د. عدنان عويّد* – الحوارنيوز
من أبرز سمات وخائص الفلسفة المثاليّة بشكل عام، أنها تستعيض عن الفعل المتطور منطقياً، أي الفعل الذي له قوانين سيرورته وصيرورته التاريخيتين، والمشبع بالعلاقات الاجتماعيّة والفكريّة القائمة على هذه العلاقات بكل مضامينها، بحشد فوضويّ من الانفعالات والمشاعر الذاتيّة، المتجهة نحو الشكل وإهمال المضمون، والمعتمدة على الابهام، والمتخلية عن البناء المنطقيّ وتمجيد اللامعنى واللاعقلانيّ. فالفيلسوف المثالي يقوم هنا بخلق عالمه الذاتي الخاص به، والمستقل عن سير التاريخ, وبالتالي تقتصر فلسفته على إصلاح الروح، أو التعبير عن واقعها وطموحاتها خارج إطار الزمن والمكان معاً.
إذن، إن الفلسفة المثاليّة مشبعة بالرؤى الذاتيّة والخيال والحدسيّة والأسطورة وغيرها من وسائل وطرق التفكير البعيدة عن الواقع وتناقضاته، أي البعيدة عن ربط الفكر بالواقع والإقرار بأن الفكر نتاج الواقع ذاته، وليس فكراً مفرخا بشكل مجرد، علماً أن بعضهم يحاول ربط هذا الفكر بالواقع، ثم يعود لمنح هذا الفكر القيمة المطلقة، أو القدسيّة التي تفرض على الواقع أن يرتقي إلى هذا الفكر المثاليّ. والأيديولوجيا الدينيّة او الوضعيّة الشموليّة تأتي هنا أنموذجاً.
إن تاريخ الفلسفة عند المثاليين عموماً، هو ليس أكثر من ذيل لتاريخ اللاهوت أو الدين في سياقه العام، مثلما هو حصيلة الإبداع الذاتي المستقل لمفكرين منفردين، في الوقت الذي يعمل فيه هؤلاء الفلاسفة المثاليين على عزل مسيرة الفكر الفلسفي عن التطور الواقعي لتاريخ المجتمع والعلم. لذلك تأتي الفلسفة المثاليّة في جوهرها فوق الطبقات وتناقضات المجتمع بالضرورة.
يعتبر “برغسون” في حدسيّته الممثل الأكثر حضوراً لهذه الفلسفة، حيث يرى، أن المهمة الأساس للفلسفة هي التخلص من جهة نظر العقل. لذلك فإن (الحياة) عنده وهي جوهر العالم، ليست عقلانيّة، وبالتالي تأتي محاولاتنا العميقة لإدراك كنهها لا عقلانيّة أيضاً.
يقول :برغسون”: إن الحقيقة الأكيدة التي تشكل المنطق الأساس لكل فلسفة، هي وجودنا الذاتيّ الذي يتجلى في ذلك التيار الدائم من الإحساسات والعواطف والرغبات. وهذا التيار من الانفعالات يشكل المادة والموضوع الرئيس في الفلسفة الحدسيّة.
أما الوعي عند “بروغسون” فيقوم على منطلقين أساسيين هما:
الحدس: الذي يرتبط بالناحية التأمليّة في الحياة،
والذهن: الذي يرتبط بالجانب العمليّ (الفعال) في الحياة.
و”برغسون” في تعامله مع هذه الحياة، ينطلق من الحدس باتجاه أعماق الوعي الذاتيّ، ثم إلى الوعي المجرد غير المرتبط بذات معينة، ثم إلى الروح التي هي عنده جوهر الحياة والكون بأسره، وأخيراً ينتقل من هذه الروح إلى الذهن والفعل الخارجي، أي إلى التعامل مع الأجسام، أي الظواهر التي يمتلئ بها المكان وفقاً لما كونه او انتجه وعيه الذاتيّ .(1).
إذن من هذا الموقف المعرفي والسلوكي والمنهجي، نجد أن الفلسفة المثاليّة عموماً هي في المحصلة فلسفة ميتافيزيقيّة، أي هي تلك الأفكار والتعاليم التي تعتمد على الفرضيات والتأمل التي يصعب البرهنة عليها، والتي تُخْضِعُ الأشياء بشكل مسبق لمنطق حدسيّ وفكريّ مجرد، وليس للقوانين التي تتحكم بآليّة عمل هذه الأشياء في الطبيعة والمجتمع. وهذا عكس النظرة الماديّة التاريخيّة الجدليّة إلى الحياة الطبيعيّة والاجتماعيّة، التي تتجه إلى المادة .. أي إلى ظواهر الواقع المعيوش, فليس هناك شيء غير مادي. والطبيعة عمليّة ماديّة واحدة من حيث المضمون, ومتنوعة من حيث الشكل. وتظهر سمات وخصائص مفرداتها وفقاً لقوانينها الداخليّة الخاصة، وإن الطبيعة والمجتمع في حالات تطور وتغير وتحول إلى أشكال أخرى بشكل دائم.
إن الظروف الماديّة للبشر تلعب دوراً بالغ الأهميّة في حياة المجتمع. أي إن ظروف الناس من مأكل ومشرب وملبس وامتلاك وسائل الحياة، تلعب الدور الأول في الحياة، وتشكل السبب الأساس لكل الظواهر المعيوشة تقريباً، بل وحتى الجوانب الأخرى الأرقى في الحياة، كالفن والأدب وقضايا النفس البشريّة اللاشعوريّة والقيم الأخلاقيّة. وهذا المنطق الفلسفيّ الماديّ التاريخيّ الجدلي، هو من يواجه الفلسفة المثاليّة ويثبت عجزها في معرفة قضايا الإنسان وحلها حلاً ثوريّاً وعقلانيّاً. وعندما نقول حلاً ثورياً، أي لابد من دور الإنسان في كشف القوانين الموضوعيّة والذاتيّة التي تتحكم في الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة والتسلح بها لمواجهة مشاكله وحلها. وعلى هذا الأساس تأتي السياسة عاملاً حاسماً في تقرير حياة الشعوب, وخلق قفزات وتحولات هائلة في التطور الاجتماعيّ، كون هذه القفزات أو التحولات تعتبر أحداثاً عظيمة في العملية الاجتماعيّة التاريخيّة. ففيها تكمن معرفة الطريق الصحيح لتحرر الإنسان أو البشريّة من هيمنة الظروف الموضوعيّة على مستوى الطبيعة، والظروف الموضوعيّة والذاتيّة على مستوى المجتمع, ويأتي في مقدمة التحرر من الظروف الاجتماعيّة السلبيّة بشقيها الموضوعيّ والذاتيّ, التحرر من الاستبداد والاستعباد السياسيّ والاقتصاديّ والروحيّ.
إن النظرة الماديّة التاريخيّة الجدليّة كمنهج في التفكير والممارسة، تؤدي بالضرورة إلى كشف القوى الاجتماعيّة المتصارعة داخل المجتمع ودورها في تقدم المجتمع أو تخلفه. مثلما تكشف المصالح التي تحرك هذه القوى، والأساليب التي تستخدمها للوصول إلى تحقيق أهدافها الاقتصاديّة أو السياسيّة والروحيّة. وبالتالي فالمنهج المادي الجدليّ يدفع الإنسان إلى ربط نفسه بواقعه والعمل على ممارسة حياته بشكل عقلانيّ وتنويريّ، وتمسكه بفلسفة العمل، كونها هي من سيشبع حب الاستطلاع لديه، بل وإعادة تنظيم حياته تنظيماً عقلانيّاً أيضا.
إن الفلسفة المشبعة بالعقلانيّة والتنوير، هي من ستؤدي إلى تحويل الفكر الذي أنتجه الواقع المعيوش إلى ممارسة، وليس الفكر المجرد القائم على التأمل والحدسيّة اللاعقلانيين.
*كاتب وباحث من سوريّة
1- لمعرفة المزيد عن الفكر البروغسوني, راجع كتاب – موجز تاريخ الفلسفة – مجموعة من الباحثين السوفيات – إصدار دار الأهالي دمشق – بحث (البروغسونيّة).