الحوار نيوز – الأخبار
تحت هذا العنوان كتب سعيد محمد في صحيفة الأخبار :
سيتنحّى بوريس جونسون عن منصبه رئيساً لوزراء بريطانيا، بعد تمرّد قادته شخصيات بارزة داخل «حزب المحافظين» الحاكم. الرئيس الذي قاد حملة خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وأخذ حزبه إلى فوز حاسم في الانتخابات العامّة في كانون الأول 2019، تقدَّم صباح أمس باستقالته من رئاسة حزبه، فيما من المفترض أن يتقدّم في أيّ وقت باستقالته من المنصب التنفيذي الأهمّ إلى الملكة إليزابيث الثانية وفق التقاليد الدستورية.
وفي الانتظار، سارع جونسون، الذي يأمل في الاستمرار في تصريف الأعمال حتى الخريف المقبل، إلى إعادة تشكيل حكومته بعد موجة استقالات واسعة أطلقها وزيران بارزان، هما ساجد جاويد وريشي سوناك، قبل أن يَلحق بهما آخرون من الوزراء وكبار موظّفي الحكومة
مساء الـ29 من حزيران الماضي، كان كريس بينشر، نائب رئيس «حزب المحافظين» في بريطانيا، يقضي السهرة في نادٍ خاص في لندن، حيث شرب على ما يبدو أكثر من اللازم، وتورَّط في التحرّش بشابَّين كانا في المكان عينه. تسبّبت هذه الحادثة المشينة بسلسلة تطوّرات انتهت إلى إجبار رئيس الوزراء، بوريس جونسون، على ترك منصبه، بعدما ادّعى الأخير أنه لم يكن على علم بسُمعة الرجل عندما قرّر تعيينه، وهو ما تبيّن لاحقاً أنه غير دقيق، ما اضطرّ الرئيس إلى الاعتذار علناً. لكن تلك الهفوة كانت كافية لعدد من «المتآمرين» من كبار قادة الحزب الحاكم، لإطلاق تمرّد صاخب ضدّ جونسون، عبر تقدُّم عدد من الوزراء والمساعدين وكبار الموظفين باستقالاتهم تباعاً، احتجاجاً على «فقدان الرئيس النزاهة» و«تضرُّر مصداقيّته».
وعلى رغم تشبُّث جونسون بمنصبه ابتداءً، إلّا أن وفداً من كبار الوزراء، بِمَن فيهم ناظم الزهاوي الذي استدعاه الأوّل قبل يوم لتسلُّم حقيبة الخزانة من سوناك المستقيل، زاره في مكتبه في 10 دوانيينغ ستريت (مساء الأربعاء)، ليُخبره بأن اللعبة انتهت، وأن الحزب متوافق على إسقاطه. وعليه، فقد أبلغ جونسون، صباح أمس، الصحافة باعتزامه التنحّي، وتَقدَّم تالياً باستقالته من رئاسة حزبه، وألقى ببيان مقتضب إلى الأمّة على الهواء مباشرة، فيما من المفترض أن يتقدّم في أيّ وقت باستقالته من المنصب التنفيذي الأهمّ في هيكل السلطة، إلى الملكة إليزابيث الثانية وفق التقاليد الدستوريّة. وسيتعيّن، تالياً، على «حزب المحافظين» أن يُجري منافسة داخلية لاختيار بديل لجونسون من نواب الحزب، على مرحلتَين أو ثلاث تبدأ الأسبوع المقبل، ما يعني أن الرجل سيستمرّ في تصريف الأعمال ربّما حتى الخريف المقبل، وذلك على الرغم من دعوات أطلقها البعض إلى إقصاء فوريّ له. وهو، بالفعل، سارع إلى إعادة ترميم حكومته المتصدّعة، وسلّم الحقائب الوزارية إلى شخصيات جديدة، ودعا بقيّة الوزراء إلى مباشرة أعمالهم كالمعتاد.
وكانت حكومة جونسون تعيش منذ عدّة أشهر في «زمان مستعار» – وفق التعبير الإنكليزي -، ولم تأتِ فضيحة بينشر سوى كحلقة أخيرة من سلسلة فضائح ضربت مصداقيّة رئيس الوزراء وشعبيّته بشكل لا يمكن إصلاحه، قبل أن يُضعفه إلى حدّ بعيد تصويت داخلي على الثقة به الشهر الماضي، تجاوَزه الرجل بصعوبة، لا سيّما بعد الكشف عن حفلات صاخبة كان ينظّمها مكتبه في وقت كانت فيه المملكة برمّتها تخضع لحالة عزل تامّ – بسبب «كوفيد 19» – تحت طائلة المسؤولية القانونية، وتُجري الشرطة تحقيقات رسمية بشأنها. وجرت، إثر ذلك، انتخابات فرعيّة لملء مقعدَين شغرا باستقالة نائبَين من «المحافظين»، وانتهت بهزائم قاصمة للحزب اعتُبرت تصويتاً شعبياً على فقدان الثقة في الحكومة وشخص الرئيس معاً.
لكن تلك كلّها كانت قضايا شخصية وجانبية بالفعل، مقارنة بالرصيد السيّئ للحكومة اليمينية المحافظة، والتي وصلت إلى السلطة في عام 2019 بتأييد جارف لم يحصل عليه الحزب منذ عام 1987. إذ رعت اتفاق «بريكست» مع الاتحاد الأوروبي قد يُدخل البلاد في حرب تجارية مع الشريك الأكبر لها طوال عقود (أكثر من نصف تجارة المملكة)، وتسبّبت بأزمات دستورية مع الأقاليم الخاضعة للندن في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية. كما تبنّت سياسة ثبت فشلها في إدارة وباء «كورونا»، نتجت منها آلاف الوفيات التي كان يمكن تجنُّبها، ناهيك عن فساد واسع في منحْ العقود المتعلّقة بالإمدادات الطبّية للمقرّبين والمحاسيب. كذلك، لم تفعل الحكومة شيئاً لتصحيح العيوب البنيوية الموروثة في الاقتصاد والخدمات العامة والتعليم والبنية التحتية، وانخرطت سريعاً في تسعير الأزمة الروسية – الأوكرانية، متصدّرة ستَّ جولات من العقوبات ضدّ موسكو – أتت في مجملها بنتائج عكسية على معظم المواطنين الأوروبيين -، وضخّت أكثر من ثلاثة مليارات دولار من الميزانيات العامّة لدعم نظام كييف، على رغم حال التقشّف الشديد التي مسّت حتى الجيش البريطاني نفسه.
وأدّى هذا السجلّ إلى تراكم سلّة من الأزمات، التي كانت استجابة جونسون لها غالباً الهرب إلى جولات استعراضية في الخارج بلا طائل، آخرها في الماضي القريب حيث امتدّت لأسبوع كامل بين قمم «الكومونويلث» (رواندا) والدول السبع الغربية الكبرى (ألمانيا) و«حلف شمال الأطلسي» (إسبانيا)، في وقت كان فيه حاكم مصرف إنكلترا (المركزي) يحذّر من أن المملكة ستعاني من أعلى مستويات التضخّم في مجمل القارّة، ولأطول فترة مقارنةً بالاقتصاديات الكبرى، وفي ظلّ افتتاح النقابات العمّالية موسم إضرابات يُتوقَّع أن يكون الأسوأ منذ عهد مارغريت تاتشر، بداية الربع الأخير من القرن الماضي. وفي الحقيقة، فإن أداء هذه الحكومة شكّل استمراراً لمنهجية اقتصادية نيوليبرالية كانت أطلقتها تاتشر ذاتها، وتعاقبت على تنفيذها بأمانة حكومات يمينيّة، تعاقدت فيها النُخبة مع الأميركيين على إعادة تموضع بريطانيا ضمن نظام تقسيم العمل العالمي، لتكون عاصمة تبييض الأموال والخدمات في الغرب، ولكن دائماً لصالح توسُّع فجوة الدخل بين الأقلّية الثريّة الحاكمة وبقيّة الشعب. ومن الجليّ أن جونسون استنفد من وراء ذلك كلّه شعبيّته حتى بين أنصاره، وأصبح أشبه بعبء على إمكانية احتفاظ «المحافظين» بالسلطة عند إجراء جولة قادمة من الانتخابات العامة (كانون الثاني 2025 كحدّ أقصى). ولذا، فقد شرع عدّة طامحين في المنصب في نسج الشِباك للرئيس، واقتناص هفواته وتجميع المعادين له من بين نواب الحزب. إلّا أن ما أخّر سقوطه إلى أمس، كان فخّ فقر الخيال وانعدام الشخصيات الذي وجد «المحافظون» أنفسهم عالقين به؛ إذ ليست لديهم أيّ حلول حقيقية للمعضلات الاقتصادية أو الاجتماعية التي ترزح تحتها المملكة، كما أن الوجوه البديلة مفتقدة بشدّة للكاريزما أو الرؤية أو القدرة على إقناع القطاع الأكبر من المواطنين. ومن هنا، فإن إقصاء جونسون سيأتي غالباً بشخصيّة باهتة جديدة من قلب النُخبة ذاتها التي تسيطر على القرار السياسي للبلاد – على الأغلب قد يكون وزير الدفاع الحالي بن ولاس، وفقاً لاستطلاع الرأي الذي أجرته منظّمة «البيت المحافظ» لنشطاء «حزب المحافظين» -. وهذا يعني ببساطة أن البديل الذي قد يكون مناسباً لإدارة الجيش في المرحلة الأوكرانية، عديم المعرفة بشؤون الاقتصاد، وإلى أن يتعلّمها، ستكون المملكة قد شارفت على الانتخابات العامّة التالية، ما يعني ضياع عامَين آخرَين بلا طائل، واستمرار كتلة الأزمات في التكاثف من دون أفق. فهل سيأتي على بريطانيا وقت تترحّم فيه على أيّام «المهرّج بوجو» – كما كانت تسمّيه الصحافة الشعبية -؟