هجرة مسيحيي الشرق:رحلة حميد بقطار من العراق الى فرنسا(محمد عساف)

محمد عساف – الحوارنيوز – فرنسا
تأسست المسيحية في قلب المشرق وامتدت جذورها على مدار أكثر من ألفي عام، حيث حمل أتباعها رسالة المحبة والسلام إلى مختلف أنحاء العالم. انطلقت هذه الرسالة من القدس، بلاد الرافدين وامتدت حتى وادي النيل، ليصبح مسيحيو الشرق جزءًا أساسيًا من النسيج الاجتماعي والثقافي في المنطقة. لقد ساهموا بشكل كبير في مجالات العلوم والفلسفة والترجمة، وأسهموا في بناء الحضارة العربية من خلال مدارسهم وأديرتهم التي كانت بمثابة مراكز للعلم والمعرفة.
على مر العصور، حافظت فرنسا على علاقة قوية مع مسيحيي الشرق، سواء من خلال البعثات التبشيرية أو من خلال دورها الدبلوماسي الذي بدأ في القرن التاسع عشر. وبعد انهيار الدولة العثمانية، استمرت فرنسا في اهتمامها بالدفاع عن الأقليات المسيحية في منطقة الشرق الأوسط، معتبرة ذلك جزءًا من رسالتها الإنسانية. كما أكد الرئيس ماكرون أن دعم مسيحيي الشرق هو “التزام علماني لفرنسا ومهمة تاريخية”. وكانت فرنسا من الدول الأولى التي تحركت ضد اضطهاد الأفراد بناءً على خلفياتهم العرقية والدينية في المنطقة، وذلك تماشيًا مع نتائج مؤتمر باريس بشأن ضحايا العنف المستند إلى العرق والدين في الشرق الأوسط الذي عقد في 8 سبتمبر 2015. كما عملت فرنسا على حماية التراث الثقافي في الشرق الأوسط، وكانت من أوائل الدول المشاركة في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش منذ عام 2014.
العراق نموذجًا
يعود وجود المسيحيين في العراق إلى القرن الأول الميلادي. حافظ هؤلاء على لغتهم السريانية وعاداتهم رغم التغيرات والتحولات التي شهدتها المنطقة. ومع ذلك، فقد تصاعدت وتيرة العنف ضدهم بشكل كبير، وبلغت ذروتها مع اجتياح تنظيم داعش للعراق في عام 2014. في تلك الفترة، دُمرت الكنائس، أُحرقت المنازل المسيحية، وكان المسيحيون يُجبرون على اعتناق الإسلام أو الموت. نزحت العديد من العائلات إلى كردستان العراق، بينما هاجر البعض الآخر إلى دول أخرى.
إحدى القصص البارزة في عالم الهجرة هي قصة حميد بقطار. حميد، صاحب ثلاثة مطاعم في العراق، كان شاهدًا على تلك الأحداث المأساوية. يروي كيف اجتاح عناصر تنظيم داعش المدينة، ناشرين الرعب بين السكان، وبدأوا بقتل المسيحيين أو إجبارهم على دفع الجزية. يقول حميد: “كان الموظفون في منطقتي الحمدانية يذهبون إلى الموصل للعمل، لكن داعش كان يترصّد المسيحيين، مطالبين بفدية ضخمة، وإذا لم تُدفع، يُقتل الشخص.”
ويضيف حميد أن التنظيم فرض قيودًا صارمة على المظهر الشخصي، حيث كان ممنوعًا أن يكون للشخص قصة شعر حديثة أو “سكسوكة” مثلا، لأن ذلك قد يعني الموت. لهذا كان يضطر إلى إخفاء مظهره و أي علامات قد تثير الشك أثناء ذهابه وعودته من العمل.
كان حميد يعمل في أحد المطاعم، وكان ينام فيه ليلًا ليتمكن من فتح الباب للطباخ صباحًا، وليتولى الحراسة أيضًا. وفي أحد الأيام، عند الساعة الواحدة، ترك عناصر داعش رسالة تهديد: “إن لم يُغلق المكان في رمضان، سنُفجره ونُحرقه بالكامل.”
عندها، أدرك حميد أن الخطر يهدد حياته وحياة أسرته، فقرر مغادرة البلاد مع زوجته وأطفاله، تاركًا وراءه كل شيء أملاً في العثور على الأمان. وبحثًا عن مستقبل أكثر استقرارًا، تقدم بطلب لجوء إلى السفارة الفرنسية.
كانت رحلة الهروب شاقة وصعبة. اضطروا للنوم على الأرصفة والتنقل في ظروف قاسية، حتى تمكن بعض المتطوعين الفرنسيين من مساعدتهم في الوصول إلى فرنسا. هناك، بدأ حميد من جديد، حيث عمل في وظائف بسيطة، لكنه لم يتخل عن حلمه. وبعد سنوات من العمل المتواصل، استطاع افتتاح مطعم جديد حصل على المرتبة الأولى في شمال فرنسا، واحتل المرتبة 57 في قائمة أفضل المطاعم في فرنسا.
تبرز هذه القصص كيف يمكن للدول مثل فرنسا حاضنة للمسيحيين أن تمنح الأمل للذين عانوا من ويلات الحروب. ورغم أن مشكلات الشرق الأوسط لم تُحل بعد، فإن التضامن الإنساني يبقى أملًا في الشفاء والنهوض من جديد. والسؤال الذي يظل مطروحًا هو: هل سيلقى مسيحيو سوريا اليوم المصير نفسه؟…