د. عماد عكوش – الحوار نيوز
منذ أكثر من سنتين ، والإدارات العامة في لبنان تعاني من نقص كبير في التجهيزات والمستلزمات ، وذلك وسط استمرار الأزمة المالية والاقتصادية التي تضرب البلاد منذ حوالي ثلاث سنوات ، وحين بدأت احتجاجات 17 أكتوبر 2019 ، لم يكن من الواضح لدى كثيرين حجم الاهتراء في مؤسسات الدولة ، إلا أن الأمور تكشفت بسرعة ، وما كان قبل الاحتجاجات أمرا ليس في الحسبان ، صار واقعا لا يُمكن إلا الوقوف عنده.
معظم الادارات العامة اليوم تأثرت بما حصل منذ بداية الازمة وهو ما أثر أيضاً على موظفي القطاع العام بشكل مباشر الذين بدأوا البحث عن وسيلة للخروج، وهذا حال الكثير منهم ، إمّا يحاولون الصمود بالحد الأدنى المتوفر لديهم ، بساعات عمل أقل ، وأداء وظيفي يكاد يكون معدوما في بعض الدوائر ، أو تقديم استقالاتهم . ويتعذر على مؤسسات الدولة تأمين العديد من المستلزمات لعمل الدوائر التابعة لها ،لا سيما من ناحية القرطاسية والأوراق ، فضلا عن استحالة تأمين الصيانة للمكاتب والمولدات وللسيارات التي تُستعمل في الوزارات، وذلك بسبب امتناع المتعهدين عن التعامل مع أي شيء له علاقة بالدولة كونها لا تدفع إلا بالليرة اللبنانية.
كل ما يجري اليوم في الادارات العامة هو بحجة الدولار ، ولكن فعلياً دوائر الدولة ليس فيها أوراق . على سبيل المثال ، من يريد أن يستحصل على إخراج قيد جديد ، يتوجه إلى دائرة النفوس ليتبين في غالبيتها أنه لا توجد أوراق ولا حبر لإنجاز المعاملة ، لذلك اتُخذ القرار بختم “إخراجات القيد” القديمة . ما هو حاصل في بيانات القيد ، ينطبق على كل المعاملات الإدارية في كل الدوائر.
يدخل إضراب موظفي الإدارة العامة المفتوح أسبوعه الرابع ، مع تأكيد الهيئة الإدارية لرابطة الموظفين على الاستمرار فيه . الإضراب الذي شلّ معظم إدارات الدولة يهدّد بحجب الرواتب عن كامل موظفي القطاع العام . كلمتان تصفان حال موظفي القطاع العام هما الغضب واليأس ، الدولة اليوم تطلب التضحيات من الجميع من دون اعتراف بأصل الأزمة وموظفو القطاع العام يعتبرون أنفسهم خارج كلّ تهديد ، فمن لا يملك شيئاً بماذا تهدّده؟
مع ارتفاع سعر صرف الدولار وانخفاض قيمة العملة الوطنية تآكلت أجور موظفي الإدارة العامة حتى خسرت 95 في المئة من قيمتها، كونها لا تزال على سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة، في حين أن سعر صرف الدولار في السوق السوداء يتخطى عتبة الـ29 ألف ليرة.
الدولة تتعامل مع التحرّك حتى الآن بنكد وقلة حيلة ، ومحاولات لتشتيت الموظفين وإيقاف الاضراب ، إن عبر الترغيب والقول إنّ الأمور تسير نحو الحلحلة، وبالتالي لا داعيَ للاستمرار في التعطيل ، أو عبر الترهيب وتحميل المسؤوليات ولصق كلّ المشكلات وتراكم الملفات ، الحسّاسة والعادية ، بالموظف المتوقف عن العمل.
الإضراب يتوسّع، فهذه هي المرّة الأولى التي تُقفل فيها دوائر بكاملها في معظم الوزارت . الإضراب عطّل دوائر النفوس ، الدوائر العقارية ، الدوائر المالية ، السجل التجاري ، وحتى عرقل هذا الاضراب عمليات التصدير والاستيراد في المرافق العامة ، ولا يزال الاستيراد في لبنان معرقلا نتيجة إضراب موظفي القطاع العام ، مهدداً بذلك الأمن الغذائي رغم الاستثناءات لتخليص البضائع والسلع الغذائية العالقة في المرفأ . فكلّ شحنة تدخل البلاد تخضع إلى تحاليل يقوم بها موظفو وزارات الصحة أو الزراعة أو الاقتصاد قبل تسليمها للأسواق ، ومع بدء إضراب الموظفين بدأت البضائع تتكدّس في المرفأ . وبعض الموظفين يحضرون إلى عملهم مرة أسبوعياً أو مرتين شهرياً ، ما يؤخّر وتيرة العمل والإنتاجية ، فانعكس هذا الواقع تكدّساً في المواد والسلع في حاويات المرفأ والتي يبلغ عددها حوالي 800 في انتظار الانتهاء من معاملاتها وتحاليلها .
وفي ظلّ هذا الواقع يسجّل إيجار أرضية كل حاوية يومياً معدلاً يتراوح ما بين 75 و100 دولار ، ما يعني أن أي تأخير في إنجاز معاملات الحاويات هو خسارة حوالي 80000 دولار يومياً هذا من دون احتساب حاجة بعض الحاويات إلى التبريد ، من هنا تشير التوقعات إلى إمكان أن تنعكس هذه الخسائر على جيب المواطن فتصل الزيادة على اسعار السلع الغذائية إلى حوالي 30% ، كلّ الاحتمالات واردة لأن من غير المعروف متى يمكن أن يفك الإضراب ، فالعديد من التجار باشروا بإيقاف العديد من الشحنات من الخارج في ظل عدم معرفة متى يمكن تخليصها لإخراجها من المرفأ ، وهذا الواقع سيؤدي حتماً إلى انقطاع في المواد الغذائية بعد فترة .
هذا الالتزام بالاضراب المفتوح يهدّد رواتب الموظفين ، في سابقة لم تحصل حتى خلال الحرب الأهلية . كان معتمد القبض يعبر السواتر وخطوط التماس ويوصل الحقوق إلى أصحابها . أما اليوم وبحسب سير الأمور فلا يمكن الركون إلى بيانات التهدئة والتطمين ، ذلك أن رحلة رواتب موظفي القطاع العام من مدنيين وعسكريين تمرّ بعدة مراحل ، من الإدارة التي يتبع لها الموظف وصولاً إلى دوائر وزارة المالية . هناك تصل أولاً إلى مديرية الصرفيات ومن ثمّ إلى الخزينة . ويستغرق إنجازها في المديرية الأولى الوقت الأطول ، من 13 إلى 15 يوماً . وبسبب التزام موظفي وزارة المالية بشكل عام ومديرية الصرفيات بشكل خاص بالإضراب الشامل لا يتم العمل على إنجاز الرواتب.
مديرية الصرفيات ملتزمة بصرف رواتب الموظفين في حال الاستجابة للمطالب: ومع تردّد معلومات عن توفّر الأموال المرصودة للموظفين ، لكن في غياب آلية الدفع ، بدأت المبادرات تنطلق من المناطق لتأمين وصولها إلى مستحقّيها . وفي هذا الإطار ، برزت مبادرات خاصة من بعض المسؤولين لتسهيل الامور على الموظفين للحصول في النهاية على رواتبهم ، لكن تبقى هذه المبادرات محصورة في عملية وصول الراتب للموظف ولا تشمل خدمة المواطنين .
المخاطر الاساسية :
ان الاضراب المفتوح الذي يقوم به موظفو القطاع العام سينعكس بطبيعة الحال على الواقع الاقتصادي ويزيد من الازمة ، وبالتأكيد سيؤدي الى تراجع في المؤشرات المالية ولا سيما منها الناتج القومي ، الميزان التجاري ، ميزان المدفوعات ، ودوائر الخدمات التي لها علاقة بالمواطنين وخاصة المرتبطة بدوائر النفوس والسجلات العقارية والتجارية ، مما يجمد حركة الاستثمار ويضاعف من التكاليف التي يتكبدها المواطنون .
في الاعلام يرفض عمال القطاع العام وضعهم في مواجهة مع المواطنين ، ويعتبرون أنفسهم ضحية السياسات التي أوصلت البلد إلى الإفلاس والانهيار . وأوضح أحد أعضاء “رابطة الموظفين” أسباب الخلاف مع وزير العمل ، وقال منذ بداية التفاوض اتفقنا مع الوزير (مصطفى بيرم) على أن يقنع رئيس الحكومة ووزير المال بتحويل الراتب الحالي للموظف من الليرة إلى الدولار على سعر صرف 1500 ليرة للدولار الواحد ، ثم يضرب على سعر 8000 ليرة للدولار . وأشار عضو “الرابطة ، الذي رفض ذكر اسمه ، إلى أن “الراتب الذي لا يتعدى مليوناً و500 ألف ليرة، إذا قسم على 1500 ليرة تكون قيمته 1000 دولار، ويجري احتساب الدولار على سعر 8000 ليرة للدولار، فيصبح الراتب 8 ملايين ليرة .
وكانت الحكومة اللبنانية قد قررت سابقا” ونتيجة للظروف التي مر بها العالم بسبب جائحة كورونا أن تعتمد نظام المداورة للتخفيف من الاختلاط في الوزارات والمؤسسات العامة تطبيقاً للتباعد الاجتماعي وفي محاولة للتخفيف من انتقال العدوى ، إلا أن هذا النظام لا يزال يُطبق اليوم ،ولكن لم تعد كورونا هي السبب المباشر بل الأزمة الاقتصادية.
وكان صدر قرار عن الدولة اللبنانية وضمنته في موازنة عام 2019 يمنع موظفي الدولة من الاستقالة ، وإن فعلوا فإن ذلك يعني تخليهم عن تعويضهم والراتب التقاعدي الذي يتحصلون عليه ، ويبقى هذا القرار ساري المفعول حتى عام 2022 ، بمعنى أوضح تم تجميد طلبات نهاية الخدمة بشكل كامل.
المناقصات متوقفة ولا أحد في وارد التعامل مع مؤسسات الدولة . ولا اعتمادات تُفتح ، فيما كُل شيء بحاجة لصيانة وفي الوقت نفسه ليس هناك من صيانة . هذا هو الحال اليوم في مؤسسات الدولة التي تعاني كثيراً نتيجة الظروف الاقتصادية التي يمر بها لبنان .
اليوم كُثر من موظفي القطاع العام يبحثون عن عمل . هناك من قدم إجازات خاصة وإجازات من دون راتب ، فضلاً عن طلبات الاستيداع الكثيرة والتي ارتفعت مؤخراً ،إذ غالبية الموظفين يسافرون عند أقاربهم لفترة تصل لعدة أشهر في محاولة للعثور على عمل ، وبعضهم سبق ووجدوا فعلياً فرصة عمل فرحلوا ، هذا النزوح سيسبب نقصا كبيرا في الإدارات العامة .
وتتكتم المؤسسات الرسمية حول الرقم الفعلي لمن غادر القطاع العام ، مع تسجيل حالات انقطاع عن العمل من دون أي إجراء مسلكي يُتخذ بحق المخالفين. يروي إيهاب وهو عنصر في قوى الأمن إنه “منذ بدء الأزمة صار الالتزام قليل ،وهنا لابد من تسجيل تفهم واضح لدى المسؤولين لهذا الأمر .
إصرار على الاستمرار :
في شهر أيار 2021 بدأت رابطة الموظفين الإضراب ليوم واحد أسبوعياً ثم يومين في الأسبوع ، إلى أن أعلنت الإضراب العام في الأول من تشرين الأول الماضي ، قبل أن تتراجع عنه ، لتعود وتعلن من جديد اضراباً مفتوحاً في شهر حزيران الماضي ، وذلك إلى حين تحقيق مطالبهم وعلى رأسها تصحيح أجورهم وبدلات النقل والتقديمات الصحية والتعليمية .
أن تلبية مطالب رابطة الموظفين اليوم وفقا لما هو مطروح ،أي بتحويل رواتبهم الى دولار على السعر الرسمي ومن ثم قبضها على سعر 8000 ليرة لبنانية سيؤدي وفي ظل عدم أقرار الموازنة وعدم تعديل سعر صرف الدولار الرسمي الى مضاعفة خسائر مصرف لبنان ،على اعتبار ان مصرف لبنان اليوم هو من يتحمل هذا النوع من النفقات ، وهو إضافة الى عدم قانونيته ودستوريته لعدم صدور قانون عن مجلس النواب بهذه الزيادة على الرواتب ، ولكونها من خارج الموازنة وهذا يتناقض مع الدستور اللبناني- المادة 88 -الذي يمنع الصرف ألا بقانون .
أعباء القطاع العام اليوم حوالي 11 الف مليار ليرة
ايرادات الموازنة على سعر 1500 ليرة حوالي 13 الف مليار ليرة
بعد تعديل سعر الدولار سواء الجمركي او سعر الصرف الرسمي الى 8000 ليرة يمكن ان تكون الارقام على الشكل التالي :
ايرادات الضرائب والرسوم : 52 الف مليار ليرة
رسوم مدولرة منها رسم المسافرين ، رسم الطائرات ، رسم المنطقة الحرة ، رسوم التفريغ والتحميل في المعابر الحدودية ، رسوم الترانزيت ، رسوم رسو السفن واليخوت ، رسم قاعات الشرف ، ورسوم أخرى يمكن ان تصل هذه الرسوم وحدها الى حوالي مليار دولار أميريكي ، أي ما يعادل اليوم على سعر السوق حوالي 29 الف مليار ليرة لبنانية ، وهذا يعني ان مجموع الواردات ستصل الى حدود 81 الف مليار ليرة لبنانية على سعر دولار جمركي 8000 ليرة لبنانية .
ماذا يعني هذا الرقم ؟
هذا يعني ان الحكومة قادرة على زيادة الرواتب كمرحلة أولى بحده الادنى أربعة أضعاف ما هو حاليا وبسهولة ، مع الاحتفاظ بفائض مقبول لتغطية المصاريف التشغيلية للوزارات والادارات .
بينما تبني الحكومة اللبنانية لتدبير زيادة النفقات وتحمل هذه الاعباء دون تأمين الواردات لتغطية هذه النفقات ،سيؤدي الى تعاظم العجز في الموازنة وبالتالي سيؤدي الى مزيد من طباعة الليرة اللبنانية ،وبالتالي سيؤدي الى مزيد من الانخفاض في سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار الاميريكي والوقوع مجددا في دوامة التضخم المفرط الذي حذرنا منه دائما ، لذلك لا بد من أعتماد استراتيجية شاملة وخطة كاملة في هذا الموضوع يبدأ بتعديل سعر صرف الدولار الجمركي ضمن الموازنة ، أو رفع سعر الصرف الرسمي للدولار بشكل تدريجي لكي يتم تأمين الموارد ، وعندها ستملك الحكومة القدرة على زيادة رواتب القطاع العام وبشكل مدروس، دون أن تكون هناك مخاطر الوقوع في التضخم المفرط من جديد .