د.أحمد عياش – الحوار نيوز
كنت طفلا لم اتجاوز الثانية عشرة من عمري، في زمن الحرب الاهلية الطاحنة، قبل واثناء سقوط النبعة وتل الزعتر، حين اختفىّ الطحين والغاز والوقود والكهرباء والمال ،ما ألزم الناس ان تدبّر أمرها بنفسها لتبقى على قيد الحياة.
كنّا نخرج كعائلة عند آخر عتمة الليل لنصل مع بدايات اشعة الضوء ،لنعود قبل شروق الشمس بما تيسر من حطب ومن بلاّن ،إما جرّا خلفنا او فوق رؤوس الامهات الجبابرة.
كنا نخرج خفية وبحياء من بيوتنا، الا ان الضيعة كلها كانت تلتقي هناك بلا موعد مسبق، عند التلة الأخيرة من بلدتنا.
كنا جميعا نعرف بعضنا، نتعاون في ما بيننا ،وانما بصمت وبهدوء، فالحاجة كانت توحدنا ضد العوز والحرمان ،وكان الصمت يوحدنا لحفظ كراماتنا وكبريائنا…
لم يكن الفقر عيبا.
كان النضال والكفاح بطولات.
كنا نخرج مجموعات متفرقة الى البرّية عند الليل لنعود صفاً طويلا ومنتظما قبل ان تفضح الشمس حلالنا…
ما نمنا ليلة في سنتي 1975-1976 إلا على أمل ان المعركة تلك هي آخر معارك الحسم، وبعدها ستعم احتفالات المواطن الحرّ والشعب السعيد.
كان قنديل الكاز يثقل رأسنا في الليل، كما كان الدولاب المحترق لقتل البعوض قصاصا لنومنا ،كما كان دخان التنور والصاج يخنقانا عند الصباح الباكر .
لم نحتج يوما على رائحة كاز ولم نتذمر من دخان يرتفع ليؤمن لنا خبز المرقوق.
كنا ننقل الماء ب”الغالونات” ونسكبه في المغطس وفي اللكن وفي البرميل.
كان افضلنا يغتسل ب”الكيلة” قبل ان يتوضأ ليقيم الصلاة وليحمد الرب على نعمته، لأننا كنا مقتنعين انه لولا لطف الله بنا لكان وضعنا اسوأ بكثير مع تلك الأحزاب والدول.
عمر اللطف الالهي اقدم بكثير من لطف الاحزاب الحالية عند الازمات…
ما كان يجعلنا نفرح بحزننا ونُسعد بمأساتنا ان الاخبار المتواترة كانت تبشرنا ان العركة تلك هي آخر معارك شعبنا، وبعدها ستحلّ الاعراس والهدايا والتعليم والسكن والطبابة المجانية وليالي السهر…
الا جارنا البعثي العراقي كان يقسم لنا ان الجيش الاحمر لن يتدخل لفك حصار النبعة وتل الزعتر ،ما كان يستفزّ الرفاق في بيتنا.
ومرّت السنون وتعاقبت الفصول لتتسلسل حلقات السقوط.
بعد سقوط تل الزعتر سقطت صبرا وشاتيلا وسقطت بيروت وسقطت قانا وسقطت بغداد وسقطت طرابلس الغرب ،وقتل ياسر عرفات واستشهد السيد عباس الموسوي وسقطت الأمة ،وكادت ان تسقط دمشق لولا لطف الاله وطائرات الروس بعد سقوط كل جبهة الصمود والتصدي ومعهم سقوط كل بلاد السوفيات.
وها نحن اليوم وبهدوء نعود لآخر تلة باقية في بلادنا لنجمع الحطب ولنخزن الطحين والوقود ولنتقاتل على آخر شمعة بعد اختفاء المازوت .
وما زالت الاخبار نفسها، يكررها حفيد مقدم نشرات الاخبار السابق عما سبق، يطمئننا ان المعركة الحالية لهي آخر معارك الابطال والمؤمنين والاحرار ،وان بعدها ان شاء الله واراد سنحيا ك”مواطن حرّ وشعب سعيد”، نحتفل في الساحات بلا موسيقى شيطانية وبلا غناء لان الموسيقى الفرحة حرام ، ولان تآلف الطوائف مستحيل ،ولان بناء الوطن من خيال ولان الطب والعلوم عادوا حكرا للطبقات الثرية ولابناء قادة الأحزاب، وان الطبابة صارت اذلالا، كما شراء سيارة عتيقة صارت من الامنيات ومن تعطلت ثلاجته عاد لزمن النملية…
وما الصبر الا صبر ساعة..
اليوم نغتسل بالكيلة ونقول الحمدلله، وفي نشرات الإخبار ما زالوا يرددون ان هذه المعركة هي المعركة الأخيرة ضد الرجعية وضد الصهيونية وضد عملاء الدولة المالية العميقة، وضد امارة المال والفساد الداعشية وضد اذناب عملاء اسرائيل…
معركتنا الاخيرة لا نهاية لها، ستتكرر معنا في السويد وفي استراليا وفي المانيا وفي كندا..
اينما حللنا اخذنا معركتنا الاخيرة معنا على امل ان الغد افضل واجمل هناك…
حتى في الغربة نعيش على امل ان تعبنا وتضحيتنا لمعركتنا الاخيرة وبعدها الرخاء.
ليأت الانهيار!
صباح الخير لمن استيقظ وصباح النور لمن قال لا حول ولا قوة الا بالله، “فلتفرقنا برائحة طيبة تلك المدعوة بحميدة التغلبية…
معركتنا الاخيرة في قرقيسيا وفي هرمجدون…نلتقي هناك….
زر الذهاب إلى الأعلى