بقلم د.حيّان سليم حيدر
يروي الكاتب الأميركي وأستاذ التاريخ دانيال إِمِّرفاهر في كتابه بعنوان “كيف تُخفي إمبراطورية” (1) أن العالم كان في بادىء الأمر منقسمًا في تقييمه لإنطلاقة الرئيس الأميركي وودرو وِلْسون (Woodrow Wilson) بين مَن يلقّبه بِ”وِلْسون المُحَرِّر” ومن ينعته بِ”وِلْسون العنصري” نظرًا إلى تصريحاته الظرفية. وفي بداية الثورة البولشفية كان لينين (Lenin) قد أطلق صرخته الشهيرة بوجوب “تحرير جميع الدول المستَعْمَرة” ولم يعارضه الرئيس وِلْسون الذي وقف بدوره في الكونغريس الأميركي مُصرِّحًا: “لقد إنتهت أيّام الغزو والتوسّع”.
كانت هذه مناسبة خطابية ليعلن فيها عن “النقاط الأربعة عشر” التي إشتهرت عالميًّا بحيث أصبحت منهاجًا لتعليم اللغة الإنكليزية، حتى أنّ بعض تلامذة اللغة في الصين باتوا يحفظونها عن غيب. فلاقت صدىً طيّبًا وتجاوبًا عالميًّا.
حتى أنّ في الهند، ما كان للمهندس غاندي (Ghandi) ، رجل السلم والسلام، إلّا أن يدعو المواطنين للإنضمام إلى الحرب سبيلًا للحصول على الحكم الذاتي من البريطانيّين (ولم يكن بعد مطلبه الإستقلال التام).
كان العالم كلّه، المُنْهَك بحربٍ عالمية، ينتظر حصاد النتائج المرجوّة من مؤتمر السلام المنعقد في باريس في العام 1919 حيث تمّ إبرام معاهدة فيرساي. هناك كانت ستُكْتَب مبادىء النظام العالمي الجديد.
وعلى طاولة المشرحة كانت مستَعْمَرات الدول المهزومة: ألمانيا والإمبراطورية العثمانية.
بات الحصول على بطاقة ذهاب إلى مؤتمر السلام في باريس، وبالتحديد لمقابلة الرئيس الأميركي وِلْسون، الهدف الرئيس لأحرار العالم كلّه.
في الهند بادر المؤتمر القومي الهندي إلى انتداب غاندي للمهمّة. واستعدّت مصر لذهاب سعد زغلول، الذي سارع إلى تعلّم اللغة الإنكليزية لهذه الغاية، وتمّ جمع وفد من الطاقات الواعدة والتي أصبحت فيما بعد حزب “الوفد”.
ومن الوجوه غير المعروفة ظهر شاب بعمر 28 عامًا، مساعد طبّاخ يعيش في باريس، شاب بإسم نغويِنْ تاتْ تانْهْ (Nguyen Tat Thanh) من الهند الصينية “الفرنسية”، أعدّ منشورًا كتب فيه مطالب بلاده المستَعْمَرة ثمّ وقّعها بإسم “نغويِنْ الوطني” (Nguyen The Patriot) وجال بها في الأروقة بين قاعات مؤتمر السلام موزّعًا أوراقه على المارّة والحضور، وسلّم إحداها إلى مساعد الرئيس وِلْسون.
إلّا أنّ البريطانيين منعوا غاندي من السفر إلى باريس، واعتقلوا سعد زغلول ونفوه إلى جزيرة مالطا.
في الصين، نشأت “حركة الرابع من أيّار” للإعتراض على قرار مؤتمر باريس للسلام والقاضي بمنح الأراضي “الألمانية” في الصين إلى اليابان. فإنتفض شاب صيني، بإسم زي دونغ (Zedong)، غاضبًا مشمئزًّا، ناعِتًا قادة الحلف في باريس بِ”زُمْرة سرّاقين همّهم تقاسم الأراضي والمغانم”.
وطبعًا، بين بين، كان هناك عشرات من الوطنيّين التحرّريّين الذين حاولوا الوصول إلى المؤتمر ولكن من دون جدوى وبقيت أسماؤهم كما مطالب بلادهم طيّ الكتمان… في مَنسيّة التاريخ.
وكان للبنان، الذي كَبُرَ هناك في هذه الأجواء، أن خُصِّصَت لِ”زعمائه” قاعة على مدار العهود والقيود والحدود. قاعة معزولة عن الجغرافيا محجوبة عن التاريخ، جدرانها مجهّزة بكواتم لمرور الزمن، صمّاء لمفهوم التطوّر، بَكْماء لتبدّل الأحوال. قاعة اجتمع فيها من اجتمع، واستمع فيها مَن استمع، وعلا فيها الولع والفجع مع الوجع، وطبعًا، كما عادة اللبنانيّين، الدلع وبعدها الهلع فالهرع…
ومرّت الأيام، ليُعْرَف “نغويِنْ الوطني” باسم هُوْ شِيْ مِنْهْ (Ho Chi Minh)، وكرّت العقود لتسجّل الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل ومعها إنجلى الغموض عن إسم ماو تسي تونغ (Mao Tse Tung)، ذاك الشاب الصيني الثائر، فبدّل كلّ منهما، وغيرهما من الذين قد مُنِعوا من الحضور، مصير بلادهم وتسلّم زمام القرار مَن تسلّمها من قادة الشعوب.
أمّا قاعة لبنان الكبير الفريدة، الرُدْهة العجيبة، فبقيت كالشرنقة المُغْلَقة التي لا يدخلها صخب المكان ولا تخضع لقواعد الزمان. وأمّا خارجها فَرَسَم يوري غاغارين ( (Yuri Gagarine مداره في الفضاء ووضع نيل أرمسترونغ (Neil Armstrong) قدم أول إنسان على سطح القمر. رائدان سرحا كالفراشات محرّرين من الشرنقة الأرضية. وفي شرنقة لبنان الأبدية بقيت “العائلات الروحية”، التي لا تمتّ إلى روحية العائلات بِصِلة، تمامًا كما المشروبات الروحية التي تجعل من الزبيبة خمّارة والتي، كلّما هلْوَس شاربها، كلّما إستعر الخلاف واستشرس القتال. بقيت هذه العائلات رسومًا غير متحرّكةً، متجمّدة في معارك الآراء التي لا خير فيها. وعملًا بنظرية دارْوِن (Darwin) ، تطوّرت “العائلات” اللبنانية إلى مكوّنات وطوائف فإلى “ذو وَجْه”، أو من دون. أمّا “مُتَحجِّرو” الموقف، فما زالوا يديرون شؤون البلاد بالضروب الكلامية: “لمرّة واحدة فقط”، من على المنابر، و”بصورة إستثنائية”، من صالات المؤتمرات، وفي “مرحلة إنتقالية”، من داخل الشاشات الكبرى، و”بشكل مؤقّت” عبر مهاترات صغائر الشاشات والنفوس.
والتاريخ يسجّل أحداث هيروشيما المحرقة والنكبة النكسة… والعالم يتقلّب بين قطب غربي (غبي) رأسمالي مقابل قطب شرقي (شقي) شيوعي، فإلى آحادي القطب ومنه إلى تعدّد الأقطاب والنُظُم والدول والأقطار، مستعينًا ساعةً بالعولمة والمناخ، و مستجيرًا ساعة ثانية بعابرات القارات وبالعابثات بالشعوب…
ولبنان الكبير؟ كبير في عِقَدِهِ، يقبع في شرنقته التي لا حياة وبالتالي لا تغيير فيها. وبمنطق الشاعر “…إلّا الحماقة أعْيَت مَن يداويها !”، (ولمن يريد التبحُّر في موضوع حماقة البشر فَرَدْنا “ردهة” فكرية في (2) أدناه)، وفي ردهتنا يحاور حكّام لبنان طواحين الهواء بلغة المجاز (وحتى الجاز فيها) والإستعارة والكنانة، ليعمل “القادة” الأبديّون بِوظيفتهم الوحيدة: وضع العِصي في الدواليب. والعِصي أنواع: “الصيغة” أو”الميثاق” أو…، وعندما تتوقّف، الدواليب وليس حماقاتهم، فليس أمامنا من حلّ إلّا سرقتها. أما آن لديدان القزّ أن يتفاعلوا مع محيطهم فيتحوّلوا؟ هل هو مرض؟ فلنُشَخّصه !… ويتمّ تشخيص المرض… ولو بعد حين، وتظهر الحقيقة ساطعة: إنّها مُتلازِمة فيرساي …اللبنانية، كانت هكذا في البدء… وما زالت !
يا فرنسا الثورة، يا فرنسا الإستعمار، بالله عليك، هلّا تطردي محتلّي قاعة فيرساي ؟ ألا تحتاجين لهذه القاعة أبدًا ؟
بيروت، في 5 حزيران 2021م.
حيّان سليم حيدر.
لمناسبة “نكسة” لبنان المتجدّدة.
لبناني مُتَحرّر من متلازِمة فيرساي.
_________________________________________
(1) دانيال إِمِّرفاهر – “كيف تُخفي إمبراطورية” (الصفحة 117 وما بعدها)
Daniel Immerwahr – “How to Hide an Empire”
(2) يرصد الفيلسوف باسكال إنجل أحوال الحماقة المعاصرة بوصفها رذيلة معرفية ومرضًا يصيب المعرفة. فالحماقة، بالمعنى المعاصر، وهو معنى نفسي قبل أن يكون معنى أخلاقيًا، تدل أساسًا على «نوع من نقص الكفاءة، أو على شكل معيّن من الجهل الذي يتّصف به المضطربون عقليًا؛ لكنه يدلّ أيضًا على عيب في الأداء، أو سوء استخدام كفاءة متوافرة، أو سوء ممارسة». عدا الأحمق «فكريًا»، هناك الأبله، والمغفّل، ذلك أن الساحة تتسع لهؤلاء جميعًا. تلك هي أساسات “مصنع الجهل”.
(*) سبق وصدرت مقالاتي تحت “مظلّة” بعنوان سلسلة. وعلى أثر تحوّل الوباء العالمي المُستجدّ، ومعه وباء لبنان المُستبدّ، إلى سلالة ومنها إلى سلالات يتوالد فيها العصيان على الحلّ، إقتضى التحوّل … تماشيًا مع تطوّر الزمن.
زر الذهاب إلى الأعلى