حيدر شومان – خاص الحوار نيوز
…وعدت إلى لبنان بعد غياب سنة وعدد من الشهور… لقد كانت الصورة عموماً شاحبة في ما مضى في كل تجلياتها، والواقع كان أليماً عند كل مفارقه، فالأزمة بدأت قبل ذلك بكثير، ومعاناة المواطن اللبناني حينها أخذت ترسم صورها في كل تفاصيل حياته. لكن ما شهدتُه عند العودة يحدّث بأمور لم أشهدها من قبل، ولا أعني في ذلك طوابير الذل طلباً للمحروقات، وارتفاع الأسعار لحوقاً بسعر الدولار الأميركي، ولا فقدان الدواء من مصادره، وارتفاعه القاتل إن وُجد، ولا ولا… لكني وجدت العجز والاستسلام على وجه المواطن إلا من شيء من التأفف، العجز في تحريك المياه الراكدة وإحداث شيء من التغيير في الواقع المستجد، والتأفف الذي لا يلوي على شيء سوى لعن البلد والحكومة والزعماء الذين ما زادوا البلاد إلا خراباً وانهياراً. لقد عاش اللبناني الحروب على أنواعها حوالي النصف قرن، وكان في كل مرة يقف مجدداً بعد السقوط مقاوماً المصيبة ومصلحاً ما أفسده الدهر ومنطلقاً في درب الحياة من جديد يحدوه الأمل بما سيأتي، ساخراً من كل ما كان ويكون وسوف يكون. لم تضعفه المآسي، ولم تربكه الآلام، وظل متمسكاً بالنذر اليسير من المتوفر أمام ناظريه، فابتدع في غياب الدولة وهيبتها طرق الحصول على الماء والكهرباء وسبل المواصلات و…
لكنه اليوم أمام حقبة جديدة لم يعرف لها مثيلاً من قبل، ولم يعش حلقاتها السوداء فيما مضى، فقد بات مستسلماً لقدره الذي وكأنه لن يتغير مهما حاول مقاومته، ورضي بالذل الذي رُسم له في الخارج وبمعونة من الداخل، فحضن الذل وسار في دربه راضياً قانعاً. فلا غياب حكومة أقلقه، ولا تشكيلها أسعده، وظل هو هو في الحالتين، يلهث خلف حاجاته الحياتية الضرورية وغير المتوفرة وكأن في ذلك منتهى أمله، وغاية وجوده، ولا شك أن في ذلك إلهاءً له للتغاضي عن أمور خطيرة هامة تتعلّق بالوطن ومستقبله وعدم اعتبارها من الأولويات. فالذي يؤرقه جوع أولاده لن يقاوم عدواً اغتصب أرضه ولمّا يزل، ولن يدافع عن ثرواته البحرية من نفط وغاز، ولن يحارب الظلم الواقع على إخوته أو جيرانه، ولن يفكر في أي تقدّم أو تطوّر أو ثقافة أو حضارة أو تحسين واقع أو تغيير وضع أليم. إن كل ذلك من الكماليات التي تتخطّى مجالات اهتمامه وتفكيره، وليترك للنخبة المريبة: صنيعة الخارج ومنفذة أمره، أن تتولى مثل هذه الشؤون الخطيرة، وليكن تركيز المواطن منصبّاً على تأمين الغذاء لعائلته، والتضرع لله عزّ وجلّ أن يغيّر الأحوال ويحسّن الأوضاع، فإنه الأمل المتبقّي في ما سيأتي.
والعجز يتجلّى في أكبر صوره عندما يفقد اللبناني الأمل حتى في التغيير في الانتخابات القادمة بعد شهور قليلة واعتبار أن الطبقة الحاكمة هي من سيحكم مجدداً ولن تستطيع أية قوى معارضة إحداث الفارق إلا من بعض الشخصيات التي قد يسير معظمها في ركاب سلطة الأمر الواقع، وهذه التي انتهجت السرقة والفساد والتزوير لعقود طويلة، وساهمت في تدمير كل أركان الدولة لن يغيرها الاستسلام ولا التأفف ولا العجز ولا التضرع لله في إزالتها من الوجود ومن الحكم ومن التحكّم في مصائر العباد.
إنه رأي لا شك سوداوي لمرحلة خطيرة يمر بها هذا الوطن الحبيب، ونرجو أن يكون خاطئاً في كل ما سلف، ويأتي ضوء من خلف العتمة البعيدة ليحطّم السواد المسيطر على الأنفس والقلوب، فلبنان، كما يعرفه من عاش في بلد غيره، من أجمل الأوطان وأكثرها تميّزاً وخصوصيةً وإبداعاً، واللبناني، على الرغم من كل ما مرّ ويمرّ به، شجاع ومجاهد ومعطاء ويستحق حياة أفضل، وهو الذي لم يعتد عيش العبودية والخنوع والتقهقر، ولا يزال المغترب اللبناني خير أنموذج في أي بلد يحلّ فيه، والاستسلام والعجز ليسا قدره، أياً يكن الزعماء والحكام والفساد والسرقة والنهب والجوع والحرمان…
زر الذهاب إلى الأعلى