حيّان سليم حيدر
آن الأوان لتغيير الإسطوانة. وقد تطوّر العالم من أَعْلَمِهِ إلى أسْفَلِهِ. العالم إنتقل من الإسطوانة على أحجامها وسرعاتها المختلفة إلى الشرائط الملفوفة والمُعلّبة إلى مصغّرات لوحات الحافظات إلى شرائح لم تَعُد تحتاج للشرح إلى الكلام والسجال والتكرار عبر الأثير إلى… قريبًا جدًّا، التواصل بالومى، ونحن؟ نحن ما زلنا نعيد هذه الإسطوانة ولا نغيّرها !
كفّوا عن التنظير “الإستراتيجي” بالقول: “الحرب لم تحقّق أهدافها”. الحرب هي نفسها أهدافها، هي الحرب في سبيل الحرب. ثمّ الحرب للحرب. ثمّ الحرب طريقٌ إلى الإتقان في “فنون” الحرب، في ما بات يُعْرَف بState of the Art . الحرب وسيلة. الحرب أداة. الحرب دورة إقتصادية مستدامة. الحرب شدّ عصب. الحرب مهنة. الحرب إسترزاق، الحرب… وهل أزيد؟ إليكم إذن.
الحرب إنتاج فكري وإستراتيجي وعَمَلاني وإختراعات مادية ونفسية ومالية وإبداعات إعلامية وغيرها. الحرب تجنيد جيوش من المرتزقة وأَنْجَزَة المجتمع (من (NGOs. الحرب وضع خطط على مراحلها مفصّلة كلّ حسب الطلب والهدف والمُسْتَهْدَف والنفع والضرر. الحرب إختراع عدو. ثمّ الحرب صرف موازنات فلكية لشيطنة هذا العدو المُخْتَرَع. الحرب فرص عمل، الحرب إنتاج “أبطال وحرامية” في الخطابة والتضحية والأسطورة وفي المواقف الطنّانة ومن ثمّ صناعة أفلام عنهم وعنها. الحرب هي لإحداث كوارث وصرف الموازنات لتصويرها وترويجها “أيْقونات” تحاكي مشاعر الطبيعيين من الناس وتستغلّ عواطفهم، بدلًا من صرف تلك الأموال على إغاثة الضحايا وتحسين أوضاع المنكوبين. الحرب خلق فرص للإغاثة والإطعام والمداواة وإعادة تبرير وجود منظمات دولية وعالمية ومهنية و”إنسانية” وحتى إرهابية. الحرب صناعة السلاح (زينة الرجال) والدواء والغذاء (حِلّة النساء).
الحرب قتل وظلم وصراخ ونواح وبطش من جهة… وقلق، فقط قلق من الجهة المقابلة. والقلق بالقلق يُذْكَر، كما علّق أحد الظُرَفاء على بيانات الأمين العام السابق للأمم المتحدة الذي كان يبدي قلقه عند كلّ فاجعة في حروبنا العالمية، في العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها… فاحتسب مدخول السيد الأممي في آخر أيام وظيفته وقسّمه على عدد قلقاته في العام الواحد لتكون النتيجة أن كلفة القلقة الواحدة على “المجتمع الدولي” بلغت137,000 دولار أميركي.
هذا مع إعترافنا بدقّة وجدارة تحليل إستراتيجيّي الحروب في الإدارات والمراكز المعنية بالأمر. إنّما فعلًا كفّوا عن القول أن الحرب “الفلانية” لم تحقّق أهدافها. وإلّا ؟ ولِنُعْطي مثلًا واحدًا فقط شاخصًا أمامنا: لكانت حرب أميركا العظمى وحلفها الناتوي قد حقّقت هدفًا ما في أفغانستان حتى الآن ! أمّا المُسْتَهدَفون المُسْتضعفون فيخوضون الحروب مُجْبَرين مغلوبين على أمرهم على أساس هدف لا بدّ منه ألا وهو الصمود والبقاء وربّما “الإنتصار” بما يمكن أن تعنيها هذه الكلمة. أمّا المُعتدي ؟ المُسْتكبرون الطغاة فيخوضونها الحرب للحرب، للمنفعة، للمتعة، لتأديب الآخر، أيّ آخر، لتقريع طالب الحرية باسم الحرية، لإلغاء مفهوم الديمقراطية باسمها، وغالبًا ما يكون الأقوى عسكريًّا المتحكِّم، وإقتصاديًّا المتسلّط فكريًّا، فهو “يلعب” وفقًا لقواعد كبريات الشركات العابرة للدول والقارات، المُنْهية عن الضمير والوجدان والأخلاق، الساعية إلى إلغاء أيّ إستقلال ومحو مفهوم المقاومة والصمود وبالتالي العزّة والكرامة. هي إذن دوّامة جهنّمية متكاملة في ما بات عالميًّا حالة مستدامة تتجدّد. هي “حلقة مفرغة”، لولبية، لا نهاية لها، من تخادم عناصرها حيث الحرب تخدم الإنتاج، والإنتاج (سلاح، دواء، غذاء، ممنوعات،…) يغزّي بدوره، أي يخدم، الحرب… وهكذا دواليك !
ليس من رابح في الحرب، أيّ حرب. هناك الخاسرون ليس إلّا… الخاسرون فقط !
هلّا غيّرتم الإسطوانة ؟
بيروت، في عيد الأم 2021م.
باحث عن هدف ما… أيّ هدف.
زر الذهاب إلى الأعلى