رأيصحف

هل استهداف «القوات» لرئاسة المجلس يرمي لضرب آخر ما تبقّى من توازن مؤسساتي؟ (حسين زلغوط)

 

الحوارنيوز – صحافة

تحت هذا العنوان كتب حسين زلغوط في صحيفة اللواء يقول:

 

تتصاعد في الآونة الأخيرة لهجة «القوات اللبنانية» حيال رئيس مجلس النواب نبيه بري، تحت عنوان تعديل قانون الانتخاب في ما خص إقراع المغتربين، في ما يبدو أنه فصل جديد من الاشتباك السياسي الدائم في لبنان، حيث تُستحضر النصوص القانونية والدستورية لتغليف معارك النفوذ والموقع والتموضع. لكنّ اللافت في هذا المشهد أنّ الطرف المستهدف هو أحد أكثر الرموز السياسية ارتباطاً بفكرة الدولة الدستورية، ورجل يُجمع خصومه قبل مؤيديه على تمتعه بقدرة نادرة على ضبط إيقاع النظام اللبناني عند حافة الانهيار.

فمنذ عام 1992، شكّل نبيه بري حالة سياسية خاصة في الحياة اللبنانية، فهو ليس مجرد رئيس مجلسٍ نيابيٍّ متعاقب في دوراتٍ متتالية، بل بات أحد أعمدة النظام البرلماني في البلاد. كرّس موقعه كضامن لاستمرار عمل المؤسسات، خصوصاً في لحظات الفراغ والاحتقان، حين تهاوت السلطة التنفيذية أو تعطّلت رئاسة الجمهورية. وفي كل محطة من محطات الأزمات الكبرى، كان الرجل يستحضر النصوص الدستورية لا كزينة بل كأداةٍ عملٍ، متمسّكاً بما يعتبره جوهر التوازن الوطني الذي أرسته وثيقة الطائف. لذلك، فإن أي محاولة لتظهيره بموقع المعرقل أو المناور في ملف قانون الانتخاب تلامس حدود المغالاة، وربما سوء القراءة المتعمّد للمشهد.

ولذلك ان الحملة التي تشنّها «القوات اللبنانية» ضد الرئيس بري لا يمكن فهمها في سياقٍ تقني بحت، فالنقاش حول قانون الانتخاب في لبنان يتجاوز بطبيعته المسائل الإجرائية إلى عمق التوازنات السياسية والطائفية، وما يُطرح اليوم تحت عنوان «تصحيح التمثيل» يخفي في خلفيته سباقاً على ما يراه البعض ومنهم «القوات» تثبيت موقعٍ متقدمٍ في الخريطة المقبلة.

فالقوات تقرأ اللحظة السياسية الحالية باعتبارها فرصة لتوسيع حضورها السياسي والشعبي في ظل ما تعتبره انكفاء لبعض القوى على الساحة المسيحية. ولذلك، فإنّ فتح ملف قانون الانتخاب يمنحها منصةً سياسية لتظهير خطابها الإصلاحي وإعادة التموضع كقوةٍ صدامية مع المنظومة القديمة. إلّا أنّ اختيار نبيه بري كهدفٍ مباشر لهذا التصعيد يبدو خياراً محفوفاً بالمخاطر، لأن الرجل لا يُمثّل خصماً سياسياً عادياً، بل مرجعية مؤسساتية يصعب تجاوزها أو النيل من صدقيتها الدستورية.

في المقابل، لا يتعامل الرئيس بري مع الملف بمنطق ردّ الفعل. الرجل الذي يصف نفسه دوماً بأنه «ابن الطائف» ينظر إلى أي تعديل انتخابي من زاوية وحدة المعايير الوطنية. بالنسبة إليه، لا يمكن أن يُبنى نظام اقتراع جديد على مقاييس لحظة سياسية أو مصلحة فريق، لأن القانون الانتخابي في لبنان هو ترجمة فعلية لصيغة العيش المشترك، لا مجرد أداة تقنية لتنظيم الاقتراع. ولهذا يتمسّك بمبدأ أن أي إصلاحا انتخابيا يجب أن يكون ثمرة توافق وطني واسع، لا نتاج مواجهة أو استقواء ظرفي.

وما يغيب عن معظم النقاش الدائر هو أن رئيس المجلس، بخلاف الصورة التي يرسمها خصومه، كان تاريخياً من أبرز الداعين إلى تحديث القوانين الانتخابية وإدخال النسبية، بل هو الذي رعى في مراحل سابقة حوارات وطنية أفضت إلى صيغ أكثر تمثيلاً وعدلاً، غير أنه في الوقت نفسه يدرك أنّ تحويل هذا الملف إلى ساحة صراع سياسي سيسقط في أول اختبار سياسي أو طائفي.

ويُجمع المقرّبون منه على أنّ مقاربته للملف تستند إلى مبدأ ثابت: لا إصلاح خارج الدستور، ولا تجديد للحياة السياسية من دون استقرار مؤسساتي. فهو يرى أنّ العبث بقوانين اللعبة من دون اتفاق شامل سيعمّق الشرخ الوطني، وأنّ الحلول المستدامة لا تُفرض من فوق المنابر، بل تُصاغ في حوارٍ هادئٍ داخل المؤسسات. ولعلّ هذا الحرص على إبقاء باب الحوار مفتوحاً هو ما يميّز نهج الرئيس بري في كل الملفات، إذ يدرك أنّ النظام اللبناني لا يُدار بالغلبة بل بالتفاهم.

في المقلب الآخر، تعكس الحملة ضد بري جانباً من التحوّل في خطاب «القوات اللبنانية»، التي باتت تميل أكثر إلى المواجهة المباشرة، لكنها في سعيها لإعادة رسم موقعها السياسي، تصطدم بواقع أن المجلس النيابي، وأن استهداف رئاسته أو التشكيك في شرعيتها الدستورية يعني عملياً ضرب آخر ما تبقّى من توازن مؤسساتي. من هنا، فإنّ التصعيد ضد بري يثير تساؤلات حول الغاية الفعلية من المعركة: هل هي محاولة لتحصيل حقوق المنتشرين في الندوة البرلمانية، أم اختبار حدود النفوذ السياسي في هذه المرحلة وفي ظل المتغيّرات التي تعصف بالمنطقة؟

لا شك انه في كل مرة تجنح فيه القوى إلى المغامرة أو التصعيد، كان الرئيس بري يستعيد الدور ذاته، وهو دور الممسك بخيوط اللعبة، الضابط لإيقاع النقاش، والعارف بحدود الممكن والمستحيل في نظامٍ هشٍّ كالنظام اللبناني. لذلك، فإنّ الحملة عليه تبدو في جوهرها محاولة لتحدّي هذا الدور التوازني الذي يزعج كثيرين، لا لأنه «يعطّل التغيير»، بل لأنه يضع له ضوابط دستورية.

وهنا يمكن القول إنّ المعركة الحالية حول تعديل قانون الانتخاب ليست سوى انعكاسٍ لأزمةٍ أعمق يعيشها لبنان، أزمة تآكل الثقة بين المكوّنات وغياب الحد الأدنى من التفاهم. وسط هذا المشهد، يبرز نبيه بري كآخر من يتمسّك بخيوط اللعبة الدستورية، مدركاً أن سقوط هذه الخيوط يعني السقوط الكامل اللهيكل. لذلك، فإنّ هجوم «القوات» عليه، مهما بلغ من حدة، لن يغيّر في المعادلة السياسية الموجودة قيد أنملة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى