سياسةمحليات لبنانية

من فيلتمان إلى عيسى: المطلوب “أمركة” لبنان بالكامل (أكرم بزي)

 

كتب أكرم بزي – الحوارنيوز

لم تتعامل الولايات المتحدة مع لبنان، منذ نهاية الحرب الأهلية، بوصفه دولة ذات سيادة مكتملة الأركان، بل كمساحة نفوذ قابلة للإدارة والتطويع وإعادة التشكيل وفق أولوياتها الإقليمية.

فمن السفير جيفري فيلتمان، مرورا بديفيد هيل وباربرا ليف (مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى الأسبق)، والسفيرة ليزا جونسون وصولا اليوم إلى السفير ميشال عيسى، يتبدّى مسار أميركي واحد ثابت في جوهره: تتغيّر الوجوه والأدوات، لكن يبقى الهدف المركزي نفسه، وهو إخضاع القرار اللبناني لمنظومة ضغوط سياسية واقتصادية وأمنية تُفرغ الدولة من استقلالها، وتُضعف عناصر قوتها الداخلية، وفي مقدمها المقاومة، وتربط مستقبل البلاد بشروط الخارج.

في المراحل السابقة، اعتمدت واشنطن أدوات مباشرة وفجّة نسبيا: ضغوط سياسية علنية، عقوبات مالية تطال أفرادا ومؤسسات، ابتزاز عبر المساعدات المشروطة، وتهديد دائم بعزل لبنان أو دفعه نحو تصنيفه “دولة فاشلة”. غير أن هذا الأسلوب، رغم قسوته، اصطدم بحدود الواقع اللبناني وتركيبته السياسية والاجتماعية المعقدة، ما دفع الإدارة الأميركية إلى الانتقال نحو مرحلة أكثر تطورا وخطورة.

اليوم، نحن أمام نموذج جديد من السيطرة، يقوم على النفاذ الهادئ والعميق إلى داخل بنية الدولة نفسها، لا من خارجها. تُستبدل أدوات الضغط الخشنة بخطاب “الإصلاح” و“التحديث” و“إعادة الإعمار”، التي تُستخدم كعناوين جذّابة لتمرير تدخلات بنيوية طويلة الأمد، تُعيد صياغة آليات القرار من الداخل، وتحوّل المؤسسات الرسمية إلى أدوات تنفيذ لسياسات تُحدَّد خارج الحدود.

يتجلّى هذا المسار بوضوح في قطاعات شديدة الحساسية، مثل التربية والقضاء والاتصالات والتكنولوجيا. فمشاريع “مكننة القضاء” وأرشفة البيانات القضائية، أو إدخال شركات أجنبية إلى البنية التحتية للاتصالات، لا يمكن فصلها عن مخاطر السيطرة على البيانات السيادية، ولا عن تحويل مفاصل الدولة إلى فضاءات مفتوحة أمام النفوذ الأمني والاستخباري. إنّها ليست مشاريع تقنية محايدة، بل حلقات في مسار إعادة توجيه القرار الوطني عبر التحكم بالبنية التحتية للمعلومة والاتصال.

بالتوازي، تُدار ضغوط مركّزة على الطبقة السياسية اللبنانية، عبر العقوبات أو التلويح بها، وعبر سياسة “الضبط السياسي” التي تقوم على الثواب والعقاب: من يلتزم بالسقف الأميركي يُمنح الغطاء والدعم، ومن يخرج عنه يُستهدف سياسيا وماليا وإعلاميا. وفي هذا السياق، يجري الاستثمار في قوى داخلية محدّدة لتؤدّي دور رأس الحربة، وتُقدَّم بوصفها “بديلا إصلاحيا”، فيما هي عمليا أدوات تنفيذ لمشروع خارجي.

أما الإعلام المرتبط بهذه المنظومة، فيؤدّي دورا محوريا في إعادة إنتاج السردية الأميركية، من خلال شيطنة أي خيار سيادي، وتسويق التدخل الخارجي بوصفه “ضرورة إنقاذية”، وتوجيه الرأي العام ليصبح أداة ضغط إضافية على الدولة ومؤسساتها.

ويُعدّ ملف الغاز والطاقة الأخطر على الإطلاق في الحسابات الأميركية. فواشنطن تنظر إلى هذا القطاع بوصفه المفتاح الاستراتيجي للتحكم بمستقبل لبنان الاقتصادي والسياسي، عبر نماذج استثمارية وعقود طويلة الأمد تُقيِّد القرار السيادي، وتربط الدولة بشبكة مصالح دولية تجعل أي خيار مستقل مكلفًا إلى حدّ الاستحالة.

وهنا تبرز السفارة الأميركية في عوكر، لا كسفارة تقليدية، بل كمركز إدارة شامل للملف اللبناني. فهي تجمع تحت سقفها أدوارا سياسية وأمنية واقتصادية وإعلامية، وتدير شبكة واسعة من التواصل مع سياسيين وقضاة وإعلاميين وناشطين، وتؤدّي عمليا وظيفة غرفة عمليات متقدّمة، تتجاوز بأشواط مفهوم العمل الدبلوماسي المتعارف عليه. حجمها، بنيتها، وعدد العاملين فيها، وطبيعة أنشطتها، كلّها مؤشرات على أنّنا أمام قاعدة نفوذ متكاملة، لا بعثة دبلوماسية بالمعنى الكلاسيكي.

ما يجري في لبنان ليس تعاونًا ولا شراكة ولا دعمًا للإصلاح، بل مسار ابتلاع ناعم ومتدرّج، يقوم على الضغط على السياسيين، وتوظيف الإعلام، والنفاذ إلى مؤسسات الدولة، والسيطرة على الموارد الاستراتيجية، بهدف تحويل لبنان من دولة ذات قرار إلى ساحة مُدارة بالكامل من الخارج، تُرسم سياساتها وحدود حركتها في غرف القرار الأميركية، لا في مؤسساتها الدستورية.

ما جرى أمس في بلدة يانوح لا يمكن فصله عن الإطار الأوسع للدور الذي يُراد للجيش اللبناني أن يُحشر فيه، وهو دور «شرطي الحدود» الذي يحفظ أمن إسرائيل تحت عناوين فضفاضة كـ«الاستقرار» و«تنفيذ القرارات الدولية». فهذا النموذج لا يُنتج جيشًا وطنيًا يحمي السيادة، بل يحوّل المؤسسة العسكرية إلى أداة ضبط داخلي ومنع لأي فعل مقاوم، فيما تستمر الاعتداءات الإسرائيلية اليومية من دون ردع أو مساءلة. والأخطر أن هذا التوجّه ليس إسرائيليًا فحسب، بل هو مطلب أميركي بامتياز، جرى تكريسه عبر ربط الدعم والمساعدات العسكرية بوظيفة محددة للجيش، تُقزّم دوره الدفاعي وتعيد تعريفه كحارس لأمن العدو. وما حصل في يانوح يشكّل مثالًا صارخًا على محاولة تعميم هذا النموذج، ليس على الجيش وحده، بل على مجمل مؤسسات الدولة، من القضاء إلى الأجهزة الأمنية والإدارية، لتحويلها تدريجيًا إلى أدوات تنفيذ لسياسات خارجية، تُدار من فوق، وتُفرغ الدولة من مضمونها السيادي والوطني.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى