بقلم الدكتور عماد عكوش – خاص الحوار نيوز
ما تفعله الحكومة اللبنانية منذ ثلاث سنوات في ما يتعلق بالقطاع العام، هو ترقيع لا يرقى حتى لإجراءات وليس خطة. ما تفعله الحكومة والمجلس النيابي ومصرف لبنان ،منذ ثلاث سنوات ،عمليات ليس أقل ما يقال فيها أنها عمليات عشوائية تهدف بالدرجة الاولى الى الحفاظ على كراسي السلطة من ناحية ، ومن ناحية أخرى محاولة عدم أحراج اللبنانيين حتى لا يخرجوا بشكل عشوائي الى الشارع فتكون نهاية الدولة .
منذ بداية الازمة وخلال السنة الاولى لم تقدم السلطات الثلاث على أي عمل حقيقي لوقف تدحرج الازمة ، وأبقت هذه السلطات على سعر الصرف الرسمي على حاله ما أفقد الواردات التي يتم تحصيلها من قبل الدولة اللبنانية، قيمتها الحقيقية وانخفضت قيمتها الفعلية والتي كانت تعادل عشرة مليارات دولار ، الى ما دون 17 بالمئة من قيمتها في نهاية العام 2020 .. في المقابل انخفضت القدرة الشرائية لموظفي القطاع العام خلال نفس الفترة الى ما دون الثلاثين بالمئة من قيمتها الحقيقية رغم دعم بعض السلع الاساسية والادوية .
في نهاية العام 2021 ارتفع سعر صرف الدولار الاميركي مقابل الليرة الى 27500 ليرة، وبقيت في المقابل واردات الدولة على حالها ،حيث أصرت السلطات الثلاث على تثبيت سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية مقابل الدولار الاميركي ، ما أفقد قيمة الواردات التي تجنيها الدولة اللبنانية من رسوم وضرائب من المكلفين اللبنانيين مزيدا من قيمتها، وبلغت قيمتها بالدولار مبلغا لا يزيد عن 580 مليون دولار أميركي، أي ما لا يزيد عن 5.8 بالمئة مقارنة بما كانت تحصله الخزينة قبل الازمة ، وحققت رواتب القطاع العام مزيدا من الانخفاض حيث خسرت هذه الرواتب من قيمتها ما نسبته 95 بالمئة من قيمتها الحقيقية قبل الازمة .
مع بداية العام 2022 سعت السلطات الثلاث الى معالجة هذا الواقع بعد تعطل كل القطاع العام بسبب أنخفاض القدرة الشرائية لموظفي القطاع العام ،والذي أدى الى عدم التحاق معظم الموظفين بمراكز أعمالهم. كما سادت الاضرابات معظم هذا القطاع ، وهذا الامر هدد بتعطيل كامل الدولة عن العمل فاستنفرت الحكومة والمجلس النيابي ومصرف لبنان لمنع هذا الانهيار الشامل فتم اقرار الموازنة ، وزيادة رواتب القطاع العام ثلاثة اضعاف ، اعطاء بدل نقل ، بدل أنتاجية ، اضافة الى دفع هذه المستحقات وفق سعر منصة صيرفة ، ما أدى الى زيادة هذه المنافع والرواتب بمقدار لا يقل عن ستة أضعاف ما كانت عليه قبل الزيادة .
لتأمين هذه النفقات الاضافية سعت هذه السلطات الى زيادة الدولار الجمركي، وهو ترقيعة وهرطقة جديدة من قبلها. وهذا النوع من الدولار غير موجود الا في لبنان . في كل دول العالم هناك ما يسمى بسعر الصرف الرسمي الذي تتعامل على أساسه الدول، سواء في معاملاتها الداخلية أو في تعاملها مع الخارج ، أما في لبنان فقد تم اختراع ،من باب الترقيع، عدة أنواع من الدولارات، وذلك حتى تتناسب مع أعمال الطبقة السياسية ومشاريعها . فهناك الدولار الجمركي حتى تبقى جيوب الدولة مليئة للصرف على الطبقة السياسية ، وهناك دولار المنصة حتى تستطيع الطبقة السياسية تحقيق أرباح في ظل غياب الصفقات بعد تعثر الدولة ، وهناك دولار المصارف والتعاميم لسرقة اموال المودعين من قبل نفس الطبقة ، وهناك سعر الصرف الرسمي حتى تستطيع الطبقة السياسية وحاشيتها من التملص من التزاماتها المالية .
اليوم سيتم رفع الدولار الجمركي الى ستين الف ليرة لبنانية ابتداء من 18 نيسان لتأمين ما يتم تداوله من رفع رواتب القطاع العام لتأمين سير عمله وتلبية لمطالب الروابط والجمعيات التي ما زالت مضربة عن العمل . هذا التخبط الذي تمارسه الدولة اللبنانية بكل سلطاتها لن يصل الى نتيجة سوى مزيد من التضخم ومزيد من انخفاض قيمة الليرة اللبنانية ،فلا توجد اي خطة متبعة ولا توجد اي استراتيجة تعمل عليها، وانما مجرد اجراءات لملء الفراغات الكبيرة في هيكل هذا الجسم الذي لم يعد قادرا على الاستمرار في الحياة ما لم تتخذ اجراءات جذرية تؤدي الى استقامة الواقع المالي والاقتصادي .
هذه الاجراءات التي تم اتخاذها لمصلحة الموظفين زادت من أعباء موظفي القطاع العام من 12 تريليون قبل الازمة الى 26 تريليون بعد زيادة غلاء المعيشة، واذا ما اضيف عليها شهر الانتاجية وبدلات النقل وصيرفة فيمكن ان تصل هذه النفقات الى 75 تريليون ليرة لبنانية ، ورغم هذه الزيادات لم تنجح السلطات في أعادة الموظفين الى عملهم بل بقي الاضراب مفتوحا .
في رأينا ، الامر الوحيد الذي يمكن ان يؤدي الى استقامة هذا الواقع الاقتصادي اليوم هو تعويم سعر الصرف الرسمي وتعديل الرواتب وأجور القطاع العام بناء على الارقام المحققة نتيجة هذا التعويم، على ان تتم اعادة تقييم الواقع كل ستة أشهر لدرس مؤشر الاسعار وحجم الواردات المحققة لصالح الخزينة للحفاظ على التوازن المالي، ما بين نفقات الدولة ووارداتها لمنع الافراط في طبع الليرة، وبالتالي تحول هذا الطبع الى مزيد من التضخم وبالتالي مزيد من الانخفاض في سعر صرف الليرة اللبنانية ، ألا أنه من ناحية أخرى لا بد لموظفي هذا القطاع ان يقتنعوا بان ما كانت تدفعه الدولة قبل الازمة كان يتم دفعه من ودائع المواطنين، وبعد فقدان هذه الودائع لم يعد بالامكان دفع نفس الرواتب والخدمات للموظفين، وكأن شيئا لم يحصل ، لذلك لا بد من أعادة هيكلة كل المؤسسات والادارات بشكل يخفض من كلفتها على الخزينة ،كما لا بد من اجراء بعض الاصلاحات وخاصة لناحية تعدد الرواتب والتعويضات والفروقات الكبيرة بين المصالح والمؤسسات في الرواتب والمنافع ومحاولة توحيدها وخفض عدد الموظفين عبر المكننة ودمج او الغاء الكثير من المؤسسات غير الضرورية .
ان تعويم سعر الصرف الرسمي سيؤدي الى عدة نتائج ايجابية ومنها :
– تحقيق أحد شروط صندوق النقد الدولي عبر توحيد الاسعار .
– زيادة واردات الدولة الجمركية وضريبة القيمة المضافة المستوفات على المعابر الرسمية بنسبة كبيرة ،خاصة انه تبين بأن حجم الاستيراد عاد الى أرقامه السابقة تقريبا .
– زيادة الواردات سوف تُمكّن الحكومة اللبنانية من زيادة رواتب القطاع العام وبالتالي أعادة العمل بهذا القطاع .
– سحب السيولة من قبل الدولة اللبنانية عبر زيادة الواردات وبالتالي حصول استقرار جزئي بسعر صرف الليرة اللبنانية .
نعم يمكن ببعض التدابير وخطة صغيرة متوازنة أعادة فتح القطاع العام وخلق نوع من الاستقرار النسبي في السوق ، لكن نحتاج الى بعض التنازل من قبل السلطات الثلاث عن بعض مكاسبها ومصالحها التي باتت تشكل عبئا كبيرا على الوطن .