بِقَلَمِ: أ.د.غَازِي مُنِيرِ قَانْصُو
فِي لَحَظَاتِ الْحَنِينِ وَالذِّكْرَيَاتِ، تُصْبِحُ الْكَلِمَاتُ كَأَمْوَاجِ الْبَحْرِ النَّاشِطَةِ، مُحَمَّلَةً بِأَعْذَبِ الْمَشَاعِرِ وَأَرْقَى الْأَمَانِي نَحْوَ تِلْكَ الرُّوحِ النَّبِيلَةِ الَّتِي زَادَتْ عَالَمَنَا جَمَالًا وَسُكُونًا، وَأَشْرَقَتْ حَيَاتَنَا بِنُورِهَا الدَّافِئِ. إِنَّهَا الْأُمُّ الْمُمَيِّزَةُ، الَّتِي أَتَتْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ، وَتَبَارِكُنَا بِقُوَّةِ الإيمان.
كَانَتْ؛ بَسْمَتُهَا الرَّقِيقَةُ تَمْلَأُ الْبَيْتَ بِالسَّعَادَةِ، وَعَبْقُ طَيبَتِهَا يُعَطِّرُ الْأَجْوَاءَ، فَتَبْدُو الْحَيَاةُ أَكْثَرَ جَمَالًا وَأَمَانًا بِوُجُودِهَا. إِنَّهَا الْأُمُّ الْمُؤْمِنَةُ، هي السَّيِّدَةُ المُشْرِقَةُ؛ مُشْرِقَةُ الْوَجْهِ، مُشْرِقَةُ الْقَلْبِ، مُشْرِقَةُ الْكَلِمَةِ، مُشْرِقَةُ الْمَرَحِ، مُشْرِقَةُ حَتَّى فِي حُزْنهَا، مُشْرِقَةٌ في كل مناسباتها، مُشْرِقَةٌ في كل جَلَساتِها ومع الجميع. إنّها الَّتِي رَبَتْنَا عَلَى الْإِيمَانِ وَالثِّقَةِ بِاَللَّهِ، وَتَعَلَّمنَا مِنْهَا أَنَّ الصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ هُمَا مِفْتَاحُ السَّعَادَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْعَابِرِ.
بَيْنَ طَيَّاتِ بَيْتِهَا، تَتَنَاغَمُ الْأَصْوَاتُ بِمَقَامِ الصَّلَاةِ، وَتِلَاوَةِ آياتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَقِرَاءَةِ الِأدِّعِيَةِ، وَبِكُلِّ الِاهْتِمَامِ المَنزِلِي، فَتُشْعُرُ الْقُلُوبُ بِالدِّفْءِ وَالْأَمَانِ. إِنَّهَا الْأُمُّ الْمُرْبِيَّةُ بِالْحَنَانِ وَالِالْتِزَامِ، الَّتِي تُنَمِّي فِينَا الْأَخْلَاقَ الْحَمِيدَةَ وَتَنْشُرُ فِينَا رُوحَ التَّسَامُحِ وَالْعَطَاءِ وَالتَّوَاصُلِ وَالتَّفَاعُلِ وَالِانْسِجَامِ وَالْوِئَامِ.
كَانَتْ؛ تَتَلَأْلَأُ عَيْنَاهَا بِنُورِ الثقةِ بِاللهِ وَالتَّفَاؤُلِ، وَتُشَجِّعْنَا دَوْمًا عَلَى تَحْقِيقِ أَحْلَامِنا وَأَهْدَافِنَا. إِنَّهَا الْأُمُّ الَّتِي وَلَدَتْ أَبْطَالًا، وَأَعْلَمَتْنَا أَنَّ النَّجَاحَ يَبْدَأُ مِنْ دَاخِلِنَا، بِثِقَتِنَا بِأَنْفُسِنَا وَبِجَدَارَتِنَا، وَبِتَوَكُّلْنَا اوْلًا وَآخِرًا عَلَى اللَّهِ الَّذِي لَا الْهُ إِلَّا هُوَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
عِنْدَمَا نَتَذَكَّرُهَا: لَا زِلْنَا نَرَى فِي عُيُونِهَا بِرِيقِ الْأَمَلِ وَالْحِنَانِ وَالتِّحْنَانِ، وَنَشْعُرُ بِقُوَّتِهَا تَمْلَأُ قُلُوبَنَا بِالشَّجَاعَةِ وَالْعَزِيمَةِ. إِنَّهَا الْأُمُّ الَّتِي تَرَبَّينَا عَلَى الْخَيْرِ وَالتَّقْوَى، وَتَحُثُّنَا عَلَى مُوَاجَهَةِ الْحَيَاةِ بِكُلِّ ثِقَةٍ وَإِيمَانٍ.
فِي زَمَنِ الْهَزَائِمِ الذي ولّى، وَزمنِ الِانْتِصَارَاتِ الّذي حَلَّ، وًفِي لَحَظَاتِ الْحُزْنِ وَالْفَرَحِ، تَبْقَى صُورَتُهَا مَحْفُورَةً فِي أَعْمَاقِنَا كَنَجْمَةٍ سَاطِعَةٍ تُضِيءُ دَرْبَنَا، وَكَلِمَاتُهَا تَرْنُو إِلَيْنَا كَنَغْمَةٍ مَلْحَمِيَّةٍ تَعْزِفُهَا أَوْتَارُ مَجدِ الْحَيَاةِ، تُذَكِّرُنَا بِأَنَّنَا مَا زِلْنَا أَبْنَاءَهَا، مُحَاطِينَ بِحِنَانِهَا وَمَحَبَّتِهَا الدَّائِمَةِ وعِزِّها الذي لا يَزُول.
لَقَدْ تُوُفِّيَتْ هَذَا الْأُمُّ، رَحِمَهَا اللهُ بِوَاسِعِ رَحْمَتِهِ، وَتَفَضَّلَ عَلَيْهَا بِرِضْوَانِهِ، رَحَلَتْ إِلَى بَارِئِهَا الْعَظِيمِ.
نَتَوَجَّهُ بِقُلُوبٍ مَكْلُومَةٍ وَأَفْئِدَةٍ مَحْزُونَةٍ الى الله الحي القيوم الحليم الكريم الرحمن الرحيم ان يتقبلها بأحسن قبول بالرحمةِ والرِّضوان.
ونَرْثِي رَحِيلَ هَذِهِ الْأُمِّ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي كَانَتْ شَمْعَةً تُنِيرُ دُرُوبَنَا وَرَحْمَةً تُغَمِّرُنَا بِدِفْءِ حِنَانِهَا. رَحِيلُهَا يَتْرُكُ فِي قُلُوبِنَا فَرَاغًا عَمِيقًا، وَلَكِنْ نَقْتَنِي فِي ذِكْرَيَاتِنَا الْجَمِيلَةِ بَصَمَاتِهَا الصَّافِيَةِ وَعَطْفِهَا اللَّامْتِنَاهِيِّ.
بَيْنَ صَفَحَاتِ الزَّمَنِ، سَتَظَلُّ ذِكْرَاهَا مَحْفُورَةً بِأَحْرُفٍ مِنْ ذَهَبٍ، تَرْوِي لَنَا قِصَّةَ حَيَاةٍ مَلِيئَةٍ بِالْعَطَاءِ وَالْمَحَبَّةِ. إِنَّهَا الْأُمُّ الَّتِي تَرَكَتْ قِصَّةً تَارِيخِيَّةً جَمِيلَةً فِي قُلُوبِ أَبْنَائِهَا وَبَنَاتِهَا وعَارِفِيها، وَسَتَبْقَى حَيّةً فِي ذِكْرَيَاتِنَا كَرَمْزٍ لِلْحِنَانِ وَالْعَطَاءِ وَالْحُبِّ وَالْكَرَمِ وَالشَّرَفِ الْعَظِيمِ.
رَحِمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّ الْغَالِيَةَ وَأَسْكَنَهَا فَسِيحَ جَنَّاتِهِ، وَأَلْهَمْنَا وَأَهْلَهَا الصَّبْرَ وَالسَّلْوَانَ. وَلْنَجْعَلْ مِنْ ذَكْرَاهَا مَصْدَرًا لِلْعَزِيمَةِ وَالتَّفَاؤُلِ، وَلِنَحْتَفِظْ بِتَعَالِيمِهَا النَّبِيلَةِ كَدِرْعٍ يَحْمِينَا فِي مُوَاجَهَةِ الْحَيَاةِ وَتَحْقِيقِ أَحْلَامِنَا.
رَحِمَهَا اللَّهُ وَاسْكُنْهَا فَسِيحَ جَنَّاتِهِ الْفُرْدُوسِيَّةَ فِي مَلَكُوتِهِ الْأَعْظَمِ، وَيُلْهِمُ أَهْلُهَا، بشكلٍ خَاص، وَذَوِيهَا،ومُحبيها، الصَّبْرَ وَالسَّلْوَانَ، وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ الَا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
مَعَ تَحِيَاتِي،
أ.د.غَازِي مُنِيرِ قَانْصُو
الْإِثْنَيْنِ فِي ٢٧ أَيَّار ٢٠٢٤