بقلم محمد صادق الحسيني
مثلما انبثقت معادلة الحكم في كل من تركيا وايران بشكلها الحداثي من خاصرة الحرب العالمية الاولى على قاعدة حكم العسكر، باعتباره عامود الدولة ،كما جسدها كمال اتاتورك في الاولى ورضا خان في الثانية ، فإن باكستان الدولة الجديدة الولادة كما نعرفها الآن هي الاخرى انبثقت معادلة الحكم فيها من خاصرة الحرب العالمية الثانية ،على قاعدة ان العسكر هم عامود الخيمة في الدولة ، وان كان سياق الولادة في الباكستان قد نشأ في سياق مختلف، الا ان القاسم المشترك بين انظمة الحكم الحداثوية الشرقية الآنفة الذكر ، هو ظهور العسكر بمثابة عامود الخيمة في النظام السياسي، ولا يستقيم امر استقراره إلا به ، ولن يتغير الا بتغيره .
وبعيدا عن الدخول في اشكالية استقلال باكستان “الاسلامية” بقيادة مؤسسها محمد علي جناح ،وهو امر مقدر ومحترم في وجدان الرأي العام الباكستاني والاسلامي ، الا ان ما يهمنا التوقف عنده هنا ، هو امر اخر تماما ،الا وهو نشوء نخبة باكستانية “مدنية” متعلمة ، واكبت حقبة الاستقلال وحكم العسكر ،محمّلة بنسبة عالية من مفاهيم التعايش السلمي مع ثقافة الغرب ونوع من الود والعطف تجاه نواياه المعلنة بخصوص حق تقرير المصير للشعوب وما شابه من مقولات سميت باختصار بالديمقراطية…!
عمران خان هو واحد من هذا الجنس الاصلاحي الهادئ واللطيف الذي نشأ في حضن هذه التركيبة..!
قبله كان مُحمد مُصدّق ايران ، الذي صدّق هو الاخر ثقافة الغرب الديمقراطية ووثق بها، واراد بدافع حب الوطن، التخلص بمحبة ووداد، من هيمنة بريطانيا العظمى ومن سلطة شركة النفط البريطانية، وتأميم النفط الايراني متجرأً على حكم الشاه ومعادلة العسكر، مستعيناً بصدق نوايا واشنطن “الاصلاحية” ، التي سرعان ما كذبت عفويته السياسية هذه وعاجلته بانقلاب عسكري اعاد تلميذها النجيب الى الحكم، اي الشاه محمد رضا بهلوي، وهيمنة الاستعمار الغربي على كل مقدرات ايران بقوة اكبر وقسوة اشد .
هذا هو ما حصل بالضبط لعمران خان المثقف الإصلاحي في اليومين الماضيين، عندما ظن ان بامكانه التخلص “بمحبة” وبديمقراطية “عذرية”من عصابة المتشددين الوهابيين المرتبطين بسفارات البترودولار واميركا الشيطان الاكبر ، مستعيناً باميركا ” الديمقراطية” و “الودودة “، التي سرعان ما كذبته وتركته طريداً شريداً يئن من خذلان من سماهم بمؤسسات الدولة له، الذين هم ليسوا سوى نفس المعادلة التي اتت به للسلطة..!
فقد ظن عمران خان في لحظة وعي ويقظة استثنائية وظروف اقليمية ودولية تحولية متسارعة، ان بامكانه تغيير شكل وبنية- النظام السياسي الحاكم في الباكستان منذ نشوء الدولة- ، بكل هدوء ولطف و”مودة” المثقف الاصلاحي لتحقيق حلمه الوردي..!
هو لم ينتبه في الواقع الى ان عمله هذا يعني في ما يعني تأميم القنبلة “الاسلامية”، كما قام مصدّق بتاميم النفط في خمسينات القرن الماضي ..!وهذا امر مستحيل دون الصدام مع عامود خيمة النظام اي الجيش ، ودون ممارسة اي عنف ثوري ودون اراقة دماء ..!أي اجراء عملية ولادة قيصرية لباكستان ، لا هو يملك ادواتها الليزرية ولا يريد استخدام ادوات جراحية فيها ،مستندا الى مواكبة اللحظة الاقليمية والدولية المتحولة غير المكتملة وغير الناضجة داخل مجتمعه اصلاً…!
وكما احبط مصدّق ايران من قبله ، احبط عمران خان أيضا، لفقدانهما ادوات التغيير وكذلك منهجيته…! فالعالم المتحكم بموقع ودور باكستان الخارجي اليوم، ورغم كل التحولات العالمية الايجابية المحيطة، ما زال عالم الذئاب في باكستان نفسها أيضا، يبدو ان معدل موازين القوى الداخلية لا تسمح بعد باحلام امثال عمران خان من دون ثورة حقيقية وجذرية..!
فالذين وقفوا ويقفون بوجه حلم عمران خان هم الجيش وصنيعته “طالبان باكستان” والاوليغارشية السياسية المرتبطة بالسفارات الوهابية والغربية ،وفي مقدمها السفارة الاميركية والمخابرات الاميركية السي اي ايه، والتي ما تزال هي من تمتلك مفتاح او “كود” او زر القنبلة الباكستانية “الاسلامية” التي سمح لها اصلا لتكون صنواً للقنبلة الهندية وليس اكثر ..!
الا يتذكر عمران خان كيف تم وأد طموحات ذو الفقار علي بوتو في سبعينيات القرن الماضي ايضا، وكيف تمت محاكمته واعدامه..!؟
نعم ما حصل في اليومين الماضيين يمكن اعتباره محطة نوعية مهمة في سياق مسار التحول والتغيير في باكستان ، ونحن نشاهد لاول مرة غضب الشارع الباكستاني المسلم ، ونزعته الاستقلالية والتحررية، بل وحتى الثورية المطالبة بطرد النفوذ الغربي ، وقد انتقلت من الشارع الى صالونات الطبقة الحاكمة متمثلة بتململ عمران خان وغضبه …!
لكن منسوب التحول والتغيير المجتمعي العام لم يصبح بعد كافياً على ما يبدو بعد لتأميم القنبلة “الاسلامية”…!
القضية بحاجة ربما الى “شمرة عصا” اضافية ، كما يقول المثل ، بل خطوة احتجاجية جذرية “خمينية” من جنس الباكستان، تطيح بالعفن والتأكسد المتراكم فوق صدور شعب محمد علي جناح منذ الحرب العالمية الثانية…!
خصوم عمران خان بالمقابل لن يتمكنوا بعد اليوم من اقفال الباب على التغيير القادم بقوة على الباكستان…!
لعله لابد لعمران خان الانتظار قليلا ليرى ونرى سوياً مخاض اوكرانيا، وحرب بوتين المفتوحة على امبراطورية الكذب..!
اخيرا وليس آخرا فان طريق الحرير الجديد الذي يريد الباكستانيون ان ينعموا به من بوابة الصين ، صار حديدياً ، وبالتالي صار لابد لكل من يريد ان يساهم فيه ، ان يكون صاحب قبضة فولاذية..!
“لسنا عبيدا عندكم..”
خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها ليست كافية.
حتى تمسك زر التغيير وتصبح “قائدأ اعظم” جديدأ ،لابد ان تغزوهم قبل ان يغزوك،لانهم يعدون لك الاسوأ.
خذ العبرة ممن سبقوك،فلا مكان للموقف الرمادي في القضايا الكبرى.
اللحظة “خمينية ” يا عمران خان بكل امتياز..!
وإلا ذهبت تحت اقدام الفيلة..!