من ينزع المسامير من سفينة نوح؟
الدكتور نسيم الخوري
كانت البشرية بالأمس، لاهيةً بكنوز الأرض تتمايل بحروبها ذات اليمين وذات اليسار، وكأنّها الجسر الهشّ الذي لن يوصلنا إلى سماء حيث، وكانت الألف سنة مثل الأمس الذي عبر في عيني الربّ باسطاً الأرض والمحيطات وقبّة السماء معلّقاً فيها قناديل الشمس والقمر والمجرّات والنجوم في أسبوع ويرتاح. ويداهم البشرية المحجورة اليوم فوق الأرض تيجان الموت إختناقاً المسمّى كورونا. صار كل واحد وحيداً مصاباً ربّما لا يقربون منه ولا يقرعون بابه ولا يلمسونه ولا يقبّلونه ولا يمسدون جبهته، بل يتركونه كجرثومةً معزولة بإنتظار الموت وحيداً. تصوّروا: العين التي تستيقظ بعد الحواس الأربع الأخرى تشبه البويضة الإلهية الصغيرة التي تستوعب الدنيا فلا تنكسر حتّى عند الموت تبقى مشرّعةً حتى يأتي من يضمّ الرمشين، لكنها لن تر الجرثومة ولا تدركها.
وحّدت الكورونا الدنيا حروباً على التيجان الخفيّة التي لا ترى أو تلمس أو تلتقط أو تقتل بالرصاص والقذائف ولا حتّى بالقنابل النووية التي كاد أن يفقد زعماء العالم مفاتيحها مؤخّراً. إن أقصى ما يمكن فعله الآن، حجر هذا الجسد الصغير المؤقّت بين يديك في الزوايا، والتفكير بالنطفة الأولى لولادتك وولادة هذه الدنيا. يمكنك أيضاً، وأنت تعقّم محيطك التفكير بملامح البشرية المرعبة التي تقودك إلى عبسة قايين الأولى في وجه شقيقه هابيل وقتله بحجر. ألم تكبر تلك العبسة حقداً لتتحوّل قنابل نووية ماحقة للكائنات البشر والجراثيم سواء؟
نجد أنفسنا اليوم وكأنّه الأمس، في أرض آدم وحواء بعدما خلعت البشرية قشرتها وهرولت سريعاً نحو الكائنات أو الحشرات التي جايلتها والتي يعيّرها الإنسان بالوحشيّة بينما تقول غرائزها بأنّها غنيّة بالرحمة والرفق عند الإفتراس. وعليه، منذ سقوط آدم في الحفرة الأولى لاحساً شفتيه بمذاق التفاحة الأولى، ومعايناً زرقة خصره من الكدمات التي قذفت به من الجنّة إلى مراكمة تيجان العظمة في الأرض التي تجاوزت أعداد الجراثيم في الأرض، قصص يمكن أن تصفها أو يخزّها التاريخ، لكنك عاجز عن قطر محيطات الدموع التي دوّنت فصول المعذبين في الأرض. لو لم تنفخ حوّاء في أذن آدم ذات صباح، لبقي في الحفرة الأولى. ليتها لم تفعلها لكانت وفّرت هول الركام في الأرض.
يمكنني القفز خلف آدم بعدما أخرجته حوّاء من الحفرة فألهته وأنسته الماضي، لأرى البشرية الممعنة في إجرامها وخوفها الداهم. من ينفخ بأذن آدم المعاصر أو يقرع باب جنونه وتطاوله ويعيده للحفرة غير كورونا؟ ليس هناك من يطرق بابك سوى تلك الجرثومة صاحبة التاج الخفي القابضة على الأعناق.
بالأمس أيضاً، طفا نوح بسفينته فوق المياه التي غمرت الأرض جامعاً فيها الكائنات أزواجاً أزواجا، لكنّ رجلاً صعد مع زوجته الى سفينته كبذرةٍ للبشرية، وإذ أصابه الضجر والشيطان، راح يزيل المسامير من خشب السفينة المشدود فلم يحدث أضراراً كبيرة، وفي لحظةٍ ما أضاعه نوح ليكشف مدى آذاه وتخريبه فأودعه في حجرة صغيرة. ولو أكمل هذا تخريبه بنزع المسامير لكانت السفينة فقدت توازنها وسقط خشبها وغرقت الكائنات في المياه أطعمةً للحيتان وحيوانات المحيطات. يستمرّ العقل البشري منذ إنتباهة نوح في نسف موازين الطبيعة من أساسها، ويحصل الإختلال الرهيب في الهندسة الكونيّة وكأنّها الوعورة المتفجّرة بأوهام الذكاء التي تجرّنا نحو اللحظة الأولى.
بالأمس أيضاً، تبلبلت الألسن البشرية من بابل في العراق، عندما رفع الناس حضارتهم هناك سلّماً من حجارة وصعدوا فوقه نحو السماء فسقط واندثروا وتبلبلت الألسن في الرض. نحن، اليوم، في هذا الضجيج الكوني الكوروني، وكأننا في تبلبل البشرية لمرّةٍ ثانيةً يختلط فيها العلم والسحر وقيم الأديان والأرقام والحسابات والتوقعات والتنجيم والتنظير والأساطير والإستخفاف والتنكيت والمزاح والإجتهادات المشدودة وكلّها تصبّ في مجاري الألسنة والشاشات والثقافات الصفراء الباهتة التي تفوح منها روائح الإختلاط بين التغلب على النهايات واستلهام البدايات.
تبدو التجربة البشرية مثل فقاعات الريق فوق شفاه الأطفال وهي أقلّ من حكايةٍ بسيطة تافهة، وتعلن الطبيعة بأنّها ليست هشّة لكنّنا نحن كذلك، ومن منّا تسكنه فكرة القيامة يمكنه التأمّل بتجدّد الأرض وتنقية المياه والبحار والفضاء من التلوّث كي تصبح نظيفة كما الربيع الطبيعي.
لعلّ البشرية كانت تحتاج إلى كارثةٍ ليست كبيرة ولا صغيرة أكثر ممّا ينبغي، فالكوارث ببشاعتها تركّز الأذهان بشكلٍ رائع مع أنّ تلك البشرية عرفت حتّى الآن في تاريخها بعض الكوارث، لكنها لم تدمغ جموح البشر كفايةً ولم تستطع أن تقنعهم بأنّ الإنسان ليس هو السيّد الأقصى لهذا الكون إلاَ بإنسانه، ولا بدّ له من معرفة حدوده أنّه باقٍ دون الحشرة.