراد. ما زلتُ أذكر تلك الابتسامة عندما أتيتُ إليكَ، أنا الخرّيجة حديثاً من كلية الإعلام، حينها علّمتني قواعد المهنة التي قضيتَ عمرك تحميها ودفعتَ ثمنها من جسدكَ. ما زلتُ أذكر دخولك إلى الاجتماع الصباحي كل يوم، تعطي الملاحظات بضحكتك المعهودة. كلما شعرتُ بالتعب توجّهت إلى مكتبك. حيث يقطن الرجل «الذي علّم بالقلم».
تؤلمني الذكريات، كما آلمني انسلاخي منذ 7 سنوات عن «السفير»، وكالألم الذي أشعر به برحيلك، وأنا أتخيّل أن الغبار سيملأ الطابق السادس ومكتبك الخشبيّ. لكننا، يا أستاذنا، سنبقى هنا. نكتب لك، ونحمل «على الطريق» على أكتافنا، كما حملتنا جميعاً إلى قمّة «السفير».
شجاعة أرّخت لتاريخنا الصاخب
وتحت هذا العنوان كتب عبد الرحمن جاسم:
لطلال سلمان (1938 ـــ 2023)، مواعيدُ كثيرة، ليس آخرها بالتأكيد موعد رحيله أمس، طاوياً صفحةً تأسيسية في الصحافة اللبنانية حُبلى بالآمال الوطنية والقومية والمهنية. أحد آباء الصحافة المكتوبة والمقروءة، ابن قرية شمسطار البقاعية، أرّخ عبر «مواعيده» لا بلده لبنان فحسب، بل أيضاً شرقاً أوسطَ مليئاً بالقضايا، والانتصارات، والهزائم المدوّية. في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977، جاء مانشيت صحيفته الأبدية «السفير»: «الساقط عند المغتصب» رداً على زيارة الرئيس المصري أنور السادات لكيان الاحتلال الصهيوني. هذه الشجاعة المدهشة أرّخت لأيامٍ كثيرة تحمّلتها حياته وقلبه المتعب وجريدته الأثيرة، وكانت شاهدةً على منعطفات ومحطات سياسية وتاريخية مفصلية في لبنان والوطن العربي.
أتى الشاب البقاعي إلى بيروت، حاملاً أربعين ليرة لبنانية أعطاه إياها والده الدركي إبراهيم، قائلاً له بعدما أنهى دراسته الثانوية بتدبّر أمر تعليمه وسكنه الجامعي، فهذا «أقصى ما أستطيع إعطاءك إياه». سرعان ما سيندمج الفتى في عالم الصحافة والكتابة، ويدخل صحيفة «الشرق» التي كانت تصدر ظهراً للأحداث السياسية والتاريخية آنذاك، وتحديداً العدوان الثلاثي على مصر. أضحى الشاب «قومياً عربياً» من دون أن يدري، ومن دون انتماءٍ سوى لـ«حركة القوميين العرب» الذي كان من مؤسّسيها شأن: جورج حبش، وديع حداد، غسان كنفاني، حيدر العاملي وسواهم. أصبح «ناصر» قارئاً لسلمان عبر زاويته الأخيرة «شطحة» في مجلّة «الحوادث»، ثم التقاه في عام 1958، مع الصحافيين: سليم اللوزي، شفيق الحوت، وأحمد شومان، إذ استقبلوه في دمشق لتهنئته بالوحدة و«الجمهورية العربية المتحدة». ذلك اللقاء أفرز صورةً أثيرة لدى سلمان، زيّنت ـــ ولا تزال ـــ «قاعة إبراهيم عامر» في الطابق الرابع من مبنى «السفير».
الشمسطاري الذي عمل بدون أجر في ميدان التصحيح في صحيفة «الشرق» بداية، وصل في سن العشرين إلى سكريتاريا التحرير في «الحوادث» التي ترأّس تحريرها سليم اللوزي، وتعرّف إليه بطريقةٍ مدهشة: اعتقل اللوزي المعروف بتأييده لعبد الناصر من قبل نظام الرئيس كميل شمعون عام 1958 على إثر انتخابات أُسقط فيها: كمال جنبلاط، صائب سلام وعبد الله اليافي. كان والد طلال سلمان هو رئيس «مخفر مستشفى الكرنتينا» الذي نقل إليه اللوزي. تلك المعرفة سرعان ما ترجمت عبر دخول الشاب إلى عالم «الحوادث»، وبعدها بسنتَين انتقل من «الحوادث» إلى صحيفة «الأحد» مديراً للتحرير، وفي سنٍ يافعة، أصبح «نجماً» صحافياً عربياً. هذه «الضجة» حوله نبّهت إليه الأجهزة الأمنية، فاعتقل للمرة الأولى عام 1961، بتهمة إقامة صلات مع «جبهة التحرير الجزائرية» (وتحديداً مع أحمد الصغير جابر ممثلها آنذاك)، مع اتهامات بالتحضير لـ«انقلاب وثورة». بقيَ سلمان عشرين يوماً في الاعتقال، لكن ذلك كان أول الغيث، إذ سيتعرّض لأكثر من محاولة اغتيال، كان أكبرها وأشدّها تلك التي وقعت في 14 تموز (يوليو) 1984 أمام منزله، فأصيب في فكّه وأنحاءٍ مختلفة من جسده.
بعد الإفراج عنه، توجّه إلى الكويت التي كانت صحيفتها المعروفة «الرأي العام» قد قررت إنشاء مجلة شبه «عروبية» تحت مسمّى «دنيا العروبة». هذه التجربة، التي لم تدم إلا أشهراً، اعتبرها سلمان بمثابة «تجربة عظيمة» عرّفته على العمل «الإداري» الصحافي ومختلف مجالات الإنتاج المطبوع، مشيراً إلى أنّه «لم يتسنّ لي حصد ثمار تعبي، فاضطرّتني بعض الوشايات ذات الطابع السياسي الى مغادرة الكويت، بجواز سفر بدل من ضائع وتذكرة استدنت ثمنها من صديق، وعدت الى بيروت عاطلاً عن العمل». هذه العطالة لم تدم طويلاً. سرعان ما يمّم شطر تجارب ثقافية شديدة الأهمية آنذاك: مجلة «الصياد»، و«الحرية» مجلة «حركة القوميين العرب». «الصياد» مع ناشرها اللبناني السوري سعيد فريحة، أعطته الكثير من معرفته وعلاقاته واتصالاته، و«الحرية» التي ترأّس تحريرها محسن إبراهيم، ضمّت اثنين من أهم المثقّفين الفلسطينيين: الشهيدان غسان كنفاني ورسام الكاريكاتور ناجي العلي. هذا العالم العربي سرعان ما سيصبح بمثابة «الذخيرة» و«البوابة» التي سينفذ من خلالها مشروعه الأهم: «السفير» ذات النفَس القومي العروبي التي صدر عددها الأوّل في 26 آذار (مارس) 1974 تحت شعار «صوت الذين لا صوت لهم». آنذاك فُتِنَ بتصميم شعار الصحيفة الوليدة الذي صنعه الفنان المصري المعروف حلمي التوني على شكل حمامة ذات لون برتقالي. الحمام هو حامل الرسائل، والبرتقال يعني الشام وفلسطين، «كانت فرحتي كبيرة جداً لأنه رفع عن كاهلي همّ الواجهة الأساسية التي ستعبّر عن روح الجريدة».
يومها، صدر العدد الأوّل من الصحيفة متضمّناً لقاءً مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وكان لافتاً أن الصحيفة في عددها الثاني كانت عرضةً للإغلاق، بعدما رفعت جمعية المصارف في لبنان دعوى قضائية ضدّها، لتصل عدد الدعاوى المرفوعة إلى 16 في العام الأوّل فقط. لم تكن تلك المرّة الأولى التي جرت فيها محاولة إسكات الجريدة: في تشرين الثاني (نوفمبر) 1980، فُجّرت المطابع في المبنى الجديد للجريدة، وفي العام التالي جرت محاولة لنسف منزله بأربع قذائف موقوتة لم تنفجر، وألقيت عبواتٍ ناسفة مرتين عام 1984، فيما قُصفت الجريدة مع بداية عام 1985 بصاروخ موجّه. كل هذا لم يثنِ طلال سلمان عن قوله ما يريد، إذ يكفيه عنوانه الشهير «بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء» إبّان الاجتياح الصهيوني عام 1982.
حافظ سلمان على نفَسٍ عروبي شديد الأصالة، ولم يحد عن ذلك التوجّه، معتبراً أنّ العروبة لا تكون بالكلام فحسب، بل بفتح صفحات الجريدة، كما روحها، على أقلامٍ عروبية أمثال عبد الرحمن منيف، عصمت سيف الدولة، سعد الله ونوس، طارق البشري، رفعت السعيد، عبد الرحمن الخميس، كلوفيس مقصود، وغيرهم كثرٌ ممن طردتهم أنظمتهم واضطهدتهم واحتضنتهم «السفير»، مسهمةً بذلك في نهضة بيروت الثقافية والإعلامية والفكرية.
لطلال سلمان، كما حياته المنهكة، المضنية، والمليئة بالعناوين والتواقيت والتواريخ المدهشة، أثرٌ لا نهاية له، لأسبابٍ كثيرة، هو الذي قال عن الصحافة بأنّها «الأرض الصالحة التي توحّد الناس حول قضاياهم وهمومهم وأفكارهم وطموحاتهم المشتركة».
مات طلال يوم أمات السفير
وكتب داود رمال تحت هذا العنوان:
مفجع ان يطوي الوطن العربي وفي قلبه فلسطين صفحات نضالها المرير مع توأمه وتوأمها طلال سلمان (ابو احمد)، هو رتّب مواقيت حياته حتى الرمق الاخير، وبدأ يقرع باب الحياة بالموت الى أن مات يوم أمات روح روحه جريدة “السفير”، يومها قال الكثير وخلاصته “لم يعد من قضايا لندافع عنها لقد باعوا كل شيئ ورهاني الوحيد هو هذا الشعب العربي الذي لا بد انه سيخروج من النكبة الى فعل الحياة”.
خمسٌ وثمانون عاما بدأ خطواته الاولى من شمسطار وما توقف او استكان، ظل صاعدا صوتا وصدى، حتى صار محط انتظار الباحثين عن الحقيقة والجديد الذي ينبع من بحر الناس المتلهفين لمن يرشدهم ويوصل وجعهم المباشر، صار “صوت الذين لا صوت لهم”.
من اضرحة الاجداد والاهل الى رياض شهداء المقاومة الممتدة على مساحة “الوطن العربي في لبنان ولبنان في الوطن العربي”، ادخل الى وصفه من شفافية الحياة وضعفها وقلقها، زهوها واناقتها والمنى، افراحها والاحزان، سطحيتها والمفاجآت، استقطبها ابانا الصحفي الحنون ببراءته وحسن ظنه واناقته والجمال المعلى..
واما الضعف والقوة والرصانة والمثابرة والاعمال المخلدة المشبعة درسا وتمحيصا، والكلمة الحق والمواقف الجريئة والتطلعات البعيدة المدى والقرار، فمن صفات وطابع طلال، وهذا هو تراثنا الاصيل وثروتنا الضخمة التي لا تسقط ولا تضيع..
الى ماذا اذهب؟
ضعفنا اذا وراثي قديم، وكذلك قوتنا في قولة ومواقف الحق، وكلنا من ذرية الكرم والجود ومن مستوى الحياة الارفع بالكرامة، وهذا الارث الغالي والخطوط الحياتية الرفيعة والطاقات الخلاقة الهائلة، توارثناها عن الاباء والامهات والاجداد..
لذلك، كان صرح السفير المهيب، بعدما تحتم علينا في عصرنا القلق، وفي كل يوم من وجودنا الفاعل، ان نحذر التورط والضياع في منعطفات ومتاهات العالم المضطرب، حرصا على خط الحياة السليم، وبراً بالسلف الصالح المسمى طلال وبأبائنا الكرام وهو نواتهم.
والتزاما منا برسالتنا الانسانية الاصيلة، سنواصل يا طلال السفير، الحذر والنضال والاعمال الهادفة المنتجة على مستوى الحياة، وذلك تخليدا لذكراك العطرة ومواصلة لعطاء الحياة السليم في رحاب عالم لا يسلم ولا يزهو ولا يتطور ولا يحيا الا بنا..
أبا حمد، معك ما عدت شبحا، كما أسميتني، كوني أكتب مصحوبا بالغياب، جذورنا تلتصق بتراب الارض، وهاماتنا ترقى الى ما فوق السماوات، وابائنا ونحن البنون، خيط الحياة الرهيف القوي الذي يشدنا ابدا الى قلب الله. واننا والكلمة، مظهر الحياة وروحها والمنى. واما الحب، فهو طريقنا الى الله، ملء الحياة، يا من ملأت الحياة.
مشيناها معا خطى بتفاعل وتكامل وتجدد لا ينضب، ننتج ونطور صُعُدا وفي كل اتجاه، وكان رهيفا ما اردناه، تأصل بنا بعميق الجذور، لتصير “السفير” بسنواتها الاثني وأربعون عصية على الغياب، والمشوار يبدو طويلا ولن ينتهي باغماضة عيني طلال، وسقوط زمانه من التعداد الدنيوي ليلج ملكوت الرب بلا مواقيت وازمنة، فنحن قلبه وروحه وسرّ كل زمانه الى حيث ينتهي مدى العمر.
سمّوها “مغامرة” كون “السفير” ولدت في الزمن الصحفي الصعب جدا، لكنها تحولت الى وردة الحقيقة الناصعة في صحراء يكويها هجير الانحطاط وانقلاب الحقائق، صفتها الرصانة والاتزان، والثقة بما ينشر بين دفتيها في الصفحات، فتحولت الى انوار تهدي وتقي العثرات، منحازة الى القرار الحق، محصّنة بارادة ناشرها الذي صار عنفوانٌ على النور لا يقهر بالاستسلام.
ذخريتنا الوحيدة ،يا طلال، وسلاحنا الوحيد في درب حقيقتها القلم، نصنع الكلمة لنعمّر بها الحقيقة بلا زيادة او نقصان، ومجالنا رحاب المدى الموصل لكشف الغطاء عن كل ما يصوّب المسار، وحتى لا ينتهي المشوار بلا زاد وفير، لنربح الرهان ونتئد بعد اذ نتمهل لان المشوار طويل.
وعهد لبنان، الذي هو عهدك يا طلال، مع الكلمة قديم قدم الزمان وربما ابعد، وتوارثنا الكلمة ارثا غاليا وثروة فريدة وينبوع عطاء لا ينضب، لا يستباح، لا يغتصب ولا يقيّده زمان ومكان. انها كنز أليف وَفيّ وسلاحنا الامضى والعرش الذي نعتليه صونا للحقيقة.
ما اتمناه في مشوارنا المتبقي بعد ارتقائك الى ملكوت الرب، ان نظلّ ألق الكلمة والحب والجمال، والفيض الانساني الذي ينعش النفوس والقلوب، والارادة التي تحيي فينا التحدي والمثابرة من اجل ان يكبر مولود الامل لتصبح خطواته تُعد بالالاف ويؤرّخ للبنان المجد والكرامة والاستقلال الناجز.
انها رحلة في عمر.. ولغيرنا مساحة في هذه الرحلة التي اتذرّع ان تكون في العالم الاخر بلا نهاية.