
بقلم د. عماد عكوش – الحوارنيوز
يشهد عالم الاستثمار حالياً واحدة من أكثر المناظرات إثارةً في العقد الحالي ، حيث تتلاقى وقائع ماضية مليئة بالاحداث مع توقعات مستقبلية مليئة بالوعود حول ثورة الذكاء الاصطناعي .
في مركز هذا الجدل ، يقف طرفان متناقضان هما المستثمر الأسطوري مايكل بيري ، الذي اشتهر بتوقعه انهيار الرهن العقاري عام 2008 ، وشركة “إنفيديا” ، العملاق التكنولوجي الذي تحول إلى محرك الثورة الصناعية الرابعة بقيمة سوقية هائلة تقارب 5 تريليون دولار.

أثار بيري الجدل مجدداً عندما أعلن عن مراهنة كبيرة بقيمة تتجاوز مليار دولار ضد أسهم إنفيديا وبالانتير عبر البيع على المكشوف أسهما في هذه الشركات ، مدعياً أن سوق الذكاء الاصطناعي تشهد فقاعة مشابهة لفقاعة ال”دوت كوم” . ورداً على ذلك ، قامت إنفيديا ، في خطوة استثنائية ، بتعميم مذكرة رسمية على محللي “وول ستريت” ترد فيها مباشرة على حجج بيري وتذكر اسمه صراحة، ما حوّل الخلاف من مجرد رأي استثماري إلى مواجهة علنية حول مستقبل التكنولوجيا بأكملها.
يكمن جوهر حجة بيري في تشبيه تاريخي مثير للقلق. فهو يرى أن إنفيديا اليوم هي “سيسكو” العصر الحديث. ففي أواخر التسعينيات ، كانت “سيسكو” هي المزود الأساسي للمعدات الأساسية للإنترنت مثل الموجهات والمحولات ، تماماً كما تقوم إنفيديا اليوم بتزويد العالم بوحدات معالجة الرسومات GPUs) ) التي تُعد الوقود الأساسي لنماذج الذكاء الاصطناعي . بين عامي 1995 و 2000 ، ارتفع سهم سيسكو بنسبة مذهلة بلغت 3,800% ، ليصبح الأكثر قيمة في العالم ، قبل أن ينهار بأكثر من 80% مع انفجار فقاعة الدوت كوم.
يرى بيري أن نفس النمط يتكرر الآن . فالشركات التكنولوجية العملاقة مثل ميتا، جوجل، مايكروسوفت، أمازون، تتعهد بإنفاق ما يقرب من 3 تريليون دولار على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي حتى عام 2028 . هذا الإنفاق الضخم ، كما يقول بيري ، يُبنى على افتراضين خاطئين مشابهين لافتراضات فقاعة الدوت كوم : الافتراض الاول الطلب اللامحدود على قوة حوسبة الذكاء الاصطناعي ، والافتراض الثاني العمر الإنتاجي الطويل للشرائح ، ما يسمح للشركات بتمديد فترة استهلاك تكلفتها إلى 4-6 سنوات وتحسين أرباحها القصيرة الأجل .
بيري من جهته يشكك في هذين الافتراضين ، محذراً من أن المعدات الإلكترونية سريعة التقادم قد تفقد قيمتها بسرعة ، وأن الإيرادات الفعلية من تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد لا تلحق أبداً بحجم الإنفاق الهائل ، ما قد يؤدي إلى خسائر ضخمة وانهيار في القيمة كما حدث مع سيسكو.

في المقابل ردت إنفيديا على هذه الانتقادات بحزم ، حيث نفت في مذكرتها العلنية وجود أي ممارسات تمويلية غير سليمة أو ما يُسمى بـ “التمويل الدائري” ، مؤكدة أن طلبها ينبع من احتياجات حقيقية ومستقلة . كما دافعت عن سياساتها المحاسبية ، مشيرة إلى أن عملاءها يستهلكون قيمة المعدات بناءً على أنماط استخدام حقيقية ، وأن وحدات المعالجة الرسومية الأقدم لا تزال تحتفظ بقيمة اقتصادية مجزية.
لكن المفارقة التاريخية تكمن في أن سيسكو نفسها ، التي يستخدمها بيري كرمز للتحذير، تشهد حالياً نهضة جديدة مرتبطة مباشرة بموجة الذكاء الاصطناعى الحالية. فالشركة ، التي تزود مراكز البيانات بمعدات الشبكات الأساسية ، تتوقع تحقيق 3 مليارات دولار من الإيرادات المباشرة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في العام المالي 2026 . وهذا يطرح سؤالاً جوهرياً وهو هل نحن أمام فقاعة ستنفجر، أم أمام ثورة حقيقية تخلق فائزين جدداً وتُعيد إحياء القدامى؟
لقراءة هذا المشهد المعقد ، يمكن النظر إلى مؤشر نازداك 100 ، الذي يعتبر المؤشر الرئيسي لصحة قطاع التكنولوجيا . يوضح الرسم البياني التالي مسار المؤشر منذ عام 2011 ، مع تسليط الضوء على المحطات الرئيسية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي :
الفترة 2011 – 2021 :عقد من النمو المتسارع شهد المؤشر ارتفاعاً مطرداً ، متجاوزاً تعافي الأزمة المالية 2008 ومدعوماً بثورة الهواتف الذكية والسحابة الإلكترونية . سنة 2022 هي سنة التصحيح الكبيرحيث انخفض المؤشر بشدة بنحو 33% بسبب المخاوف التضخمية ورفع أسعار الفائدة ، ما يذكر بأن مسارات النمو ليست خالية من المطبات .
الفترة 2023 – 2025 :مع إطلاق ChatGPT في أواخر 2022 ، دخل المؤشر في مرحلة صعود قياسية ، مضاعفاً قيمته في عامين فقط وليصل إلى مستويات قياسية جديدة فوق 23,300 نقطة في 2025 . كان لصعود أسهم مثل إنفيديا (التي قفزت 197% في 2023) الدور الأكبر في هذا الأداء.
بالنسبة للتوقعات للسنوات المقبلة ينقسم المحللون حول مستقبل المؤشر، لكن غالبية التوقعات تميل نحو النمو على المدى الطويل ، مع الاعتراف بإمكانية حدوث تقلبات قصيرة الأجل . التوقعات المتفائلة تشير إلى أن مؤشر نازداك 100 قد يشهد زيادة تتراوح بين 5% إلى 10% خلال عام 2025 ، مدعوماً بتحسن نمو أرباح الشركات واستمرار تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي .
على المدى الأبعد ، تتوقع بعض الجهات أن يتجاوز المؤشر مستوى 30,000 نقطة في السنوات الخمس المقبلة ، وربما يصل إلى منطقة 40,000 نقطة بحلول 2035. أما التوقعات المتحفظة فترى أن الزخم الحالي قد يكون مبالغاً فيه . فالتقرير الوارد يشير إلى أن 95% من مشاريع الذكاء الاصطناعي التي تمت دراستها لم تحقق أرباحاً بعد ، رغم الإنفاق الهائل . كما أن الارتباط القوي بين أداء نازداك وقرارات البنك الفيدرالي الأمريكي بشأن أسعار الفائدة يضيف عنصراً من عدم اليقين . تحذر بعض التحليلات من أن أي تباطؤ في زخم استثمارات الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى موجة بيع تدفع بالمؤشر نحو مستوى 20,000 نقطة.
في النهاية ، فإن الجدل الدائر بين بيري وإنفيديا هو في جوهره صراع بين روايتين : الرواية الحذرة المستندة إلى دورات السوق التاريخية ، و رواية التحول المستندة إلى الإمكانات التكنولوجية غير المسبوقة. بيري يشير إلى التاريخ محذراً بأن الحماقة تُدر الأموال ، لكن الفقاعات تنفجر دائماً في النهاية . بينما ترى إنفيديا ومؤيدوها أن العالم على أعتاب إعادة اختراع كاملة للحوسبة ، تستحق استثمارات تريليونية.
أما مؤشر نازداك، فيمثل ساحة المعركة حيث تُترجم هذه التوقعات إلى أرقام . فمساره الصاعد القوي في السنوات الأخيرة يبدو كتصويت بالسوق على رواية التحول . ومع ذلك ، فإن تاريخه المليء بالصعود والهبوط الحاد (كما في 2000 و2008 و2022) يذكرنا بأن المخاطرة جزء لا يتجزأ من المغامرة التكنولوجية.
السؤال الذي يطرح نفسه ليس فقط “هل إنفيديا هي سيسكو جديدة؟” ، بل أيضاً “هل يمكن هذه المرة أن تكون مختلفة حقاً؟” .
الإجابة كما هو الحال دائماً في الأسواق المالية، لن تأتي إلا مع مرور الزمن . لكن ما هو مؤكد الآن هو أن نتيجة هذا الجدل ستحدد ليس فقط ثروات المستثمرين ، بل أيضاً معالم الاقتصاد العالمي للعقود القادمة .
المستثمر الحكيم هو من يستمع إلى دروس الماضي ، دون أن يغفل عن إمكانات المستقبل ، مدركاً أن الطريق إلى آفاق جديدة محفوفة دائماً بمنعطفات وعرة.



