ندوة حوارية في المجلس الشيعي حول فكر الإمام شمس الدين: الخطيب وسلام وعبس ورحال يطرحون رؤية العالم الراحل
![](https://al-hiwarnews.com/wp-content/uploads/2025/02/20250205_170734-780x470.jpg)
الحوارنيوز- محليات
في الذكرى الرابعة والعشرين لرحيل رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الاعلى الاسبق الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وبدعوة من نائب رئيس المجلس العلامة الشيخ علي الخطيب، أقام المجلس ندوة حوارية حول فكر الراحل في مقره في الحازمية ،حاضر فيها رئيس تحرير اللواء الأستاذ صلاح سلام وأمين عام مجلس كنائس الشرق الأوسط الدكتور ميشال عبس وعميد معهد الدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والإجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتور حسين رحال.
![](https://al-hiwarnews.com/wp-content/uploads/2025/02/20250205_170353.jpg)
وحضر الندوة ممثل رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري النائب أشرف بيضون، رئيس الجمورية الأسبق العماد ميشال سليمان ، ممثل مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان الشيخ أسامة حداد، ممثل شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي ابي المنى العميد غازي محمود، سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد مجتبى أماني، رئيس الجامعة الإسلامية في لبنان البروفيسور حسن اللقيس، رئيس مجلس أدارة مستشفى الزهراء البروفيسور يوسف فارس، نقيب المحررين الصحافيين الأستاذ جوزف القصيفي ، حشد من علماء دين،رئيس بلدية الحازمية جان أسمر ورؤساء بلديات وشخصيات وفعاليات اجتماعية وتربوية وثقافية وإعلامية.
د.جهاد سعد
وبعد تلاوة اي من الذكر الحكيم للمقرئ احمد المقداد، والنشيد الوطني اللبناني، قدم الندوة د. جهاد سعد فقال: يمثل الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين قدس سره ، ذلك الإتجاه الداعي إلى سلطة العلم في مواجهة علم السلطة، وتلك الطبقة من العلماء والمفكرين الكبار التي مثلت كرامة العلم والعالم في مواجهة اي محاولة لتطويع الرسالة السماوية لمصلحة هذا الطرف أو ذاك وهذه السلطة أوتلك.
ومما يثير الدهشة في كل تراثه العلمي والفكري، تلك اللغة المسبوكة والمنهجية المنضبطة كأفضل ما يقوم به علماء هذا العصر الأكاديميون وتلك القدرة على تأصيل المفاهيم الإسلامية المعاصرة بلا تكلف ..
هيمنت على أبحاث الإمام شمس الدين ممارسة العلم في أحدث تعريفاته ، فكانت كل حياته العلمية والعملية : “نشاطا ًتقدمياً لحل المشكلات.” وهذا تعريف لاري لوضان للعلم في المدرسة الحديثة.
دارت كتاباته لا حول الرسالة العملية ، بل حول عملية الرسالة، فرأيناه في مقابل الفتن المذهبية يثبت أن الوحدة الإسلامية أصل من أصول الدين، يجب أن يراعى في كل ما يصدر عن الفقيه المعاصر. وفي مقابل الفتنة بين القوميين والإسلاميين يقترح المتحد القومي الإسلامي ويضع له برامج العمل وآليات التطبيق، وفي مقابل مشاريع التقسيم والفدرلة يدافع عن الكيان اللبناني كوطن نهائي لجميع بنيه بمقاومة مدنية شاملة، تكافح الإحتلال إلى جانب المقاومة المسلحة وتتبنى مشروعا تنموياً توحيديا للوطن والدولة، وفي مقابل معارك التصنيف قدم الإمام ضوابطا لحفظ التنوع في الوحدة و مثالاً لأدب الإختلاف وثقافة الإختلاف. وتوج هذه الحياة المعطاءة بتقديم نموذج العالم الحر الذي لا ترهبه ضغوط ، ولا تحرف مساره فتن.
كلمة العلامة الخطيب
وألقى العلامة الخطيب كلمة قال فيها:أرحب بكم في هذا الصرح الوطني، المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الذي أريد أن يكون في هذه البلدة اللبنانية الكريمة في الحازمية، ولرمزية هذه المنطقة وللخلفية التي حملها الامام السيد موسى الصدر مؤسس هذا الصرح، ولرمزيته الاسلامية المسيحية والعيش المشترك وبناء دولة المواطنة، ونحن اخترنا أن يكون هذا المكان في ذكرى عالم من علماء لبنان والعالم العربي والاسلامي الذي قدّم مشاريع وطنية لحل الأزمة والمشكلة اللبنانية ولبناء دولة حقيقية، لأنه بفكره العميق الذي ينطلق من الاسلام دين الرحمة الواسعة الذي ليس محصوراً بصيغة ولا يحمل فكراً ضيقاً، وإنما يستطيع أن يعايش كل المناسبات وأن يعايش كل الاوضاع، فهو ليس رسالة للمسلمين وللمؤمنين به وإنما للبشرية جمعاء، لذلك لم يدعُ الاسلام المسلمين أن ينغلقوا على أنفسهم وأن يعيشوا وحدهم دون الاخرين، من هذه الخلفية يستطيع ويكون شرعياً وإسلامياً أن يأتي بالنظام المناسب مع بقية المكونات الاخرى التي تختلف معه في الدين والعقيدة، كما هو لبنان هذا البلد المتنوع الذي لم يكن من فراغ كما قال الامام الصدر: الطوائف نعمة والطائفية نقمة.
أضاف:نحن من منطلقنا الديني والاسلامي نرفض الطائفية ولكننا نتبنى الطوائف والعيش معاً بسلام، وأن نُنتنج مشروعاً كما اراد رسول الله (ص) في وثيقة المدينة حين وضع هذا النظام ليعيش الجميع معاً وتحت سقف واحد. من هنا الامام شمس الدين يُمثّل هذا العمق وهذه الخلفية التي يشير اليها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، والأتقى هو كما قال رسول الله (ص): الخلق كلهم عيال، وأحبهم اليه (ولم يقل المنتمي للإسلام) وإنما قال: أحبهم اليه أنفعهم لعياله.
وقال: من هذا المنطلق، الاسلام انطلق ليجمع وليس ليُفرّق، ليجمع بين الذين يحق لهم أن يكونوا مختلفين في الرؤى، وإلا لكنا صورة جامدة على الحائط، هذه هي الحياة هي التفاعل بين المكوّنات وبين المختلفين ليُنتجوا شيئاً جديداً، على هذه القاعدة بنى الامام شمس الدين فكره في دعوته الى العيش المشترك والى دولة المواطنة التي تساوي بين المختلفين فيها فكرياً أو عقائدياً أو طائفياً على أساس إنساني هو المساواة والعدالة وبناء الدولة القادرة والعادلة.
وختم: ارحب بكم واتمنى التوفيق للأخوة الذين سيتكلمون حول فكر الامام شمس الدين وأكتفي بما ذكرت التوفيق ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة سلام
وتحدث بعد ذلك رئيس تحرير صحيفة اللواء الأستاذ صلاح سلام عن الودة الإسلامية في فكر الإمام شمس الدين فقال:
أود أولا أن أتوجه بالشكر الى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب على هذه الدعوة الكريمة للمشاركة في ندوة عن الراحل الكبير الإمام محمد شمس الدين الذي تبقى ذكراه العطرة وإبتسامته الدائمة حاضرة دائمأ خاصة في فترات الحن والأزمات
مفهوم الوحدة الاسلامية في فكر الامام محمد مهدي شمس الدين.
تخل الذكرى الرابعة والعشرين لغياب الإمام العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين ولبنان بامس الحاجة إلى قيادات روحية وسياسية تتميز ببعض ما تميز به العالم الكبير من ثقافة دينية، وفكر إنساني، والتزام وطني، ورحابة صدر في الحوار مع الآخر، وإستعداد للتسامح مع الأخر، وحضور مفعم بالحبة والإحترام التبادل في الشراكة مع الآخر.
كان الإمام شمس الدين فرد بحجم مؤسسة، ومثقفا يستوعب ثقافات أمم وشعوب منتشرة في أنحاء العمورة. ورؤوويا ينفذ بعقله ورؤيتاه إلى فاق الستقبل. وكان قبل كل ذلك مؤمنا باله الواحد الخالق في السماء، وبالوطن الواحد الحاضن في الأرض.
عرفته يوم تعرفت على صاحب الشخصية الفذة الإمام موسى الصدر في بدايات مسيرته النهضوية. وتجاوزت صداقتنا حدود العلاقات الشخصية، ووجدنا أنفسنا تحت خيمة واحدة بابها الرئيسي الوحدة الإسلامية، وما أدراك ما الوحدة الإسلامية في زمن الحروب العبثية، والفتن الطائفية والذهبية، وما سادها من تفلت من كل اﻟبادئ الإنسانية، ومن كل القيم الدينية.
كنا نضطر أحيانا لوصل الليل مع النهار لإخماد مشروع فتنة في هذه المنطقة، أو تطويق حادث في ذلك الحي، أو الإتصال بهذه الشخصية السياسية، وأو ذاك السؤول اليداني لنع النيران من الإمتداد يمينا أو شمالأ.
كان شمس الدين يعتبر أن كل تلك الجهود الشاقة تبقى هينة أمام الوصول إلى الهدف وهو حماية الوحدة الإسلامية. الوحدة التي شكلت في تلك الرحلة هاجسه الاكبر، لأنه كان يدرك عواقبها الوخيمة ليس على السلمين وحسب، بل بالنسبة لكل اللبنانيين على إعتبار أن الوحدة الإسلامية هي الدماك الأول في الوحدة الوطنية، فإذا خسرنا الأولى، سقطت الثانية.
وقبل أن يعرض سلام لوصايا الأمام شمس الدين توقف أمام بعض العناصر في حياة الراحل الكبير:
1- حرص على المشاركة شخصياً والحضور إلى دار الإفتاء لإعلان أول وثيقة عن الثوابت الإسلامية، التي أكدت على صيغة العيش المشترك وعلى وحدة لبنان أرضاً وشعبا في ظل دولة المؤسسات والقانون.
شارك في عدد من الاحتفالات الدينية في دار الفتوى، وكانت خطاباته تركز دائما على ضرورة صون الوحدة الإسلامية لتبقى النواة الصلبة للوحدة الوطنية.
في ذروة الصراعات الطائفية والتوترات المذهبية توافقنا على تبادل الوفود في الساجد لأداء صلاة الجمعة، بحيث يقوم وفدين أو أكثر برئاسة رجل دين من الأهل السنة بأداء صلاة الجمعة في مساجد وحسينيات شيعية في بيروت والضاحية، ويقوم وفدين من النخب الشيعية بالمهمة ذاتها في المساجد السنية في بيروت وضواحيها.
المشاركة في معظم الإجتماعات الروحية والوطنية التي كانت تعقد في دار الفتوى في فترات التأزم العسكري في سنوات الحرب للمساهمة في التوصل إلى هدن مؤقتة.
أولاً: الوحدة الإسلامية في القرآن الكريم
إن صون الوحدة الإسلامية ليس عملاً ظرفياً أو أنياً، بقدر ما هو واجب إيماني وفرض على كل مسلم، حفاظا على أمن وإستقرار المجتمعات الإسلامية، وتحصينها ضد الفتن والحروب الداخلية. بل هي أمانة يحملها كل مسلم في دنياه ويحاسب عليها في اليوم الآخر.
وجسدت آيات القرآن الكريم مفهوم الوحدة الإسلامية بأوضح التعابير وأجمل الصور. حيث يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون. وقوله تعالى إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون
ومن آياته سبحانه وتعالى واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا. وإذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً.
وثمة جهود مشهودة لصون الوحدة الإسلامية بذلها علماء كبار في حلقات حوار تكررت عبر مشهديات مختلفة، لعل أبرزها حوار العلامة جمال الدين الأفغاني مع تلميذه الشيخ محمد عبده، ومساعي التقريب التي قام بها الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر في الخمسينات مع الشيخ محمد تقي القمي، حيث اتفق العلماء على التركيز على النقاط المتفاهم عليها، وترك المختلف حولها جانبا. وكذلك الحوار المميز بين الشيخ سليم البشري المالكي والسيد شرف الدين، الذي قام على روح التسامح والمحبة والود وحسن الظن بالآخر تعزيزا لمفهوم وحدة الأمة التي وردت في القرآن الكريم.
الكلام عن الوحدة بين المسلمين ليس مجرد تمنيات وأحاديث إنشائية، بقدر ما يستند على مقومات أساسية لحفظ تماسك المجتمع، وإشاعة الإلفة والود بين المسلمين على إختلاف مذاهبهم، تكريساً لمبادئ التضامن والتعاون للنهوض في المجتمعات الإسلامية. ومن أهم تلك المقومات
1- النهي عن الفرقة والصراعات، وتعزيز الإلفة والمحبة بين المسلمين : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا …..
الإصلاح بين الأخوين في الدين على إعتبار أن الإصلاح بين الأخوة وإصلاح ذات البين يعزز واقع الوحدة الإسلامية” إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم”. وروى البخاري عن أنس بن مالك قول رسول الله (ص): لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا. ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام.
النهي عن الصراعات والإختلافات، وعن كل ما يبعد المسلمين عن الوحدة الاجتماع، “وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم…” وكما جاء في تابه العزيز : ولا تكونوا كالذين تفرقوا وأختلفوا من بعد ما جاءهم البينات..
المسلمون أولياء بعضهم على البعض الآخر، ويحب أحدهم للآخر ما يحب لنفسه، بما يعزز تأخيهم وتضامنهم. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر… وهذا أمر إلهي بالمحبة والود بين المسلمين والنهي عن كل ما يثير الخلافات ويسبب البغضاء بينهم.
الوصايا العشر ومفهوم الوحدة الإسلامية
لم يكن الإمام شمس الدين من دعاة الوحدة الإسلامية فقط، بل كان أيضاً من قادة الدعوة للوحدة الوطنية، في زمن تشلعت فيه أبواب الوطن، وتشظت أركان الدولة وساد الإنقسام في خطاب المرحلة.
اليوم وبعد زهاء ربع قرن على رحيله مازالت الوصايا العشر التي تركها الإمام شمس الدين تعتبر بوصلة العمل الوطني الهادف للحفاظ على وحدة الأرض والدولة والشعب، رغم كل الدعوات التي تطفو على سطح الصراعات السياسية والحزبية بين وقت وآخر، مهددة بالتقسيم تارة، وبالكونفدرالية تارات أخرى.
وسنكتفي بإلقاء نظرة سريعة على “الوصايا المهدية التي كتبها الإمام شمس الدين قبل رحيله بفترة وجيزة.
- الاندماج الوطني دعا الشيعة إلى الاندماج الكامل في أوطانهم، مشددًا على ضرورة تعزيز الانتماء الوطني وتجنب أي ممارسات قد تؤدي إلى العزلة أو الانفصال.
2- رفض الانعزال الطائفي حذر من إنشاء جمعيات أو هيئات تحت مسميات طائفية، مثل “حقوق الإنسان الشيعي”، مؤكدًا أن مثل هذه المبادرات قد تثير مخاوف لدى الآخرين وتفسر كولاء لقوى أجنبية.
- التأكيد على الهوية الإسلامية الجامعة أكد على أن الشيعة جزء من الأمة الإسلامية، ودعا إلى تعزيز الروابط مع التيارات الإسلامية السنية المستنيرة والعمل على إزالة التوترات المذهبية من خلال الحوار والتفاهم.
- دعم التطور الديمقراطي: شجع على دعم أي مبادرة نحو الديمقراطية والشورى في العالم العربي ونصح بالتدرج في تحقيق التطور السياسي، معتبرا أن التحولات التدريجية أكثر استدامة وأقل إثارة للاضطرابات.
- رفض التدخلات الخارجية حذر من الوقوع في فخ القوى الأجنبية التي قد تسعى لاستغلال الشيعة لتحقيق مصالحها ، ودعا إلى توخي الحذر من أي مشاريع قد تؤدي إلى استخدام الشيعة كأداة في صراعات لا تخدم مصالحهم أو مصالح أوطانهم.
- تعزيز العلاقات مع المسيحيين أوصى بالحرص الكامل على ضرورة وجود المسيحيين في لبنان والعالم العربي، وعلى أن يشعروا بالانتماء الكامل والرضى، ودعا إلى عدم السماح بأي شعور بالإحباط أو الخوف على المستقبل بينهم.
- الالتزام بالوحدة الوطنية شدد على أهمية الوحدة الوطنية والعيش المشترك بين مختلف الطوائف والمذاهب، ورفض أي شكل من أشكال التقسيم أو الفدرلة التي قد تؤدي إلى تفتيت الأوطان.
8 العمل الاجتماعي والخيري حث على الانخراط في الأعمال الاجتماعية والخيرية التي تخدم المجتمع بكافة أطيافه، وتعزز من روح التعاون والتكافل بين المواطنين.
- الاهتمام بالتعليم والثقافة: دعا إلى الاستثمار في التعليم ونشر الثقافة والمعرفة، معتبرا أن ذلك هو السبيل لبناء مجتمع قوي ومتماسك وقادر على مواجهة التحديات.
- التحلي بالأخلاق والقيم الإنسانية: أكد على ضرورة التحلي بالأخلاق الفاضلة والقيم الإنسانية النبيلة في التعامل مع الآخرين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية.
تجسد هذه الوصايا رؤية الشيخ شمس الدين لوحدة المجتمع وتعزيز التعايش بين مختلف مكوناته، مع التركيز على الانتماء الوطني والابتعاد عن النزعات الطائفية.
لم تكن هذه الوصايا بعيدة عن مفهوم الوحدة الإسلامية ومنطلقاتها الوطنية، بل جاءت مكمله لها، في جوانب تفصيلية تركزت على معالجة الوجود الشيعي في البلدان العربية خاصة، والبلدان الإسلامية عامة، والتي تحتاج مجتمعاتها لإهتمام أكبر بالوحدة الإسلامية. كما جاءت الوصايا العشر إستباقا لما كان يلوح في الآفاق العربية والإسلامية من نذر فتن مذهبية عملت الأيادي الأجنبية على إشعال أوارها من باكستان شرقاً حتى العراق وسوريا ولبنان غرباً.
أدرك الإمام شمس الدين باكرا أن تعزيز الوحدة الإسلامية وصونها لا يتم بكبسة زر، بل يتطلب عملاً دؤوبا ومستمرا على مدى أجيال متعاقبة، للوصول إلى الأهداف السامية المبتغاة. لذلك وضع خطط متكاملة للعمل المستدام لتحقيق هذه الأهداف السامية، التي تحفظ للمسلمين وحدتهم، وترفع راية الإسلام الواحد، مع الأخذ بعين الإعتبار واقع الإختلافات في الممارسة وبعض الإجتهادات في الواقع المجتمعي للمسلمين.
لذلك يطرح الإمام شمس الدين خطة عمل رئيسية تتشكل من العناصر التالية:
(1) الانطلاق من الحالة الشعبية، من واقع الأمة ومن قاعدتها. إذ يقول الأمة الإسلامية من خلال مساجدها، من خلال فقهائها وتحديدا وقبل المساجد والفقهاء، من خلال التنظيمات الحزبية، يعني الحركات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية هي الركيزة الأساسية التي في نظري يجب أن تقوم عليها جهود العمل نحو الوحدة الإسلامية.. ويضيف الإمام شمس الدين) إن المسألة الشعبية في كل بلد إسلامي، هي تضغط على نظامها الخاص ليكون أقرب إلى مواقع الوحدة منه إلى مواقع التجزئة >> .
(2) تطوير نظام العلاقات بين الحركات والوجودات والمؤسسات الإسلامية والعربية في كل البلاد الإسلامية، وتنمية مستوى الصلات الفكرية والثقافية والعملية.
(3) تكثيف الجهود صوب العدو الحضاري للأمة، وهو الذي يناقض الإسلام كأيديولوجية وحضارة ومشروع سياسي، ويناقض الإسلام كمشروع مصالح للمسلمين.
ويكثف الإمام شمس الدين رؤيته لمفهوم الوحدة بقوله الوحدة يجب أن تكون منسجمة مع حاجات المسلمين، مع واقع النظام العالمي، وتحديات المسلمين المعاصرة. المسلمون في الماضي كانوا يواجهون حاجات وتحديات مختلفة عما عليه الأمر الآن، ولذلك صياغة عملية الوحدة الوحدة في هذا الزمان ليست صياغة لها نموذج، هي يجب أن تخلق نموذجها الخاص، ليس لها نموذج تاريخي ونحن نطبقه، وإنما يجب أن نبتدع ونخترع النموذج الوحدوي الذي ينسجم مع حاجات المسلمين وتحديات المسلمين والدور المرتقب للأمة الإسلامية في العالم، الدور ثابت الأمة الشاهدة والأمة الوسط>>
وأخيراً، لا بد من التأكيد، وتجنباً لكل تشكيك أو إلتباس، إن الوحدة عند الإمام شمس الدين لا تعني إلغاء الآخر، ولا إقصاء أي طرف عن المشاركة الإيمانية الكاملة، ولا القضاء على التنوع، ولا الإنصهار والذوبان في كيان الآخر. بل تقوم أساسا على إحترام الخصوصيات لكل مكون، والأخذ بعين الإعتبار الحقائق والوقائع التاريخية والطبيعية، والحفاظ عليها في إطار العمل من اجل الوحدة الإسلامية.
كلمة عبس
وتحدث امين عام مجلس كنائس الشرق الأوسط البروفسور ميشال عبس في كلمته عن “العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين والحوار وتحصين الوطن” فقال:
عندما اريد التكلم عن العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، تحضرني اول ما تحضرني ابتسامته الوديعة المحبة ومحياه اللطيف، ووراءهما نظرة ثاقبة ترنو الى البعيد، تستشرفه وتحاول فك الغازه، لعل في الاستشراف حماية لوطن وتمتين لمستقبل ابناءه. ان حدة بصيرته هي من ميزاته الأساسية وقد وظفها في خدمة الجماعة المؤمنة، أهل التشيع في لبنان – اتفادى استعمال كلمة طائفة – والوطن.
اسمح لنفسي التعريج نحو الشخصي قليلا لأقول انني توسمت نفس الروح الطيبة في الابن الصديق، معالي الوزير، وفي الحفيد الطالب النجيب في الماجيستر التي كنت اديرها في جامعة القديس يوسف.
لقد عرفت العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين من خلال عضويتي، منذ سنة 1997، في “اللجنة الوطنية الإسلامية المسيحية للحوار” التي ساهم في تأسيسها وكان من اركانها والتي عبرها، عبر نشاط أعضاءها، وبفضل توجيهاته ودعمه، ساهمت في تحصين السلم الأهلي ومنع الفتنة في كثير من الظروف، والله يعلم الى اين كانت سوف تجرنا الفتن التي كانت تبدأ بحادثة صغيرة ليست ذات أهمية في الظاهر.
عندما كنا نزوره ونغرف من معينه، كان من الواضح احتضانه لفكرة لبنان الوطن النهائي، ولضرورة الحفاظ على جميع مكونات الوطن وتحصين السلم الأهلي وصيانته حماية للوطن. لقد كان يعرض لنا أفكاره ورأيه بالأمور بسلاسة وبساطة الاب المحب الذي لا يقبل ان يفرّط أحد بالوطن.
اهم ما يمكنني ان أقوله عن العلامة الشيخ الجليل، هو انه كان يقرن القول بالفعل، وسيرته الغنية العطرة لعلها الدليل على ذلك، اذ خلال حياته ووجوده بيننا، لم يكن من الوارد عنده ان يكون تباين بين القول والفعل، بل تجانس فكري وسلوكي تام، وهذه، بالنسبة الي، هي قاعدة أساسية يرسيها قائد من قيادات هذه الامة، وهو في المدى الديني، لكي تكون دليل عمل للأجيال، نظرا الى ان حياتنا العامة مرصعة بالنفاق والمحاباة وازدواجية المعايير التي أوصلت جماهيرنا الى خيبات متتالية منذ الاستقلال وحتى اليوم.
ان صلابة الاخلاق في الشأن العام هي قاعدة أساسية في تحصين المجتمع والناس.
في سياق متصل، تميز فكر العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين بالانفتاح والسماحة، وهذا الانفتاح وهذه السماحة كانا أيضا قولا مقرونا بالفعل في فكر ومسرى الامام العلامة، وهو ما برز في مختلف مواقفه المتعلقة بشتى شؤون الوطن، مما جعل أي قول وفعل يصدران عنه مطبوعان بعمق بمنطق الحوار الذي يحياه العلامة كمنطق حياة، وليس كألية مؤقتة تعتمد في فترة معينة وتوضع جانبا عند بلوغ الهدف المنشود منها.
نحن في مجلس كنائس الشرق الأوسط، وانا خريج اللجنة الوطنية الإسلامية المسيحية للحوار، التي كان الامام المحبب الجليل من اركانها، نعتبر ان الحوار هو هدف بحد ذاته، وليس وسيلة، اذ ان الحوار عملية مستمرة تقرب الناس من بعضها البعض، وتفعّل التناضج بين الافراد او الجماعات المكونة للوطن، وهي بذلك تصبح ثقافة وليست آلية او منحى محدود في الزمن. الحوار يعني التفاعل المستمر بين الناس والقبول بالرأي الآخر، مما يعني انتفاء ابلسة او تخوين هذا الآخر ومنع خطاب الكراهية تجاهه.
هذا هو فكر الامام الحكيم، المحب للدين والوطن، واهم ما في فكره ان جذوره موجودة في أساس الدين، رغم تطعيمه بالتجارب التطبيقية من تاريخنا العربي المشترك.
في هذا الاتجاه كان الامام العلامة شمس الدين يفكر ويعظ ويتصرف، وهذا التفكير هو المنطق المثالي الذي يمكن اعتماده دون غيره في إدارة المجتمعات الحديثة، ذات التنوع الشديد، حيث تتعارف الجماعات على بعضها البعض، بعد غربة فرضتها ظروف تاريخية، فينتج عن ذلك اغناء متبادل بين الجماعات المكونة للوطن، كما هي الحال في لبنان، وكما كان ينصح بذلك الامام العلامة لسائر بلاد العرب اوطاني. اليس هو الذي كان يشدد على عدم اجهاض او عرقلة الحوار الذي اعتبره الهدف الأسمى، معتبرا ان عبره تحفظ الكرامة وتؤمن المصالح؟
لذلك يُعتبر الامام البعيد النظر من اركان المصالحة الوطنية والسلم الأهلي والوفاق، انطلاقا من موقعه الديني، وليس بتدبير براغماتي عابر، فبرز كأحد ابطال الوحدة الوطنية في لبنان، مستندا على فكر ديني سمح مستنير، يتجدد ليواكب الزمن وليحاكي قيمة عليا هي العدالة عبر الحوار الذي هو نفسه احد دعائم ثقافته الأساسيين.
انه عن حق لصاحب مدرسة جديدة في فهم الايمان الديني، وكيفية تطبيقه في الواقع الاجتماعي لكل بلد من بلدان الوطن العربي، وقد أظهرت هذه المدرسة فاعليتها وراهنيتها وافضت الى نتائج جيدة على الصعيد اللبناني كما على صعيد العديد من بلاد العُرب، واساسها العدل الذي يحفظ الكرامات ويؤمن المساواة بين أبناء الوطن الواحد.
اما بالنسبة الى التنوع فقد ارتكز الإمام شمس الدين على ان التمايز هو واقع في الاجتماع الانساني ناتج عن تركيبة الكون وعن الحرية التي وهبها الخالق للإنسان. ينتج عن ذلك ان حق الاختلاف هو حق اساسي للإنسان، الذي عليه ان يتحمل مسؤولية الاختلاف والحرية.
في هذا السياق استعاض الإمام العلامة عن مقولة «الانصهار الوطني» بمقولة «الاندماج والمشاركة» و«التنوع» ضمن الوحدة، و«التوافق ضمن التعدد»، وهذه القيم التطبيقية تشكل أساس التعاون الذي يفضي الى التناضج. كل ذلك انطلاقا من عقيدته الدينية التي ارتكز عليها لكي يؤمن الوحدة المجتمعية، باب خلاص المجتمعات الحديثة المتنوعة.
وفي توجه متصل، بلور الامام شمس الدين مفهوم المواطنة معتبرا ان التنوع لا يشكل عبئا على المجتمع ولا الوطن وانهما قادران على احتضان التنوع الديني، وهو هذا التنوع الذي يجعل من الحوار ضرورة مجتمعية، فيصبح منطق الحياة الاجتماعية قائم على الحوار على أساس قبول متبادل بين سائر مكونات المجتمع. ولكن الحوار يعني ان يكون الجميع متساوين في الحوار مع بعضهم البعض، مجتمعيا وتجاه الباري.
على هذا المستوى من المقاربة يأتي دور الموضوعية المستندة الى التفكير الراجح الضامن للعدالة والحق، مما يعني الابتعاد عن الانفعالات التي تنتج الاحكام المسبقة وتاليا ابلسة الآخر، واحترام رأيه ولو كان مخالفا لرأينا وان يكون الجدال بالتي هي أحسن، وصولا الى كلمة سواء، وهذا ما يسهل الوصول الى المصالحة والسلم الأهلي. كل ذلك لا بد ان يجري في إطار من الموضوعية الضامنة للحوار والتفاعل وحتى الانتقاد.
ولا ينسى الإمام شمس الدين البعد الحقوقي في مجتمعات التنوع الديني، فيؤكد على الثوابت الحقوقية للفرد وللجماعة، وهذا حق يشمل جميع الناس، دونما تمييز بين فرد وآخر او بين جماعة وأخرى، وهو بذلك يعطي شرعية للتنوع وهذا امر يعتبر فيه الامام العلامة مؤسسا لطريقة جديدة لم يسبقه إليها غيره من علماء الدين. في نفس السياق، شدد الامام على أهمية الحفاظ على التنوع في ابعاده الدينية والثقافية. يعني ذلك انه بشر بمجتمع يتمتع بحريات متقدمة، حيث تحتفظ كل من المكونات على خصوصياتها مع حقها بتنمية هذه الميزات وتطويرها. اوليس هذا نموذج جريء لمجتمع متقدم متصالح مع ذاته يسير في طريق الفلاح؟
هذا القائد الهادئ الصلب، هذا الامام العلامة الذي نشأ على العلم والفضيلة اللتان تتمتع بهما عائلته، والذي عانى شظف العيش، متمسكا بقناعاته وايمانه، والذي اختار البقاء أولا في العراق، رغم صعوبة الحياة، هذا الذي تتلمذ على ايدي ارفع العلماء والذي أسس المكتبات والمجلات والجامعات ونشر الكتب، هذا الذي تربى على أصول الدين، ها هو يعبد مسالك الانفتاح والحداثة ويطرح على اهل عقيدته الايمانية القيمة، طروحات لمستقبل زاهر، مبني على الاستقرار والتوازن الاجتماعيين بحكم تواجدهم في مجتمعات حديثة، تتميز بالتنوع على شتى الصعد.
ان شراكة الإمام الشيخ محمّد مهدي شمس الدين الإمام السيّد موسى الصدر في تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عام 1969، والتأكيد على دور المجلس في بناء صرح الوحدة الوطنية، الى جانب الامام الحبيب المغيب السيد موسى الصدر، تعطي الدليل القاطع على بعد نظر الامامين لجهة التكامل الوطني الذي يحتاجه لبنان في ظل التحولات الإقليمية والدولية آنذاك. لم يكن لدى هذين القائدين التاريخيين أي لبس حول تموضع المجلس والجماعة المؤمنة الشيعية في الإطار اللبناني الوطني الجامع، في توجه حواري واضح.
وبما ان الشيء بالشيء يذكر، لا بد لي ان أقول ان جيلي، جيل السبعينات في الجامعة، وقد كنا آنذاك في ذروة قلقنا ووعينا السياسيين، منذ اتفاق القاهرة الى حادثة عين الرمانة، كان يعتبر ان السيد موسى الصدر، وكان وقتها واجهة هذا المنحى الفكري، يمثل لنا لبنان الجديد، لبنان الانفتاح والحداثة والعدالة الاجتماعية الذي نريده، نحن جيل التغيير، وقد اُطلق على السيد موسى لقب تيار دو شاردان، رغم قوميتنا وعروبتنا ورفض بعضنا التكني بشخصيات غربية.
مقابل ذلك، لا بد لنا ان نسطر ان الامام العلامة محمد مهدي شمس الدين، كان خلال كل تلك الفترة ينتج فكرا نيرا، في نفس الاتجاه الذي نعرفه عنه، ردا على القلق الفكري والوجودي الذي كان سائدا في تلك الحقبة.
اما عندما استيقظت الفتنة في لبنان، وبدأ البلد يحترق بمن فيه وبما فيه، فقد كان للإمام الوطني الحكيم المواقف التي تتماشي مع رؤيته وقناعاته، بالتزامن طبعا مع الامام المغيب السيد موسى. لقد تصدى للحرب الاهلية بكل ما اوتي من وسائل وقدرات، ولم يدخر وسعا في أي امر يمكن القيام به اكان في جمع الأطراف مع بعضها البعض، او إطلاق جهود الحوار، حتى لو ذلك على حساب أبناء عقيدتهم الذين عانوا تاريخيا من حرمان واهمال فاضحين. موقف تاريخي ليس جديدا على شيعة علي.
بعد تغييب الامام السيد موسى الصدر، وتولي الامام محمد مهدي شمس الدين مهام رئاسة المجلس الشيعي الأعلى، وأصبح هو في واجهة الاحداث، كان عليه ان يتحمل مسؤولية إدارة دفة الأمور منفردا كقائد، رغم وجود معاونين اكفاء يحيطون به.
خلال كل تلك الحقبة، كان موقف الامام شمس الدين واضحا، هو موقف الوحدة والاندماج، في وطن نهائي لجميع ابناءه، وقد أصبح هذا القول من الثوابت الوطنية المعتمدة من الفئات جميعها، رغم خصامها مع بعضها البعض. لبنان الوطن النهائي لجميع ابناءه أضحت جزءا أساسيا من الوصايا التاريخية التي تركها الامام الحكيم لأجيال لبنان الآتية، التي عرفته والتي لم تعرفه. لبنان ليس وطنا محطة بالنسبة الى الامام الوطني، وهو ليس للمساومة أيضا. انه نهائي!
ولكن لبنان هذا ليس وطنا من ضمن رومانسية يستغلها الفاسدون والانتهازيون، بل ان الانتماء له ليس دونه شروط قانونية، أولها الحريات التي تسمح بالتفاعل بين مكوناته، وثانيها الحكم الرشيد العادل والمتوازن، القائم على المؤسسات.
هكذا يكون لبنان الوطن-الرسالة.
في هذا السياق، عمد الامام الحكيم الى سحب كل مقولة لها علاقة بالعددية بين اللبنانيين من التداول، وذلك تفاديا لإثارة قلق بعض الفئات اللبنانية التي تشهد هجرة اوتراجعا عدديا، وهذا ان دل على شيء، فانه يدل على تفضيل الوحدة الوطنية على اية اعتبارات أخرى.
كذلك اعتبر ان الوحدة الوطنية لا يمكن ان تتحقق اذا كانت احدى فئات الوطن مصدر خوف للآخرين، لان ذلك يجعلها عدوة للشعوب كما هو حال بعض الأنظمة اليوم. لقد اعتبر ان شيعة علي لا بد ان يشكلوا همزة وصل بين فئات المجتمع عبر الحوار والتواصل الذي يعطي الآخرين الشعور بالأمان، ويؤمن اندماج الفئات مع بعضها البعض في بوتقة وطنية جامعة ليس فقط للخلافات، بل للتناقضات.
ولفرط الهاجس الوطني وبعد النظر عند الامام الرؤيوي، نراه، عندما تراءى له وقت افول زمنه في هذه الفانية، يزوّد الأجيال التي ولدت والتي لم تولد بعد بوصايا تصلح دليل عمل لمستقبل وطن.
كتاب الوصايا هذا، والذي جرى تفريغ محتواه من تسجيل صوتي للإمام شمس الدين، هو اليوم في طبعته السابعة لشدة ما اقبل عليه القراء ينهلون من معين الفكر الرؤيوي المحب.
وكما ورد في مقدمة الكتاب على قلم ابنه الصديق إبراهيم، فان هذه الوصايا هي بمثابة “علامة فارقة وصوت صارخ منبها في فضاء التشيع السياسي بوجه عام، وفي العالم العربي بشكل خاص، وفي لبنان بشكل أخص.”
في هذا الكتاب-المرجع، يسكب الامام العلامة كل رؤيته وآماله لمستقبل اهل التشيع واللبنانيين والعرب عامة، لان ما ينطبق على لبنان، الذي سماه رسالة، ينطبق على اية منطقة أخرى في العلم، لشدة تنوع المجتمع اللبناني في مساحة ضيقة.
عبر هذه الوصايا، يحث العلامة الجليل اهل الشيعة ان يندمجوا في اقوامهم ومجتمعاتهم واوطانهم، وهو يستعمل تعبير ان “ان يدمجوا انفسهم” مريدا بذلك ان يكون فعل الاندماج فعل ارادي ناتج عنهم، وليس بقدرة خارجة عن ارادتهم، كما ان استعمال الابعاد الثلاثة الاقوام والمجتمع والاوطان، يشير في فكره عن توجه اندماجي تكاملي تام لا لبس فيه.
في نفس السياق، يوصيهم الا ينجروا الى التميز، لان في ذلك شر مطلق، وتبعاته غير محمودة، لا بل يعتبر ان اندماجهم في الاجتماع الوطني العام هو السبيل الوحيد للخروج من التهميش والحرمان الذين عانوا منهما لقرون.
اود التوقف هنا امام تعبير “الاجتماع الوطني العام” الذي يرد تكرارا في وصايا الامام وفي خطبه ومؤلفاته عامة، والذي، ان دل على شيء، فانه يدل على قناعة راسخة لديه بأهمية الاجتماع الإنساني، الاطار الجامع للناس في الوطن، والوسيلة الوحيدة للتكامل والاندماج المجتمعيين. اقل ما يمكن ان نقوله هنا، ان وعي أهمية الاجتماع البشري لدى هذا العلامة ذو الفكر النير، وتفضيله على عصبية الطوائف، تجعل منه رائدا في مجال الوحدة الوطنية والتحصين المجتمعي.
اما عندما يتكلم عن أهلنا اللبنانيين الشيعة، فانه يذكر انه تكونت لديهم شخصية معنوية في الاجتماع اللبناني، أي ان المرجعية تبقى للوطن والمجتمع.
ولان الامام شمس الدين يعي تماما التهميش والحرمان الذين عانى منهما اللبنانيون الشيعة، كما مناطقهم عامة، فقد صنفهما الى حرمان تنموي وحرمان في الحضور الإداري، وما كان انشاء المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الا الايذان ببدء افول هذه الحقبة التي استمرت قرونا والتي فعلت فعلها في الوعي التاريخي الجماعي عند أهلنا من شيعة علي.
اما عندما يأتي الامر الى العرب المسيحيين، فقد شدد سماحته على حرصه التام على ضرورة الحضور المسيحي الفاعل في لبنان وعلى ضرورة تكاملهم مع مجتمعاتهم وشعورهم بالانتماء الكامل والرضى وعدم نمو أي شعور بالإحباط لديهم، او اية مشكلة قد تؤدي الى الحرمان او الخوف.
في سياق متصل، يطرح الامام شمس الدين مشكلة الحضور المسيحي في الشرق، وقد كان من السباقين الى ذلك، وقد ناقشنا هذا الامر أكثر من مرة في اطار اجتماعات اللجنة الوطنية الإسلامية المسيحية للحوار، والمؤتمرات الني شارك فيها أعضاء اللجنة.
لقد شدد، وهو يقارب الرحيل، على ضرورة تأمين كل ما يؤول الى جعل المسيحية المشرقية تستعيد كامل حضورها وقدراتها في الاشتراك في صنع القرار وصياغة مستقبل الامة.
إضافة الى ذلك، فقد تجلت رؤيوية هذا القائد، فيما تجلت، في تشديده على انجاز مشروع “الأمانة العامة للقمة الروحية اللبنانية”، وهي بعد رحيله بربع قرن، لا زالت مشروعا في البال، نتغنى به كلما عقدنا قمة روحية ووجدنا كم هي مفيدة لتقريب الافئدة وتزويد الناس بجرعة من المحبة والالفة الوطنية. حتى اليوم، لا زالت القمم الروحية تعقد عند الضرورة وتحت ضغط الاحداث، بدل ان تكون قد تمأسست وتعقد بشكل دوري كما طالبنا في لجنتنا مرارا وتكرارا.
لن أستفيض اكثر في موضوع فكر العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين لان لا الوقت يسمح ولا الصفحات سوف تتسع لذلك، ونبقى عطشى ان نقرأ المزيد من انتاج هذا القائد الوطني ذو الرؤية البعيدة المدى، الذي استشرف ووصى، لعل هذه الامة تخرج الى رحاب الوحدة والاستقرار، الضروريين لكل تقدم ونماء.
تبقى كتابات الشيخ العلامة شاهدة على فكر نير، من منطلق ديني، استطاع ان يصالح بين ثوابت الايمان ومتطلبات التحديث، كما يبقى دعوة مفتوحة للجميع من اجل مستقبل أفضل.
كلمة رحال
و قدم عميد المعهد العالي للدكتوراه في الاداب والعلوم الانسانية والاجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتور حسين رحال محاضرة حول الفكر الإصلاحي عند الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين قراءة في المنهج، وذلك انطلاقا على حد تعبيره “من كون الفكر الذي قدمه الشيخ الراحل كان فكراً عميقاً وقوياً ولديه تحولات وانتقالات في مراحل التفكير من مرحلة إلى مرحلة، وبالتالي نحتاج إلى نموذج معين لفهم هذه التحولات وهذا الخطاب وليس بمجرد النقد التبسيطي لآراء الشيخ الراحل، معتبراً أن هناك مرحلتين كبيرتين في الحياة الفكرية للشيخ شمس الدين، الأولى هي المرحلة الإجتهادية، والثانية هي المرحلة التجديدية، الأولى حيث كان ناطقاً باسم المؤسسة التي ولد في حضنها وهي المؤسسة الدينية، حيث كان الناطق الشرعي بإسمها والذي يقدم أجوبتها إلى الأمة وإلى الناس، وبعد هذه المرحلة أي في العقد الأخير من حياته المباركة قدم رؤيته الخاصة للأجوبة هذه انطلاقاً من تجربته التاريخية والفكرية، وهذا ما يمكن تسميته بالإبداع التجديدي الذي يتجاوز مسألة الإجتهاد الى التجديد.
من هنا علينا فهم مسألتين قبل مقارنة المرحلة الفكرية للشيخ شمس الدين، أولاً: يجب ملاحظة السياق الإجتماعي والسياسي الذي ظهرت في هذه الأفكار، ثانياً ملاحظة البنية المعرفية للشيخ شمس الدين ومن خلالهما نستطيع أن نفهم الأراء الواردة ونبني نموذج خاص بفهمه.
وإضاف د. رحال:اعتمد الشيخ الراحل على مجموعة من الآليات المعرفية لتقديم رؤيته التجديدية، أبرزها يستند إلى التالي:
أولاً: التمييز بين ما هو تدبيري وما هو تشريعي في النص النبوي ونص الأئمة عليهم السلام،
ثانياً: اللجوء إلى مفهوم منطقة الفراغ التشريعي التي سبق وأطلقها الإمام السيد محمد باقر الصدر رحمه الله،
ثالثاً: العودة إلى الأصول الإجتهادية الأساسية في القرآن والسنة بطريقة منهجية جديدة لا ترتكز فقط إلى نتائج الفقه البشري المنتج خلال العصور الماضية بل تجاوز هذا الفقه لتلبية الحاجات الإجتماعية من خلال فهم جديد للقرآن الكريم والسنة النبوية وفق المبدأ التشريعي وليس التدبيري، بما يؤدي إلى توليد فقه جديد وفكر جديد اسلامي ينطلق من الهوية الإسلامية وليس من خارج الهوية الإسلامية، وبذلك استطاع الشيخ شمس الدين أن يبني شبكة من المفاهيم والمعارف تؤمن الغطاء الفكر له في بنيته التجديدية التي قدمها للفكر والفقه الإسلاميين.
أضاف:ونتج عن استخدام هذه الآليات المعرفية تطور منهجي وثورة منهجية في النظر إلى النص الديني جعلت منه قادراً على معالج التداخل بين ما هو مقدس وما هو بشري إنساني، بحيث تم حصر المقدس في المجال الذي كان موجوداً في عهد النبي (ص) والأئمّة بدل توسعته إلى مجالات دنيوية إنسانية كما حصل في العصور اللاحقة وهي عصور الجمود الفكري والتحجر الفقهي عند المسلمين بسبب الانحطاط الذي حصل خلال ألالف سنة الماضية، من ضمن ذلك نلاحظ أنه أعطى مرونة شديدة للفقيه المسلم في إعادة إنتاج الفقه في مجالاته المختلفة، الفقه السياسي والفقه الاقتصادي والفقه المالي وفقه المرأة، وذلك من خلال إعادة تحديد ما هو ثابت في الفكر الإسلامي وفقه الإسلامي وما هو متغير، نتج عن ذلك تحديد مساحة الثابت بشكل واضح وتوسيع مساحة المتغير الإنساني الذي يخضع للتجربة الإنسانية بشكل كبير جداً، هذا التوسيع سمح بثورة فقهية فكرية جديدة تواكب العصر وتستطيع أن تقدم رؤية معاصرة للإسلام.
ولأن هذه الرؤية المعاصرة للإسلام جاءت من داخل التفكير الديني الإسلامي وإن كانت بوسائل ثورية جديدة فهي جمعت المعاصرة إلى الأصالة، وهذه نقطة بالغة الأهمية إذ أنه بقي فقيهاً مسلماً شيعياً يقدم رؤية إسلامية من داخل الثقافة الإسلامية وليس من خارجها وليس بالاعتماد على الاستشراق أو ما شابه، وهذا أمر بالغ الأهمية له إنعكاساته في مجالات تطبيقية قدمها سماحة الشيخ الكبير عندما قدم تجديداً كبيراً في فقه المرأة من خلال كتابه الأخير مسائل حرجة في فقه المرأة والذي يقدم في مقدمته تأطيراً منهجياً لبحوثه ولطريقته في استنباط الأحكام الشرعية لهذه المجالات، وهو قدم المرأة إمكانيات جديدة من داخل الإسلام في مجالات، المساواة، العلاقة الزوجية، النفقة، غياب الرجل، تطليق الحاكم ومجالات كثيرة في فقه المرأة. و في الفقه الاقتصادي والمالي قدم رؤية جديدة حول تحديد مفهوم الربا، إمكانيات الاستثمار، ما دور الفوائد البنكية،هل هي ربا أم لا، فتح مجالاً كبيراً للنقاش هنا.
وفي مجال الفقه السياسي قدم رؤية جديدة مهمة جداً تُدخل المجال السياسي في نطاق التجربة البشرية، أي في نطاق المتغير الديني وليس الثابت الديني، وهنا أعطى مجال للشورى في مقابل الديمقراطية، والتزم بتقديم مفهوم ولاية الأمة على نفسها، وهذا التحول النوعي جعل المجال السياسي مجالاً دنيوياً أو مدنياً وليس مجالاً مقدساً، ولكنه يخضع للقيم العليا للإسلام وليس للآليات القديمة في التاريخ الإسلامي كنظرية الخلافة، بل بآليات جديدة تحكمها قيم عليا إسلامية، وهذا تطور بالغ الأهمية في الفقه السياسي للإمام شمس الدين.
وتابع رحال:سماحته ربط التجديد الذي قام به بمسألة الهوية الإسلامية، فهو يعتبر أنه لا يمكن لأي عمل تجديدي أن يتناقض مع الصبغة التي هي النواة الصلبة للقيم الإسلامية، الصبغة لا تغير وهي قيمة أساسية ليست في مجال المتغير، وبالتالي هو حافظ على كون كل عمل التجديد تأتي ضمن سقف إسلامي معين، وكذلك في المسألة السياسية اعتبر أن هناك هوية تجمع المسلمين مثلاً الموضوع الفلسطيني جزء من هوية العمل السياسي للمسلمين، ويجب الوقوف إلى جانب الثورة الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني حتى لو أن الأنظمة كان لها ضروراتها فإن للأمة خياراتها ومنها مواجهة التطبيع ومواجهة العدوان والإلتزام بمقاومة ذلك من خيارات هذه الشعوب، وفي لبنان أيضاً كان له دور كبير في إنشاء المقاومة وسمى هذه المقاومة بالمقاومة المدنية الشاملة لكي يجعلها مقاومة تتخطى الجانب العسكري وهي تتضمن الجانب العسكري وتتخطاه إلى مختلف المناحي المدنية والاقتصادية والشعبية، بحيث تكون مقاومة شاملة للعدوان الإسرائيلي تتخطى الجانب العسكري.