نبيه بري الذي عرفته :أربعون عاما..قيادة! *
كتب واصف عواضة:
أربعون عاما مضت على تولي نبيه بري قيادة حركة “أمل”،بينها 28 عاما في رئاسة مجلس النواب ،وهي أطول فترة أمضاها رئيس للبرلمان اللبناني في هذا المنصب في تاريخ لبنان.
عرفته أول مرة في العام 1978 ،أي قبل اثنين وأربعين عاما.لكن ما كان قد فات من عمره سمعت عنه الكثير،بما تحمله تلك السنون من طموح الى مجد سياسي استطاع تحقيقه بما لم يسبق لسياسي لبناني ،إلا في ما ندر.
كنت قد بدأت عملي الصحافي في “وكالة أخبار لبنان” لصاحبها والناشر السيد عباس بدر الدين الذي رافق الإمام السيد موسى الصدر الى ليبيا واختفى معه منذ ذلك الحين.وكنت مكلفا يومها بتغطية نشاطات المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وحركة “أمل” بقيادة الإمام الصدر.
في ربيع ذلك العام قرر الإمام الصدر الدعوة الى قمة روحية إسلامية مسيحية ،لتدارس الأوضاع التي نجمت عن الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان ،وعليه كلّف وفدا يضم الشيخ محمد يعقوب والدكتور حسين كنعان والمحامي نبيه بري ،القيام بجولة على القيادات الروحية المسيحية لتوجيه الدعوة اليها الى هذه القمة ،وكلفني السيد عباس مرافقة هذا الوفد لتغطية هذا النشاط للوكالة.يومها عرفت نبيه بري ابن الأربعين عاما الممتلئ شبابا وحيوية، وجاذبية في الشكل والمضمون.وأدّعي أنني يومها تنسمت فيه الطموح السياسي و”نتعة القائد” من خلال تصريح مقتضب للوكالة.
هذا الطموح بدأ باكرا لدى الرجل يوم تولى قيادة الحركة الطلابية وهو طالب في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية في مرحلة الستينات.وقد روى لي صديق مشترك عايش نبيه بري في تلك المرحلة ما يعزز هذه القناعة.
يقول الصديق:عام 1963 كنت في واشنطن أدرس الهندسة المعمارية عندما وفد اليها الشاب نبيه بري في منحة تدريبية على القانون.التقيته في إحدى المناسبات فتعارفنا وتصادقنا لدرجة أنه حمل حقيبة ثيابه ذات يوم وحلّ في مسكني المؤلف من غرفة واحدة مقيما معي لعدة أسابيع.تحادثنا كثيرا ،وتناقشنا أكثر،ما دفعني لسؤاله ذات يوم:”يا نبيه ،إنت جاي تتدرب على القانون ،أو جاي تدرس سياسة؟..واضح أن طموحك للسياسة ليس له حدود”.
يضيف الصديق :يومها أجابني نبيه فورا..”نعم لدي طموح سياسي.وأقول لك من الآن ،إذا تيسر لي ذلك ،فهناك بيتان إقطاعيان في الجنوب سوف أقفلهما الى الأبد..”.
كان هذا الكلام في الستينات ،وبالتحديد قبل 57 عاما.وقد تمكن نبيه بري من تحقيق هذا الطموح ،ربما بأكثر مما اشتهى في تلك الأيام الخوالي.
المهم تعززت علاقتي بالرجل بعد غياب الإمام الصدر.وتحديدا منذ توليه قيادة حركة “أمل”،وعايشت خطواته لحظة بلحظة عن قرب قريب،وكنت ألمس فيه دائما ذلك القائد الذي يلبي طموحات فتح جيلنا عيونه السياسية عليها،خاصة بعد أن أخفقت الحركة الوطنية في تحقيق آمال هذا الجيل.ولتلك المرحلة في بداية الثمانينات ووصول نبيه بري الى قيادة الحركة ،حكاية طويلة رويتها في كتابي “ليس كمثله يوم ” الصادر عام 2015.
على مدى أكثر من عشر سنوات في قيادة الحركة ،كان نبيه بري جريئا جدا في اتخاذ القرارات ،بل كان مغامرا في بعض الأحيان ،متكئا الى عاملين رئيسيين:عامل ذاتي ينبع من ذلك الطموح الذي رسمه لحياته وهو فتى،وعامل مساعد تمثل في حضور قائد سياسي كبير في المنطقة أظهر إعجابه ومحبته لهذا الرجل ،هو الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي احتضن نبيه بري سياسيا وعسكريا واجتماعيا الى الحدود القصوى.وكان بري أول من أطلق على الأسد لقب ” قائد النصرين”.
كانت انتفاضة 6 شباط المولود الطبيعي لتلك المرحلة من حياة نبيه بري وحياة لبنان.فلو لم تكن لكان يجب أن تكون.كانت الظروف الموضوعية مهيأة لمثل هذه الانتفاضة.الاحتلال الإسرائيلي يفرض سيطرته على نصف لبنان عسكريا وسياسيا.المقاومة لهذا الاحتلال تتصاعد شيئا فشيئا لتحرير الأرض .السلطة السياسية الحاكمة في واد آخر بعد توقيعها اتفاق السابع عشر من أيار مع الكيان الصهيوني.الأجهزة الأمنية تمارس حالات القمع والاعتقال ضد الوطنيين والمقاومين .الاعلام الرسمي كان ممنوعا على المقاومة والمقاومين.
رافقنا هذه الانتفاضة لحظة بلحظة ،وكان لنا شرف الانخراط فيها إعلاميا من خلال تلفزيون لبنان الذي تحول على مدى سبع سنوات الى “تلفزيون المقاومة”.وكانت لهذه الانتفاضة الإعلامية مقدمات دفعت الى مثل هذه الخطوة.
في خريف العام 1983 شارك نبيه بري في مؤتمر جنيف للحوار الوطني ،وكان حضوره مميزا الى جانب شريكه وليد جنبلاط ،مدعوما بواحد من شيوخ الوطنية اللبنانية الرئيس عادل عسيران.وكنت ضمن الوفد الإعلامي الرسمي ممثلا تلفزيون لبنان وإذاعة لبنان الى جانب مدير الوكالة الوطنية الزميل رفيق شلالا ورئيس تحرير الأخبار في التلفزيون الزميل الراحل عرفات حجازي.
برز نجم نبيه بري في المؤتمر من خلال مواقفه الصارمة ،وهو ما دفع الرئيس الراحل كميل شمعون الى مصارحته بالقول:”إنك يا نبيه تذكّرني بشبابي”.
ذات ليلة دخلت الى جناحه في فندق “انتركونتينتل جنيف”حيث انعقد المؤتمر ،طالبا مقابلة لتلفزيون لبنان.التفت إلي والدهشة في محياه:”وهل أنت قادر على نشرها في تلفزيون لبنان”؟.
قلت:”نعم .. الهواء مفتوح لكل المؤتمرين بتعليمات من رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل”.
في ختام المقابلة سألته السؤال التقليدي :”هل أنت متفائل بنجاح المؤتمر ،فرد مبتسما وغامزا:”الآن أصبحت متفائلا لأن تلفزيون لبنان سيذيع لي مقابلة خاصة”.
خلال تلك السنوات استطاع نبيه بري أن يجمع بين السلطة والمقاومة.فالجنوب محتل والتحرير هو الهدف الأسمى والتعويل الوحيد هو على المقاومة،لكن الحرمان المدقع الذي يرزح تحته جمهور وبيئة المقاومة كان لا بد من رجال سلطة لانتشاله من هذا الواقع.وكان على نبيه بري يوما ما أن يختار بين هذا وذاك .حاول جاهدا الاحتفاظ بالخيارين ،الا أنه على هامش هذا الواقع نشأت مقاومة جديدة بعيدة عن السلطة فرضت نفسها على الأرض ،تمثلت بحزب الله،وكان من الطبيعي أن ينشأ صدام عنيف بين الطرفين ،الحركة والحزب،وعززت هذا الصدام خيارات الفريقين الإقليمية المختلفة في ذلك الحين،واستمر الصراع حتى توفرت للمقاومة الجديدة قيادة بدأت طلائعها مع السيد عباس الموسوي ،وتعززت بالتفاهم بين الطرفين مع وصول السيد حسن نصر الله ،على قاعدة “أُكلتُ يوم أُكل الثورُ الأبيض”.
بعد العام 1992 أعطى نبيه بري معظم وقته للسلطة ومن دون تجاهل المقاومة ،معزَزا بهذا التفاهم مع حسن نصر الله والحزب.وصل الى رئاسة مجلس النواب على حصان أبيض ،وأدار الشأن النيابي بحنكة لم يسبق لها مثيل في ظروف سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة في تاريخ البلد.ومنذ ذلك الحين شهدت بيئة الثنائي الشيعي استقرارا ضَمِنه القائدان بكل عناية،على الرغم من كل المحاولات التي جرت لضرب هذا التفاهم .
يمكن أن يقال الكثير في نبيه بري ،ويحتاج تاريخه في عامه الثاني والثمانين،ليس الى مقالة في عجالة ،بل الى مجموعة من الكتب والدواوين، للإحاطة بكل ما يدور عنه وفيه،لكن الإنصاف يوجب القول إنه أسهم إسهاما كبيرا في نقل بيئته من حال الى حال،وكانت خلوات مجلس الوزراء في بكفيا المحطة البارزة في رسم السياسات التي حققت هذه النقلة .
يأخذ البعض على نبيه بري الكثير من السلبيات التي تظهر في أدبياتهم العلنية والمستترة ،لكن الكثيرين يحفظون له هذه النقلة النوعية في حياتهم .ولأن الأعمار بيد الله،فليس سرا أن خلافته تأخذ حيزا واسعا من اهتمامات هذه البيئة ،إذ ليس من السهل إختراع نبيه بري آخر بكل ما فيه ،على قياس لبنان.
*كتبت هذه المقالة لمناسبة مرور أربعين عاما على تولي الرئيس نبيه بري قيادة حركة “أمل” في 4 نيسان عام 1980 ،وتنشر بالتزامن مع موقع النشرة.