منوعات

ما بين الحديقة الإيطالوـ لبنانية والحديقة الفارسية: زهور وكيك مفضل!(هدى سويد)

 

هدى سويد ـ إيطاليا

في كل مرة أفكر فيها بتغيير المكان والإنتقال إلى رقعة على قياسي أغير الفكرة مع حلول الربيع، وإن كنت في فصل الشتاء أنصهر بذاتي كما لا أنصهر في أي فصل آخر، بعدما يعمّ السكون إثر مغادرة جيراني ، زاحفين بطوابير سياراتهم نحو ميلانو أو مدنهم العملاقة ، تاركين في الفضاء أصوات مناداتهم وعجقة تحضير أمتعة عودتهم لمساكنهم الشتوية هناك.

ألتقي بذاتي التي تشعبت وتفرّعت في فصل الصيف ، والتي لا تدري أين تلقي بجسدها بحرا أو جبلا وتلة في معمعة الهيصة الصيفية.

ألتقي بذاتي في الشتاء القارس، أتكوم ما بين حناياها في البرد فأدفأ ، يحرضني المطر وإيقاعاته عند ملامسته للقرميد، الريح بمباغتته لأوراق الشجر، هدأة المكان ، حرارة البيت ، تحرضني جميعها إلى التأمل وإلى حنيني للكتابة فأنشغل فيها توقا ، أو أشرع الجسد خارجها ماضية تحت زخات المطر، يؤسفني في أحايين كثيرة اعتماد قبعة وارتداء معطف واق أو ضد الماء، كما يُقال، فلا أشعر بالتبلل الكلي ،أمشي ما بين سماء وأرض تتوزعان في غيم ونقرات ماء أسمعها تحت خطوات قدميّ .

في كل مرّة أفكر فيها بتغيير المكان الذي أسكنه، أجدني أتراجع عندما تزورني مارا لحظة انبهارها بالألوان مرددة :”دوفي فاي ؟ *” تعني بذلك مشيرة بيدها ” إلى أين تودين الذهاب تاركة كل هذا الجمال “.

 يتحول السكون وغرابته إلى وطأة لحركة حياة مختلفة ، بمجيء أو زيارة لمن أكن مودة ومحبة ، كزيارة لباولا وباربارة ، مارا وماري وكريستينا ، نجتمع نسوة، إثنتين أو أكثر، نتشارك المعرفة نقرأ ما نسينا قراءته في حياتنا ، نسرد حكاية ، خبرا ، تجربة ، رحلة أو سفرا في البال ، أحداثا أو مسرحية وفيلما رأيناه ، كما نتطرق مثلا إلى ثقافة الأنثى ، ثوب أو بلوزة اقتنيناها ، كريم يعيد للوجه نضارة بغياب سن النضارة ، لليدين أو الشعر قليلا من النبض.

أود القول أنني وإن كنت أسعى مفتشة ما بين الحين والآخر عن مكان انقلابي، أجدني أتراجع دوما بتذبذب لم أعهده، أتراجع تحديدا كلّما قدم الربيع أيضا ، فللربيع طاقة مختلفة ومعنى لثورة وولادة عطاء قيّمة لا يمكن تجاهلها، وللحق أود الإعتراف أنني فتشت قبيل اقتحام الربيع لي دون إنذار، فتشت عساني ألتقي بما أبحث عنه : شقة ، فلنقل غرفة صغيرة للكتابة وحسب بحثا عن عيش كشتلة لا يحوجها سوى قليل من ماء وضوء ، مُغادرة كليّا دون رجعة مكانا أنا فيه أشبه بنقطة في بحر!

 

***

صبيحة ذاك اليوم ، فتحت الشبابيك ، فتحت الباب ، فدخل عبق وعطر الربيع منتشرا في مساماتي كما لم يتسرب من قبل ، تسربت ألوان الأشجار والزهور لعينيّ ولرئتيي  لوحة يصعب على فنان رسمها ، انسجام وتواصل وتزاوج الأحمر بالأبيض، الزهري بالأصفر البنفسجي بالبرتقالي، إلى الأخضر فأخضر..

من شجرة الأرز التي وصلت صغيرة إلى هنا وكبرت ، إلى الكاميليا، البيونيا،الورد، الياسمين،الكليفيا، الإيريس والكليماتيس ، شجرة التفاح ، العنب والكيوي ، الرمان والحمضيات، النعناع والمردكوش والصعتر، القرنفل ، وشتلات شتّى اقتنيتها وتنسى ذاكرتي أسماءها دوما.

صبيحة ذلك اليوم لا أدري لماذا خطر على البال أغنية فيروز “صباح ومسا..لشوعم دوّرع غيرو”، التي تصلح لكل الحالات ومشاعرها، طالما المشاعر تتعلق بالتغيير، وإن كان الحبيب هو المسألة الجوهرية في الأغنية ، لكن الحب فيها يصلح أيضا للحديقة والبيت بهذا المعنى ..لذا رددت الأغنية مقتنعة بعدم التفتيش أو اقتلاع الذات من جذور الحديقة والبيت ساعية للاعتياد على مكان لا يزوره ربيع أو شتاء، أو تسأم الكتابة من أركانه ، مكان لا عتب فيه ، لا تعتب عليّ فيه حديقة أو شجرة.

***

تذكرني الأشجارالشاهقة بارتفاعها في الحديقة كشجرتي المانوليا والصنوبر  بقصيدة سقوط المطر لمحمود درويش “كنا صغيرين والأشجار عالية”، وتذكرني الزهور بأسماء أحبها ، لذا لا تعد الزهور في الحديقة  تحمل أسماءها (كما فعلت وكتبت يوما ) نستبدلها  بأسماء من نحب :

 ” الحديقة في البيت لا تعد جزءا من الطبيعة أو جزءا من طبيعتك،

بل تصبح جزء من ذكرياتك وحنينك،

تتضاءل المسافة عندما تزرع ما يذكّرك بمن تحب،

تغيّر الاشجار والازهار اسماءها ، فيصبح اسم شجرة الكاميليا والغاردينيا اسم شقيق لك أو صديق ، البنفسج ،الفل والورد باسم شقيقات أو صديقات لك أو حبيب .

تترك الغاردينيا أنيقة بقامتها ، والياسمين يمتد في حديقتك حنونا لأنه يذكرك بأمك ..

والوردة تتألق فريدة بحضورها تحاكي رفيق سنيني التي مضت ومضى معها، كان يحب الورد ، يختار واحدة طويلة بفرعها ،  يرخيها دون جلبة على مقربة مختصرا الكلام، تفاجئني عندما ألقاها فأختار ما يليق بها فيما بعد من ماء أو وعاء  .

  بينما أبي كان يهوى الزهور بلا عطر قائلا: العطر فيها.

لذا مع  ربيع كل عام ، ينفذ من تربة الحديقة ، يزورني بلا موعد على شكل إيريس.. لعلّه كان يحب فان غوغ !”.

***

 

ذكرتني حديقتي صبيحة ذاك اليوم بقدوم الربيع ،عرفت بقدومه هكذا تلقائيا من ولادة الألوان دون أن أطّلع على تقويم الفصول .

ذكّرتني الحديقة بفيلم شاهدته بشغف، حمل في إيطاليا عنوان ” حديقتي الفارسية” بينما عنوانه الأصل هو “كيكي المفضل”، وهنا بالطبع لا أتحدث عن أي مقاربة ولا عن مقاربة بين حديقتي الإيطالو- اللبنانية والفارسية وما تضمنته الأخيرة من رسائل .

فيلم لطيف دقيق وأنيق بالمشاعر التي يتم بثّها بحساسية مرهفة ، أحاسيس صغيرة وإيماءات بسيطة للحرية بإضاءة عرضية تتجنب المباشرية الفظّة لتناقضات المجتمع.  جميل عميق ذو طعم مرير، يطرح قصة إنسانية مشتركة تتناول بتفاصيلها عزلتين تلتقيان كان بإمكانهما الإتحاد بسعادة .

يُلقي الفيلم  الضوء على أرملين مسنين يعيشان روتينا وجمودا في حياتهما ، قررا بالتوافق هكذا دون تخطيط ، القيام بتجربة تتمثل بخطوة قضاء سهرة وليلة معا ، ليلة بريئة بالطبع للتخفيف من وحدتهما.

ببساطة إثر غداء مع صديقاتها ، دفعتها إحداهن لتغيير نمط حياتها والتغلب على وحدتها عبر البحث عن صحبة لرجل ما ، وهي التي سئمت من الوحدة ، تعيش بمفردها في بيتها في طهران منذ ثلاثين عاما بعد وفاة زوجها ، دون عمل أو نشاط معين ،  تمضي يومها ما بين الإستيقاظ من النوم عند الظهيرة ، الأكل بلا شهية ، ري الحديقة التي لا تستخدمها ، الخروج من البيت للتسوق أو لمهمة نادرة ، مهملة مظهرها الخارجي وبملابس تكاد أن تكون المنزلية المعتادة نفسها ، قررت ماهين السبعينية ( ليلي فرحادبور) البحث هذا وكسر وحدتها وكان الحل سائق التاكسي المسن فارامارز  (أسماعيل مهرابي) ثمرة البحث ، جندي سابق قدر له أيضا أن يبقى وحيدا ، جلب انتباهها في مطعم ، فتدعوه بلطف إلى منزلها لقضاء أمسية معا في بيتها ، يتم اللقاء لكن المتوقع يتحول إلى شيء لا ينتسى  بالنسبة لهما أولا ولها ثانيا ، حيث يمضي الإثنان معا ليلة عادية أقرب للصداقة لكنها ممنوعة مبدئيا لأنها غير شرعية حسب القوانين ، لقاء الحاجة للتجديد ، يتعشيان سويا يحاول فارامارز إصلاح الضوء في الحديقة المسوّرة ( لحجب رؤية الآخرين ) ويعدها بإهدائها وزرع شتلات وزهور، إنه السعي لإحياء النبض في حديقة منسية وفي ماهين أيضا التي نجدها تنبض بوجود شخص إلى جانبها ، تسعى إلى تغيير ملابسها أكثر من مرة ، خلال لقاء الساعات القليلة ، ملابس نستها في الخزانة  مع مر السنين بتحولها أرملة ، تلتقط صورة لهما بهاتفها الخليوي بكل براءة كما يفعل الآخرون الشباب تحديدا ، أو كي تحتفظ بصورة لإنسان دخل حياتها يذكرها أنها ليست وحيدة ، تعلقها فوق أحد جدران البيت .

ليلة مشبعة بالأحداث اليومية العادية للقاء عزلتين ، تخللها تسامر، ضحك وسعادة كمن يصنع بداية لعلاقة ، إلاّ أنها تنتهي بمأساة وموت السائق بينما كانت تحضر ماهين الكيك المحببة لها ، دون تمكن السائق من تذوقها فتضطر إلى دفنه في حديقة البيت !

لم تختر المخرجة البطلة امرأة سبعينية جميلة ولا كذلك بالنسبة للبطل كي يقوما  بالدور هذا، اختارت شخصين طبيعيين عاديين لآداء دورا طبيعيا لعلاقة عادية.

حديقتي لا عتمة فيها ، الضوء واللون يعم أرجاءها مفتوحة على الحرية الهواء ، النسمة والرياح ، لكن بعد رؤيتي للفيلم أشعر أني كلما تنقلت فيها ألمح ماهين وفارامارز يركضان فرحين ، يعقدان العزم على قضاء أيام أخرى معا.

 

** فيلم حديقتي الفارسية أو “كيكي المحبوبة أو المفضلة ” (أنظر الأصل في الأسفل*1) للمخرجة مريم مقدم وبهتاش سنائيها (*2) .

ـ انتاج إيراني فرنسي الماني سويدي. تم انجاز عدد من المشاهد في إيران .

ـ تم عرض الفيلم وحاز على جائزة في المهرجان الدوالي للسينما في برلين 2024

1* Keyke Mahboobe Man

*2Maryam Moghaddam e Behtash Sanaeeha

Dové vai ?*

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى