هل يمكن للحكومة محاسبة حاكم مصرف لبنان؟
د.كلود مشيك*
بدأت العملة الوطنية بالترنّح والتهاوي وفقدان قيمتها منذ شهر تشرين الأول الماضي ،في أعقاب إغلاق المصارف أبوابها امام المودعين جرّاء التظاهرات التي خرجت إلى الشارع للمطالبة بإسقاط النظام. وكان قد سبق ذلك اجراءات متعددة من قبل الولايات المتحدة الأميركية لتشديد الخناق على الحكومة اللبنانية التي كانت تعتبرها "حكومة حزب الله" .
لا يجب في هذا السياق إهمال موضوع انتخاب الرئيس ميشال_عون رئيساً للجمهورية اللبنانية ،وكانت العين الأميركية عليه منذ انتخابه لعدم انصياعه لها في الملفات الإيرانية والسورية واليمنية وخاصة ملفي صفقة_القرن واللاجئين الفلسطينيين في لبنان مع مجيء إدارة ترامب، والتنقيب عن النفط والغاز وعناد الاخير ورفضه بشكل عام الإملاءات الأميركية.
– الرئيس نبيه بري وملف التنقيب عن النفط والغاز:
تمت ترجمة هذا الموقف الموحّد الرافض للإملاءات الأميركية من خلال الموقف الذي مثّله رئيس مجلس النواب الاستاذ نبيه بري في المفاوضات التي أجراها مع الأميركيين بخصوص التنقيب عن الغاز والنفط في المياه اللبنانية والخلاف مع الكيان المحتل بهذا الخصوص والتي انتصر فيها كما العادة برفضه كل الضغوطات والمناورات الأميركية.
لم تقدر الادارة الأميركية على تطويع لبنان وفرض املاءاتها بخصوص ملف التنقيب عن النفط والغاز لأنها كانت تفاوض رجلاً مخضرماً ووطنياً اسمه الرئيس نبيه_بري الذي يعلم جيداً كيف ينتصر بالسياسة كما فعلها سابقاً في حرب_تموز ٢٠٠٦ الذي مثّل حينها رأس المقاومة السياسية ضد الحرب الإسرائيلية على لبنان و انتصر. لهذه الأسباب عينها جاءت الهجمة على الرئيس بري في بداية الحراك بإشارة أمريكية واضحة، لمحاولة الإقتصاص منه بسبب مواقفه الوطنية المعتادة عليه فيها الدولة اللبنانية.
أدى كل ذلك إلى اتخاذ قرار من قبل الإدارة الأميركية بضرب الاقتصاد اللبناني ومعاقبة اللبنانيين جماعياً وظهر ذلك جلياً من خلال العقوبات التي أعلنت عنها الإدارة الأميركية وضعتها منذ السنة الماضية على بعض المصارف اللبنانية منها البنك اللبناني الكندي وكان آخرها بنك جمال_تراست_بنك الذي أغلق أبوابه بعد تجميد حسابات عملائه كل ذلك جاء بتنفيذ حرفي من حاكم مصرف لبنان للقرارت الأميركية التي لم يراع فيها المصلحة الوطنية واللبنانيين بل الأميركية حصراً وبالتالي بدأت الثقة الإئتمانية تهتز بالقطاع المصرفي اللبناني.
– استقالة سعد_الحريري وتعيين دياب رئيساً للحكومة
رضخ الرئيس سعد الحريري للضغوط الخارجية وقدم استقالته بحجة ضغط الشارع جراء المظاهرات التي خرجت وانسحب من الملعب السياسي لفترة قصيرة ما أدى للاتفاق بين الأطراف السياسية على تعيين الرئيس حسان دياب خلفاً له وعليه بدأ العمل بروحية جديدة وخفتت الاحتجاجات بانتظار النتائج.
– ازمة كورونا العالمية وعودة الضغوط الأميركية من باب مصرف لبنان :
جاءت أزمة كورونا فيروس لتجبر دول العالم اجمع على الانكفاء والعودة إلى داخل مجتمعاتها لمعالجة مشاكلها الداخلية وبالتالي تم تأخير الانهيار الاقتصادي الذي تريده الإدارة الأميركية للبنان.
خلال الشهر الحالي عادت الإدارة الأميركية للتدخل بالشؤون اللبنانية مع تكليف ومجيء سفيرة الولايات المتحدة الأميركية في لبنان الجديدة واول أوجه عملها كان التدخل بالتعيينات في مصرف لبنان لنائبو حاكم مصرف لبنان التي أرادت حكومة دياب تشكيلها وتعيينها. لم تخجل الإدارة الأميركية ممثلة بالسفارة الأميركية بالرد على الانتقادات تجاهها من الداخل اللبناني وجاء الرد الرسمي اعترافاً بتدخلها تكفَّل به المُتحدث باسمها كايسي بونفيلد، مُدّعياً أن بلاده تفعَل ذلِك من باب الصداقة وتقديم النصائح.
وهذا ما جاء نصّاً بتاريخ ٥/٠٤/٢٠٢٠ نقلاً عن قناة ال MTV اللبنانية:
US Embassy spokesman Casey Bonfield to MTV :
Appointments in the Central Bank are a Lebanese matter, and the US is only providing advice "as friend and partner to Lebanon" to appoint reliable and competent experts.
– قرارت حاكم مصرف لبنان
سقطت الليرة اللبنانية بشكل مدو امام الدولار الأميركي خلال الأشهر والأيام الماضية حتى وصل الدولار الواحد إلى أربعة آلاف ليرة لبنانية، وذلك بسبب العقوبات الخارجية المبطّنة والعلنية والمشاكل الداخلية السياسية العميقة التي انسحبت على الاقتصاد والعملة الوطنية والسوق النقدية وايضاً نتيجة القرارات المالية والمصرفية المتلاحقة والمتناقدة في المضمون التي اتخذها حاكم مصرف_لبنان مروراً بالضجة التي رافقت اتهامه حسب مجلة الدرج بتحويل ملياران ونصف المليار دولار اميركي لحسابه الخاص الى الخارج، قام على إثر ذلك بالدفاع عن نفسه في مقابلة صحفية غير موفّقة وغير مقنعة بتاتا بل منع اللبنانيين من اجراء تحويلات مالية بسيطة لتسيير شؤون التجارة والأمور الحياتية اليومية الى الخارج لتسيير عملهم وحياتهم وسمح لنفسه ولآخرين يتكتم عن أسمائهم بتحويل مليارات الدولارات الى الخارج.
اما قرارت حاكم مصرف لبنان بالتنسيق مع جمعية المصارف ادت إلى حرمان الأكثرية الساحقة من اللبنانيين الحصول على مدخراتهم في المصارف ومنعتهم من استلام اموالهم التي تم إرسالها لهم من الخارج عن طريق وسائل الدفع الإلكترونية المختلفة ( Western Union, OMT, ETC) الا بالليرة اللبنانية وكان قد أصدر مؤخراً قراراً يحمل الرقم ١٣٢٢٠ صادر بتاريخ ١٦/٠٤/٢٠٢٠ ينص على وقف دفع التحويلات النقدية الإلكترونية (Western Union, OMT) بالدولار واستبدال دفعها بالليرة اللبنانية حصراً وفقاً للسعر الذي يحدده السوق.
أصبح الناس جميعاً في سجن كبير ويترافق ذلك مع سجن الكورونا فيروس عملاً بقرار التعبئة العامة وارتفع الدولار الواحد من ٣٠٠٠ ل. ل. إلى ٤٠٠٠ ل. ل. في وقت قياسي جراء هذه القرارات.
– من هو حاكم مصرف لبنان؟
عيّن رياض سلامه حاكماً لمصرف لبنان في عام ١٩٩٣ واعيد تعيينه لعدة ولايات متتالية وهو يرأس المصرف المذكور ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن وعايش حكومات رفيق الحريري وسليم الحص وفؤاد السنيورة وسعد الحريري ونجيب ميقاتي وصولاً إلى حكومة حسان دياب التي جاءت بعد استقالة حكومة الحريري نتيجة الضغط الشعبي في الحراك الذي بدأ في ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩.
– كيفية محاسبة حاكم مصرف لبنان؟
تنص المادة ١٩ من قانون النقد والتسليف على أنه :"
فيما عدا حالة الاستقالة الاختيارية، لا يمكن اقالة الحاكم من وظيفته الا لعجز صحي مثبت بحسب الاصول او الاخلال بواجبات وظيفته فيما عناه الفصل الاول من الباب الثالث من قانون العقوبات، او لمخالفة احكام الباب 20، او لخطأ فادح في تسيير الاعمال."
اما بالنسبة للنقاط المثارة قانوناً فهي التالية :
١- الإشكالية القانونية الاولى لا تتمثل بكيفية إثبات توفّر الخطأ الفادح في عمل الحاكم الشيء المؤكد فعلياً نظراً للنتائج الكارثية الحاصلة، بل بتحديد الجهة صاحبة الاختصاص التي من واجبها قانونا تقييم عمل الحاكم وتقدير وجود الخطأ الفادح من عدمه ومحاسبته اذا كان مرتكباً لأي نوع من المخالفات او الجرائم وفقاً للمادة المذكورة أعلاه.
٢-ان العمليات المالية التي أجراها حاكم مصرف لبنان خلافاً للمادة 70 من قانون النقد والتسليف من أجل حماية المصارف ترافقت مع كلام شبه مؤكد أن الإجراءات المالية تعد ترجمة لرغبة اميركية بمنع الدولار عن السوق اللبنانية لمعاقبة حزب الله او اتخاذها للأخير كذريعة.
٣- يجدر السؤال هنا عن القيمة القانونية للإتهامات الصريحة لحاكم مصرف لبنان الصادرة من قبل رئيس الحكومة حسان دياب في مؤتمره الصحفي الذي عقده بتاريخ ٢٤ نيسان ٢٠٢٠ ووجه من خلاله للأول اتهامات رسمية صريحة على شكل أسئلة موجهاً الاتهام اليه بارتكابه عدة مخالفات وجرائم ترقى الى الخيانة العظمى.
يوجد عدة آراء قانونية بهذا الخصوص احداها للزميل الدكتور بول_مرقص رئيس مؤسسة JUSTICIA نشرت على صفحة VdL يقول فيها بالصوت ان حاكم مصرف لبنان مستقل عن السلطة التنفيذية وانه يعمل بدون مجلس مركزي وان الحكومة تستشيره عند الضرورة مستنداً إلى المادتين ٧٥ و٤٣ من قانون النقد والتسليف وان سبل محاسبته ضيقة جداً ولا يمكن للحكومة ان تقوم بهذا الإجراء بدون عواقب قانونية كما ويجب إثبات ارتكابه للخطأ الفادح، الخ….
نعارض هذا الرأي بل أن إقالة حاكم مصرف لبنان من صلاحية مجلس الوزراء ولديه الصلاحية الكاملة للقيام بهذا الإجراء استناداً لمبدأ ان لا يمكن تعديل او إلغاء قانون الا بقانون وأن مجلس الوزراء من يقوم بتعيين حاكم مصرف لبنان بمرسوم وبالتالي يمكنه تعديل هذا المرسوم حيث تنص الفقرة الأولى من المادة ١٨ لقانون النقد والتسليف على أنه " يعين الحاكم لست سنوات بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية" .
يتم معارضة الحكومة بموضوع اقالة حاكم مصرف لبنان لما يمكن أن يؤدي هذا الإجراء من عواقب قانونية وان الأخير يمكنه ان يلجأ إلى القضاء – وهذا من حقه كأي مواطن آخر- ولكن مع كل المعطيات المتوفرة بحوزتها لا يستوجب على الحكومة تقديم كثيراً من الحجج والبراهين القانونية للإقالة ويمكنها تطبيق المادة ١٩ من قانون النقد والتسليف بشكل طبيعي، اما الشق الجزائي والتأديبي فهو خاضع لقانون العقوبات والقضاء العدلي وفقاً لنص المادة ١٣ من قانون النقد والتسليف التي تنص على أنه: " لمحاكم بيروت دون سواها صلاحية النظر في جميع النزاعات بين المصرف والغير".
الأكيد ان البعد القانوني لهذه القضية سهل الفهم والتطبيق باعتماد الأصول القانونية المتبعة في حالة اللجوء لمعاقبة موظف عام ومن ضمنهم حاكم مصرف لبنان والمؤكد ان في هذه المسألة أبعاد اضافية وهي السياسية والاقتصادية.
إن اقالة حاكم مصرف لبنان المدعوم سياسيا من أطراف خارجية كما يتوارد من أخبار يمكن أن يغضب هذه الأطراف منها الولايات المتحدة الأميركية حسب ما تم تسريبه مؤخرا وبعد ثانٍ يتمثل بمخاطر انهيار اقتصادي اكبر في حال القيام بهذا الإجراء لأسباب تتعلق بعلاقات رياض سلامة الدولية المتعددة التي لها تأثير على بعض الأطراف في لبنان.
نقول أخيراً، انه لا يوجد اي مشكلة قانونية في اقالة وملاحقة رياض سلامة بل المشكلة سياسية-اقتصادية بحتة.
بناء على كل ذلك يمكن اقالة ومحاكمة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اذا ما اقتضى الأمر، ولكن الأفضل والانجع ابقاؤه في مركزه وملاحقته قضائياً واجراء محاكمة عادلة له لإثبات الجرائم الموجهة اليه اذا ما توفرت منعاً لإلحاق الضرر السياسي والاقتصادي بلبنان ومن ثم إجراء المقتضى بناءً على كل ذلك.
يمكن لوزيرة العدل ان تطلب من المدعي العام التمييزي في لبنان الادعاء وملاحقة حاكم مصرف لبنان.
*استاذ محاضر في الجامعة اللبنانية