بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي*
أغلقت الصناديق وانتهت الانتخابات الإسرائيلية الرابعة، ووضعت الحرب الدعائية أوزارها، وسكتت مكبرات الصوت، وتوقفت الحناجر عن الوعود والتعهدات، وسكنت الأحزاب أوكارها، وعادت إلى مراكزها ومقراتها، فقد مضى وقت الغراس، وحان وقت الجنى والحصاد.
وأعلنت النتائج وظهرت الأرقام، فتبين منها أن الواقع لم يتغير، والجمود لم يتبدل، حيث عادت الأوضاع إلى ما كانت إليه، فالاستغلاق محكم، والاستحكام ضيق، والتموضع شديد، والعجز مسيطر، وقد عاد الخاسرون منكسي الرأس، ورجع المنتصرون خائبين بفوزهم الذي جاء مراً وكأنه الهزيمة، مهيناً وكأنه الرهينة.
الكل في حاجةٍ إلى الكل، والكل يريد أن يستغل الكل، والقوي ضعيف إلا أن ينصره الضعيف، والضعيف قويٌ إذا ناصر القوي، ولكن لكلٍ شروطه التي يراها الآخر تعجيزية، وينظر إليها على أنها انتهازية، ولكنه لا يستغنى عنها ولو كانت مذلة، ولا يفرط فيها ولو أنها كالقيد في الرسغ ثقيلة.
فالأحزاب الصغيرة على صغرها وضآلة حجمها شديدة التأثير، فهي كالقط المربوط إلى الجمل، والجمل بقرش والقطة بألف، والبيع لا يتم إلا معاً، وعلى القوي أن يقبل بالعرض ولا يعارض، وإلا يطرد ويحرم، فالحاجة كبيرة والمنافسون كثير، و”ذو الحاجة دائماً أرعنٌ” يخضع ويقبل، وإلا فإن غيره سيسبقه ويدفع أكثر ويرضى.
بدا نتنياهو كالفأر داخل المصيدة، مذعوراً خائفاً يترقب، يبحث عن شريكٍ ينصره، أو حليفٍ يعاضده، أو مطيةٍ يركبها حتى محطته القادمة، فهو وائتلافه اليميني في حاجةٍ لعشرة أصواتٍ، إذ أن مجموع ما يشكله فريقه بلغ 52 عضوًا في الكنيست.
لذا فقد توجه فور صدور النتائج الأولية للانتخابات صوب زعيم “يمينا” نفتالي بينت، وعرض عليه دعم تحالفه مقابل تعهدٍ واضحٍ له بالاستقالة من رئاسة الحكومة بعد سنةٍ من تشكيل الحكومة، لكن نفتالي بينت رفض عرضه وذكره بتحالفه مع بيني غانتس، وكيف أنه غدر به وخدعه، وتخلى عنه بعد أن استفاد منه وعبر به المرحلة.
مال نتنياهو صوب حزب أمل جديد الذي يرأسه خصمه اللدود جدعون ساعر، لكنه لم يخاطب رئيسه لعلمه أنه لن يستجيب له ولن يقبل به شريكاً، وإن كان بعض العالمين ببواطن الأمور يرون أنه أرسل له بن شبات مبعوثاً من طرفه، لكن المعلن أنه خاطب بعض أعضاء حزبه الذين خرجوا للتو من حزب الليكود، وشكلوا مع ساعر حزبه الجديد، وحاول أن يستميل بعضهم ويحرضهم للعودة إلى صفوف الليكود من جديد، مقابل مناصب مكفولة لهم، والتزاماتٍ يقدمها ويقطعها على نفسه، بألا يتحالف مع القائمة الموحدة، وألا يلتزم تجاه زعيمها منصور عباس بأي التزام.
لكن أعضاء حزب “أمل جديد” وقفوا في وجهه كالسد المنيع، فرفضوا عرضه، وأصروا على موقفهم الداعي إلى رحيله، فهو بالنسبة لهم كاذبٌ يناورُ، ومنافقٌ يتلونُ، يبحث عن مصالحه الشخصية أولاً، ولو أنها تعارضت مع مصالح دولته وشعبه.
أما بيني غانتس الخاسر دوماً المغبون أبداً، الغر الذي استغله نتنياهو وتهكم به واستخدمه، وبَهَّتَ صورته وهمشه، وتسبب في عزلته وأضعفه، فسيستبقيه نتنياهو حتى اللحظة الأخيرة، معتقداً أنه سيقبل بعرضه، وسيتبعه مقابل عظمةٍ جديدةٍ يلقيها إليه، فهو أضعف من أن يصمد، وأكثر ضحالةً من أن يفكر ويخطط، وأشد حاجةً من أن يترفع ويَتَعَزَّزَ ويدعي الكرامة، إلا أن أتباعه الذين ناصروه في ساعة العسرة وأيدوه رغم العثرة، قد قيدوه بالأحكام، وشددوا عليه الشروط والمواثيق، حتى يبقى في معسكر “بديل نتنياهو”، وألا يصدق وعود الأخير الذي غدر به وأحرجه.
إلا أن نتنياهو سيحتفظ بهذه الورقة في جيبه حتى اللحظة الأخيرة، ظناً منه أنه سيربحها، خاصةً إذا وعده بضم حزب القائمة الموحدة “رعام” بزعامة منصور عباس، إذ لا قيمة لغانتس وحده دون القائمة الموحدة، ولا قيمة للأخيرة دون غانتس، فكلاهما معاً يحققان له النصاب المطلوب، ويمكنانه من تجاوز العقبة وضمان الأغلبية البسيطة المؤيدة لحكومته في الكنيست.
لكن الرجلين يدركان أن نتنياهو سينقلب عليهما، ولن يلتزم معهما، بل قد يستفيد منهما في تمرير الحكومة والتمديد لنفسه سنةً إضافية، قبل الدعوة إلى انتخاباتٍ خامسةٍ يستغرق الوصول إليها أكثر من سنةٍ، يبقى خلالها رئيساً للحكومة فترةً إضافيةً.
يتساءل العديد من المراقبين الإسرائيليين والمتابعين لمساعي محاولات نتنياهو الحصول على ترشيح رئيس الكيان له بتشكيل الحكومة، هل سينجح في شق الصفوف وتمزيق الأحزاب واختراق الكتل، واستمالة بعض الذئاب المنفردة، أمثال شاشا بيتون وهي الشخصية الثانية في حزب “الأمل الجديد” بعد ساعر، أو رئيس الحزب الصهيوني الديني بتسلئيل سموتريتش، حيث يبدو أنهما الأقرب إليه رغم عدم ثقتهما به.
بدأت أوراق نتنياهو تنفذ وبطاقاته الرابحة تحرق، ولم يعد ساحراً ناجحاً يخرج أسراب الحمام من أكمامه، وينتقل من فوزٍ إلى آخر، ويكسب كل معاركه ويخرج منها منتصراً، فقد أصبح مفضوحاً في الساحة الحزبية الإسرائيلية، فلا أحد يصدقه، ولا يوجد من يأمنه، والكل يدرك أنه يتطلع لأن يكون رئيساً للحكومة الإسرائيلية لا أكثر، وقد ينجح خصومه هذه المرة في إسقاطه وسحب البساط من تحت قدميه، فلا يعود مرشحاً لتشكيل الحكومة، أو قادراً على تشكيلها.
فهل انتهى مفعول السحر، وانقلب الأتباع على الساحر وكشفوا لعبته، وأصبح من الصعوبة بمكانٍ عليهم أن يصدقوه وهم يرون أن بوائقه كثيرة وأكاذيبه عديدة، وآثار غدره باقية تتمدد وتتجدد، أم أن لعاب الطامعين سيسيل، وبريق المناصب سينتصر، وطبيعة الانتهازيين ستغلب، وسَيُعَوِّمُ السذجُ البلهاءُ الخبيثَ المكارَ؟
*كاتب وباحث فلسطيني- دكتوراة في العلوم السياسية