كتب جوزف القصيفي
كان لي شرف اللقاء مع نوال السعداوي ذات يوم في احد فنادق القاهرة في مطالع الثمانينيات، وكنت مع حلقة من الاصدقاء الصحافيين. كان وجودها لافتا وصاخبا. لم يبق احد في بهو الفندق الا وتقدم منها مصافحا ، ومحييا، ومعرفا بنفسه. النادلات والندل تحلقوا من حولها:” نورتنا يا استاذة نوال بوجودك”.
وكانت ترد على الجميع بلطف وفرح، وتمازحهم. كانت عيناها تشعان ذكاء.
جذابة ببشرتها السمراء وشعرها المنفوش، وضحكتها العريضة. مواقفها حاسمة في الدفاع عن حقوق الانسان، وتحرر المرأة وضرورة ان تأخذ دورها الطليعي في المجتمع، بل ان تنتزع هذا الدور.
لم التقها من قبل، ولو ان صفحات مجلة ” التضامن” التي اصدرها الصحافي اللبناني الكبير فؤاد مطر في لندن في اوائل ثمانينيات القرن المنصرم ، جمعتنا افتراضيا، اذ كانت تكتب فيها مقالا اسبوعيا مدويّا، فيما كنت انا مراسل المجلة في بيروت، الى جانب مدير مكتبها الموقت الصحافي المرحوم ابراهيم برجاوي قبل مغادرته العاصمة اللبنانية ليصبح مدير مكتب بغداد. وكانت المجلة رائدة ، وشكلت اضافة في الصحافة العربية ، وحشدت مجموعة من الكتاب العرب البارزين، وفيها برزت احلام مستغانمي بصفحة تفرغ فيها ابداعها الادبي، والناقد المصري الفرد فرج وسواهما.وقد حجزت المجلة لنفسها مكانا ومكانة في بلاط صاحبة الجلالة. وكانت موضوعاتها اقرب الى الملفات منها الى التحقيقات السريعة التي غالبا ما تفتقر الى الدقة والموضوعية.
توقفت مجلة ” التضامن” قبيل الغزو الاميركي للعراق على اثر توقف دعم بغداد لها. آثر الصحافي مطر الاحتجاب على الانقلاب. لم ينقل ” البارودة” من كتف الى اخرى كما فعل غيره.
وفي عود الى نوال السعداوي، فقد عرّفتها بنفسي واعربت عن سروري بلقائها، ولكن لم التقط صورة معها، وقد تعذر علي ذلك ،للاسف، لاني كنت في فندق آخر غير الذي اقيم فيه حيث تعقد احدى دورات الاتحاد العام للصحفيين العرب، والذي لم يكن يخلو من وجود مصورين.
كانت لطيفة وودودة للغاية ، واعربت عن حبها الكبير للبنان ودوره الرائد في نهضة العرب، مذكرة بكبار من ابنائه كانوا رافعة الصحافة المصرية، وتركوا فيها بصمات لا تمحى. واعلنت حبها لبيروت وما تمثله من تنوع فكري وثقافي ودينامية حضور، واطلالة رحبة، وتعتبرها شرفة العرب ، وقلبهم النابض، وصوتهم الصادح ، وحضنهم الدافيء.
قالت لي انها حزينة لمرأى اللبنانيين يتقاتلون وينتحرون بملء ارادتهم وكامل وعيهم ، ويدمرون وطنهم بايديهم.ورأت انهم يجب ان يتسلحوا بالارادة، ارادة تجاوز الانقسامات، ويوحدوا القلب واللسان، وتغليب موجبات الانقاذ على ترف التلهي في تفحص ” جنس الملائكة”. وتواعدنا على اللقاء اذا زرت ” المحروسة ثانية”. وقد زرتها عشرات المرات بعد هذا اللقاء، ولم يتسن لي لقاؤها .
اما وقد غابت نوال السعداوي ، طاوية كتاب العمر على صفحات مضيئة مثقلة بالنضال، ومقاومة الظلم ، والانتصار للمرأة، والوقوف الى جانب المظلومين والمهمشين، فلا يبقى لنا الا تذكر هذا الوجه الاصيل في عروبته، المتجذر في انسانيته، المميز في تقدميته.
لقد كانت قبسا هاديا لاجيال من المناضلات المتمرسات، اللواتي علمن بعرقهن وتضحياتهن كيف يكون الانحياز لشرف الحياة والعمل.
جوزف القصيفي
نقيب محرري الصحاة اللبنانية
زر الذهاب إلى الأعلى