هل انتصرت غزة؟(محمد حمية)
كتب محمد حميّة- الحوارنيوز
بعدما دخل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بين المقاومة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية حيّز التنفيذ، هل يسمى انتصارا؟
*خمسة عشر شهراً والشعب الفلسطيني يواجه حرباً ضروس ربما هي الأشرس في التاريخ المعاصر وأقوى وأعتى جيش في الشرق الأوسط، بدعم مطلق ولامحدود من القوى الغربية العظمى وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية القوة الأعظم في العالم ومعها قوى إقليمية عدة، وفي مساحة (قطاع غزة) لا تتعدى ربع مساحة الجنوب اللبناني وربما أقل، ومحاصر منذ عقود، حيث استخدمت إسرائيل في هذه الحرب الهمجية البربرية كافة أنواع وأشكال الحرب العسكرية والأمنية والنفسية والإعلامية والتكنولوجية العالمية، وارتكبت آلاف جرائم الحرب والإبادة وأفظع انتهاكات حقوق الانسان تندى لها البشرية الى حد سقطت معها منظومة الأمم المتحدة وماتت الإنسانية..
*القضية الفلسطينية هي أعدل قضية في التاريخ.. شعب كامل اقتلع من وطنه وسُرِقت أرضه ودمرت منازله وأرزاقه وهُجِر الى أربع أصقاع الأرض وانتهكت مقدساته منذ خمسة وسبعين عاماً، وجاء شعب آخر واحتل أرضه وسكن منازله وأقام دولته المزعومة على أنقاض مجازره التاريخية…
*على الرغم من الاختلال الكبير في موازين القوى العسكرية والتسليحية والتكنولوجية بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي المدعوم من أغلب القوى الغربية “الناتو”، إلا أن صمود المقاومة والشعب الفلسطيني وتحديداً في غزة أسقط الأهداف الإسرائيلية التالية:
-القضاء على حركة حماس وروح المقاومة الفلسطينية لم يتحقق. ووفق تقارير إسرائيلية أعادت حماس تأهيل قدراتها وقواعدها وتشكيلاتها العسكرية وتجنيد آلاف المقاتلين في الأشهر القليلة الماضية.
-تهجير أهل غزة الى صحراء النقب في مصر، أو ما أطلق عليه “ترانسفير”.. لم يتحقق وها هم الفلسطينيون يعودون الى ديارهم وحتى الى شمال غزة، مع الانسحاب من المعابر وإدخال المساعدات. فأين خطة “الجنرالات” الشهيرة لشمال غزة؟
-إطلاق سراح الأسرى بالقوة من دون تفاوض.. لم يتحقق وبنود الاتفاق تتحدث عن تبادل على مراحل، وتشمل قيادات في المقاومة الفلسطينية، وبدأت المرحلة الأولى أمس.
-إدخال قوات مسلحة من خارج غزة لإدارة القطاع مكان حماس، ما لم يتحقق.
*بعيداً عما إذا كانت عملية “طوفان الأقصى” خطأ استراتيجيا ارتكبته حماس أم ضرورة لكسر حالة الجمود في المشهد الفلسطيني ولجم مسار تصفية القضية الفلسطينية، لأن ذلك يحتاج الى شرح مطول ووقت لظهور تداعيات حرب غزة على المدى الاستراتيجي على القضية الفلسطينية والداخل الإسرائيلي والمنطقة برمتها، لكن المؤكد أن كلفة وخسائر الفلسطينيين البشرية والمادية في هذه الحرب أكبر بكثير من الخسائر في إسرائيل حتى تظهر الخسائر الاستراتيجية في الكيان الإسرائيلي على مستوى الجيش والأمن والمجتمع والاقتصاد، غير أنه لا يمكن قياس الهزيمة والانتصار في حجم الخسائر والكلفة البشرية والمادية، فكل حروب الجيوش أو حركات المقاومة والتحرر في العالم ضد الاحتلال الأجنبي انتهت بخسائر كبيرة للطرفين المقاومة والمحتل، فمن هو المنتصر إذا في هذه الحالة؟
صاحب الأرض بالتأكيد هو المنتصر وليس المعتدي، لأن صاحب الأرض يقوم بفعلٍ نضالي دفاعي مقاوم يملك قضية محقة وعادلة وروح وإرادة وحرية الدفاع عنها.
فالمنتصر هو الذي يستمر في القتال حتى الرمق الأخير ولا يرفع الراية البيضاء والذي يمنع المحتل والعدو من فرض أهدافه ويتمسك بمطالبه الشعبية الوطنية.
أن يثبت أهالي غزة وتستمر المقاومة بعدما تركها وتخلى عنها كل العالم إلا ثٌلّة قليلة، فهذا صمود تاريخي أسطوري لا مثيل له وتصبح كلمة انتصار قليلة قياساً بهذا الصمود الكبير.
للذين يتساءلون: لماذا لم يوافق الفلسطينيون على الاتفاق منذ شهور لكانوا وفروا آلاف الضحايا والخسائر المادية وعذابات أهالي القطاع، لكن مقارنة بسيطة بين بنود اتفاق وقف إطلاق اليوم، وبنود اتفاق أيار الماضي يظهر بوضوح أنها البنود نفسها مع بعض التعديلات التكتيكية التفصيلية، ورفضته إسرائيل آنذاك بعدما وافقت عليه حماس، وكلام الرئيس الأميركي بايدن يؤكد ذلك.
مقارنة بين حالة الابتهاج والفرح والاحتفال في غزة وبين حالة الإحباط في إسرائيل مؤشر واضح، حيث لم يفت عضد المقاومة وبيئتها وشعبها في غزة رغم كل الويلات والكوارث، مقابل تحميل المستوطنين الحكومة مسؤولية مماطلة ومقتل الكثير من الأسرى كان يمكن إنقاذهم لو وافقت الحكومة على الاتفاق منذ أشهر، ما وافقت عليه اليوم، فيما بدأت نار التداعيات تلفح الحكومة والتشقق بين أركانها، مع إعلان وزير الأمن القومي بن غفير استقالته رفضاً للاتفاق وغيره من الوزراء سيحذون حذوه ربما تسقط الحكومة قريباً بضربة قاصمة من وزير المال سموتريش، فيما يتوقع كبار المحللين في إسرائيل تداعيات كبرى على الكيان الإسرائيلي ستبدأ بالظهور تدريجياً وقريباً.
إعادة الأسرى بالقوة العسكرية هو الهدف المركزي للحرب وفق حكومة نتانياهو، فإذا كانت الحكومة ستلجأ الى التفاوض مع حماس لاستعادتهم فلماذا شنت هذه الحرب وعادت للتفاوض بعدها؟
يضحك وزير الحرب الإسرائيلي على شعب إسرائيل، بالقول: “لن نوقف الحرب قبل إعادة الأسرى”! عنوان جديد لتخفيف وطأة الفشل الإسرائيلي في الحرب.. كان يمكن إعادة الأسرى أحياء بلا حرب من خلال تفاوض في الأيام الأولى لطوفان الأقصى، وها هو اليوم يعيد معظمهم في التوابيت وعبر التفاوض مع حماس!
ليس ترامب من أوقف الحرب، بل اليأس الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي بتغيير المعادلة العسكرية الأمنية السياسية الشعبية في غزة بعد عام وثلاثة أشهر، بعدما نجح الفلسطينيون بتحويل الحرب الى حالة استنزاف للجيش والمجتمع الإسرائيلي قد تطول لسنوات لا تستطع إسرائيل تحملها ولا أميركا تغطيتها.
عندما يفقد الإسرائيلي الأمل بتحقيق انتصار وفرض شروط الهزيمة، ينتقل الى استراتيجية جديدة، هي تقليل الخسائر قدر الإمكان، ورفع الخسائر لدى الطرف الآخر، لكي يرفع كلفة الحرب ويجوّف الصمود ويغطي هزيمته ويشوش ويشوه إنجازات المقاومين، وهذا ما حصل في غزة، الإسرائيلي كان يعلم منذ أيار الماضي بأن تحقيق الانتصار المطلق شبه مستحيل، فأكمل الحرب لرفع كلفتها على الفلسطيني.
يبقى أن يسجل التاريخ إنجازين أساسيين ربما من صنع الله:
الأولى يعود سكان غزة اليوم وخاصة سكان الشمال الى مناطقهم فيما لم وربما لن يعود مستوطنو غلاف غزة
الثاني: لم تتمكن حكومة إسرائيل من إعادة مستوطني شمال فلسطين المحتلة قبل توقف الحرب على غزة، وهذا ما يتحقق اليوم…