إغترابثقافةكتاب

“مُغترٍبة في وطنين” ل ليليان قربان عقل: أسئلة القلق وأجوبة الإطمئنان

سعدى الأسعد فخري: لامس الروح بأنبل المشاعر

 

 

حسن علوش – الحوارنيوز – خاص

“كيف يمكنني أن أعيش “غانيتي” بأسس “لبنانية” خصوصاً أنهما حضارتان مختلفتان كثيراً في بنيتهما المجتمعية والثقافية”؟

سؤال طرحته الكاتبة ليليان قربان عقل في مؤلفها الذي جاء كمشروع بحثي في علم الاجتماع وفي المقاربات الثقافية والاجتماعية بين عالمين ومجتمعين وهويتين، وهو ينطوي على ومضات أدبية ومحاولة للإجابة على اسئلة القلق الاغترابي بكثير من العلم ما اتاح للأجوبة أن تأتي بكثير من الإطمئنان.

عمل فيه إجابة غير مباشرة على الكثير من التساؤلات التي يعيشها أي انسان هاجر من عالم إلى آخر ليكتشف أنه في وسط عاصفة من الأسئلة تتعلق بالهوية والوطن والجماعة والأمن الذاتي ولأمن الجماعي.

لامست عقل في كتابها عمل آخر أكثر إتساعاً للأديب الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف الذي عرض لمجموعة أفكار هامة وتستحق النقاش في مؤلفه ” الهويات القاتلة”.

يقول معلوف: لقد غادر الكثيرون وطنهم الأم وكثيرون غيرهم لم يفارقوه قط ولكنهم ما عادوا يتعرفون اليه”.

ويميل معلوف في كتابه الى تسوية بين من يعتبر أن البلد المضيف هو صفحة بيضاء يمكن لكل واحد أن يسطّر عليها ما يحلو له… ومن يراه صفحة مكتوبة ومطبوعة أصلا… ليخلص الى “أن  العقلاء سوف يخطون خطوة نحو التسوية البدهية التي تعتبر أن البلد المضيف ليس صفحة بيضاء ولا صفحة مكتملة، بل صفحة في طور الكتابة”.

الكاتبة عقل تسأل بدورها: هل سأقدر على المحافظة على عناصر هويتي اللبنانية وأنا المغتربة فيها؟

وكيف يمكنني أن أتماهى مع هويتي الغانية وانا المغتربة أبداً”؟

لتجيب في توطئة لعملها: بين الهوية اللبنانية الموروثة والهوية الغانية المكتسبة يتصارع الانتماء إلى اللاإنتماء أو إلى انتماء آخر قد يكون نتيجة تكامل الهويتين في بعدهما الروحي والمادي، هي علاقة تبادلية تفاعلية قد تجمع التناقضات لتحرر الذات من الصورة النمطية التي اعتادت على اكتسابها بحكم التربية والعادات الموروثة”.

تنشر الحوارنيوز مقدمة مؤلف قربان عقل بقلم سعدى الأسعد فخري، سفيرة النوايا الحسنة في غانا، حيث تكتسب المقدمة أهمية إغترابية نظراً لتجربة السفيرة  سعدى الأسعد فخري الاغترابية، بالإضافة الى تجربتها مع وطنها الأم.

المقدمة:

أصابتني شرارةٌ من الحماسة، عندما شرّفتني صديقتي العزيزة ليليان عقل، بتقديم هذا الكتاب الرائع “مغتربة ٌ في وطنين”.

كمغتربة مخضرمة، رذاذ شلال ذكرياتي الواقعية والوجدانية، غسل أفكاري وأعادني بسهولة الى عمر التاسعة عشرة، والسنين الأولى التي عشتها في أكرا.

كانت الأيام تمر ببطء، وتتلاعب بي بين شوق وحنين إلى الأهل والأحباب، وبين فرحتي باستقلاليتي في بيت أنا سيدته، كانت كل شجرة في حديقته الكبيرة تتسمع أنين غربتي واشتياقي إلى أمي وأبي وأخواتي. خطوط الهاتف يومذاك كانت داخلية فقط، كان علينا أن نتصل بالسنترال ونطلب مكالمة ننتظرها أحياناً ساعات طويلة، دقّة السنترال كانت مميزة، وكنت عند سماعها تختلط معها دقات قلبي من الفرح. يبدأ الكلام في كل مرّة، بالشوق والحنين والأخبار السارة “طبعاً” ولكن صوت أمي بلهفتها الحزينة، كان يُنهي المكالمة بدموع كنتُ أذرفها في كل مرّة.

شيئاً فشيئاً تعوّدت على أكرا، أحببتُها بكلّ ما فيها من عادات وتقاليد استمتعتُ بسماعها والتعرّف اليها. أمورٌ كثيرة لم أكن أتوقع أن أجدها هنا في ذلك الزمن البعيد، مثل التعليم الإلزامي والضمان الصحي ما يوفر أجواء من الطمأنينة وراحة العيش فيها.

أذكر عندما دُعينا إلى حفل زواج صديقنا المحامي Nana Akof – Addo  من Rebecca Naa Okaifor  الذي أقيم في إحدى أكبر قاعات جامعة غانا التي تأسست عام 1948، وعرفت باسم University of London  حتى عام 1961، حين تغيّر إلى جامعة   Ghana University  التي استطاعت أن تدمج القديم بالجديد في أقسامها، (الإستعمار والإستقلال معاً) بطريقة مميزة جعلتها من أعرق الجامعات في أفريقيا.

مرت السنون وأصبح Nana  رئيساً لجمهورية غانا في عام 2017 ليُعاد انتخابه في عام 2021، وهو ابن “قاضي للقضاة” الذي انتُخب رئيساً للجمهورية غام 1970.

غانا، كما عرفتها وعرفت شعبها الصديق، متمسّكة بعاداتها وتقاليدها، فخورة بكلّ محطّات تاريخها، عرفت كيف تجتاز مرحلة الاستعمار الإنكليزي بوعي وحكمة، وكيف تتقبّل ما يفيدها من ممارسات المستعمر فتتبناه وتحافظ عليه، وتستبعد وتزيل ما يتناقض مع قيمها وخيارات شعبها. ومن الأمثلة التي لفتتني في هذا الاطار، أنه منذ استقلال غانا عام 1057 لا يزال قضاتها، وخاصة في المحكمة العليا، يرتدون الثوب الأسود ويعتمرون الباروكه البيضاء. معظم البلدان التي كانت مستعمرمثلهم، اعتبرت هذا التقليد وبخاصةٍ الباروكه البيضاء، رمزاً للإستعمار، فاستغنت عنه وألغته. حاول بعض الغانيين المطتالبة بإلغائه، ولكن أكثريتهم وبكلّ قناعة وثقة بالنفس، تمسّكت به وحافظت عليه، لأن لهذا الزيّ رهبة كبيرة داخل قاعة المحكمة وهيبة على المجرمين والخارجين عن القانون.

هكذا قضيت في هذا المكان الجميل أحلى الأوقات مع لبنانيين وغانيين وأجانب من بلاد مختلفة من العالم. قبل أن تسيطر شاشة التلفزيون على حياتنا، ولم يكن يمرّ يوم من دون سهرة تجمعنا، أو عشاء يتشعّب الحديث خلاله ويطول، وكأنه فرصةٌ لنسيان همّ العمل ومشاكل الحياة. ومع مرور الوقت، تأكّدت لي صحة ما كان يقال: “أجمل ما في الغربة أنّها تجعل من الغرباء أصدقاء، ومن الأصدقاء إخوة”.

أما عندما كنّا نجتمع، نحن معشر اللبنانيين، سواء أكنا أصدقاء أم مجرد معارف، لنتسامر بلغةٍ واحدة عن وجع واحد وذكريات بلد واحد، ونتداول القصص والأخبار عن الأهل والوطن، كنا نغوص بسياسته وتاريخه منذ أيام الحرب الأهلية اللبنانية والظروف الأليمة التي كان يمرّ بها. كنا نتشارك الآراء بنفحةٍ واحدة، وبمحبة وأملٍ بالفرح القريب، وبعودة لبنان كما كان، بلد السحر والجمال، بلد الأمن والأمان، بلد الخيرات والسعادة للجميع.

اللبناني في غانا، كان دائماً العنصر الفاعل في اقتصادها وازدهارها، والجالية اللبنانية كانت وما تزال ناشطة في التجارة والصناعة وفي مختلف الحقول العمرانية والثقافية بنجاح متواصل، ولذلك عيّن رئيس الجمهورية لبنانياً كمستشار له للمرة الأولى في غانا. كان هذا أيام الرئيس John Kufuor  الذي انتُخِبَ في 2001 واختار زوجي سعيد فخري مستشاراً اقتصادياً له عام 2002 وحتى انتهاء ولايته في عام 2009.

لقد كتبت ليليان عقل كتابها “مغتربة في وطنين” بإسلوبٍ وجداني رفيع معبرةً بإحساس مرهف عمّا يعيشه المغترب اللبناني، عازفة على إيقاع الحنين والعواطف تجاذبات عابرة للقارات. لقد استمتعتُ بقراءة مخطوط هذا الكتاب الذي يعكس تجربة أمرأة لبنانية في الإغتراب الأفريقي، ويظهر تعلّقها الكبير بوطنها الأم، وبالوطن الثاني غانا. حوّلت الاختلافات بين لبنان وغانا إلى غنىً ثقافي، عشته أنا أيضاً بطريقة مختلفة عندما تعرفت خلال إقامتي في غانا، من خلال زوجة السفير الياباني، على الإيكابانا “فن تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية”. هذا الفن الذي تعلّقتُ وتعمّقتُ به حتى أتقنته تماماً لأتوج تجربتي هذه في عام 2004 بإصدار كتابي “إيكابانا الفنّ الياباني لتنسيق الزهور”، ليكون أول كتاب من نوعه باللغة العربية.

كتاب ليليان عقل “مغتربة في وطنين” يعكس تجربة كلّ مغترب استمد من شوقه إلى وطنه طاقة تحدّي بها ظروفه فأبدع…

حبكت ليليان أحرفها  بمشاعر صادقة، جعلت من كتابا مرآةً لواقع اغترابي عبّرت من خلاله عن شريحة كبيرة من اللبنانيين في الاغتراب الأفريقي بقالبٍ عاطفي مميّز يعكس صفاء التجربة وغناها.

أتوقع النجاح لهذا الكتاب بوجدانته التي لامست الروح بأنبل المشاعر وأرقاها..

سعدى الأسعد فخري

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى