سياسةمحليات لبنانيةمن هنا نبدأ
من رفيق الحريري الى سعد:دع الرئيس عون يشكل الحكومة!(واصف عواضة)
كتب واصف عواضة:
..طبعا لا الظروف هي الظروف التي كانت قائمة في تشرين الثاني عام 1998،ولا الرجال هم الرجال ،ولا الثقافة السياسية هي الثقافة التي كانت سائدة قبل 33 عاما ،ولا العهد في بدايته بل في نهايته،ولا الأوضاع الإقتصادية والمالية والاجتماعية هي نفسها..ولا بالتالي سعد الحريري هو رفيق الحريري.
ولكن تجربة الرئيس الراحل يمكن الاستفادة منها في تشكيل الحكومات ،خاصة عندما واجه أقسى تجربة في حياته السياسية.
وهنا أستعيد فصلا من فصول كتابي الصادر عام 2015 بعنوان “ليس كمثله يوم”،وهو يدلل على خبرة رفيق الحريري التي اكتسبها بالتجربة ،وعاد بعد ذلك الى السلطة على حصان أبيض.
وهذه هي وقائع هذا الفصل حرفيا كما وردت في الكتاب:
“قبل عشرة أيام من تسلم الرئيس إميل لحود سلطاته الدستورية من الرئيس الهراوي في 24 تشرين الثاني 1998 ،قرر الرئيس رفيق الحريري القيام بجولة تشمل طهران والسعودية وسوريا.وعلى غير العادة قرر اختصار الوفد الصحافي واقتصاره على وسائل الاعلام الرسمية ،فرافقتُه شخصيا مع فريق تصوير من تلفزيون لبنان ،والزميل معروف الداعوق من الوكالة الوطنية للاعلام.
الطائرة الخاصة القديمة للرئيس الحريري شقة سكنية كاملة المواصفات.مدخل ،صالون ،غرفة نوم ،مكتب ، غرفة للمرافقين ،مطبخ،فضلا عن التجهيزات الأخرى خاصة وسائل الاتصال.عادة نحتل كصحافيين المكتب الذي تتوسطه طاولة وعدة مقاعد .لم نغير العادة وكنا ثلاثة فقط: انا ومعروف الداعوق والمخرج التلفزيوني الزميل سليم قازان.
في الطريق الى طهران راحت الاسئلة تتدحرج في رأسي:ماذا يفعل هذا الرجل؟ولماذا يذهب الى طهران في هذا الوقت بالذات؟كيف أصبح حجم رفيق الحريري خلال ست سنوات في السلطة أكبر من كل السياسيين اللبنانيين وحتى أكبر من حجم لبنان مع انه كان يردد دائما ان “ما من أحد أكبر من بلده”؟ هل هو يحاول استعادة وظيفة لبنان السابقة كوسيط بين العرب والعالم؟وهل هذه الوظيفة ما زالت ممكنة؟ يتنقل بلا كلل أوملل ،يوما بين إيران والسعودية ،ويوما آخر بين سوريا والولايات المتحدة ،ويوما بين الولايات المتحدة وفرنسا،وآخر بين واشنطن وموسكو،ثم بين مصر وايران والسعودية.يركب الطائرة ويسافر الى الصين وأرمينيا وفييتنام وأذربيجان وماليزيا والبرازيل والارجنتين ،ثم يحط في باريس حيث صديقه الشخصي الرئيس جاك شيراك الذي يستقبله بحفاوة عند درج “الأليزيه”،وفي كل هذه الرحلات يعود الى بيروت عن طريق دمشق حيث يفرغ جعبته لدى نائب الرئيس عبد الحليم خدام ،حتى خُيّل للكثيرين انه الوزير الفعلي لخارجية سوريا.
قطع الرئيس الحريري عليّ هذه التساؤلات عندما دخل علينا فجأة في مكتب الطائرة محيياً.إحتل الكرسي المقابل لي على الطاولة.قال :شو في أخبار؟
قلت: الأخبار عندك دولة الرئيس .دولتك مخزن الأخبار والمعلومات في هذا الشرق.ولكن الخبر الأبرز اليوم هو افتتاح جادة المطار في بيروت(اطلق عليها اسم جادة حافظ الأسد) وهي بدون شك انجاز كبير لبيروت وللبلد.
ابتسم الحريري منتشياً بهذا الانجاز فأردفت قائلا :إلا ان الحدث الفعلي هو الحكومة الاولى في عهد الرئيس لحود ،وهناك إجماع على رئاستك لها،فهل بدأتم اعداد لائحة باسماء الوزراء الجدد في ظل الحديث عن عدد من الثوابت في الحكومة؟
أنصت الحريري برهة وقال لي من حيث لا أحتسب:إمسك ورقة وقلما..
استغربت وقلت:لماذا الورقة والقلم؟
سوف أقول لك،أجاب، وأردف قائلا: انت واصف عواضة كصحافي ومطلع ومواطن لبناني متابع ،من هم الوزراء الثوابت الذين سيعودون الى الحكومة المقبلة ؟
ورحت أدون على الورق اسماء الوزراء المتوقع عودتهم الى الحكومة وقلت : انهم نصف الوزارة على الأقل(وزارة ثلاثينية)؟
سألني : بصراحة كم مرتكب ومتهم من هؤلاء تتداول الناس اسماءهم؟
قلت : بصراحة هناك ستة أو سبعة؟
بادر على الفور: الرئيس لحود يريد عهدا نظيفا،فهل تعتقد ان عهدا نظيفا يحتمل في حكومته الأولى ستة أو سبعة وزراء من المرتكبين والمتهمين ؟
قلت : طبعا لا..
قال:اذن كيف يجري الحديث عن عهد نظيف وشفاف ؟وكيف سينظر الناس الى هذا العهد مع هكذا حكومة؟
قلت: سوف يسقط خمسون بالمئة من هيبة العهد في بدايته..
قال: أنت قلت هذا وليس أنا..
أضاف:سأعطيك مثلا. خذ طنجرة مياه فيها خمس ليترات صافية من الماء وضع فيها نقطة حبر واحدة ،هل تتلون وتتلوث أم لا؟
قلت :طبعا..
قال:انا أجزم أن وزيرا واحدا عليه شبهات من أصل ثلاثين، كاف لتلويث الحكومة والعهد ،فكيف اذا كان هؤلاء ستة أو سبعة؟
قلت:ولكن يا دولة الرئيس لماذا لا تشكلون حكومة جديدة بالكامل انت والرئيس لحود ومن دون ثوابت طالما الأفكار متفقة في هذا المجال؟
أجاب: هذا غاية المنى بالنسبة لي فهل نستطيع؟
قلت: لا أعرف.. انت تعرف أكثر مني..
قال الحريري: قبل ستة اشهر ذهبت الى سوريا وقابلت الرئيس حافظ الأسد ،وقلت له يا سيادة الرئيس هناك وزيران في الحكومة فاحت رائحتهما بشدة ،وانا أقترح استبدالهما لانقاذ الحكومة .صمت الرئيس الأسد برهة وقال لي :مش حرزانة ..الحكومة كلها ستتغير مع بدء ولاية الرئيس الجديد.
استدرك الحريري:الآن يتداول البعض عودة هذين الوزيرين على انهما من الثوابت.
قلت : لا حول ولا… اذن ما هو الحل دولة الرئيس طالما ان عودة الثوابت لا مفر منها؟
قال: الحل ليس عندي .انه عند الرئيس لحود.الحكومة المقبلة هي حكومة العهد الأولى وليست حكومتي الرابعة،لذلك على الرئيس لحود ان يجد الحل لهذه المعضلة.أنا بصراحة بعد تكليفي لن أقدم تشكيلة حكومية ،بل سأترك للرئيس لحود ان يشكلها كما يريد ،وعندها نتداول بالاسماء.
قلت : ولكن دستوريا، أنت من يجب ان يقدّم التشكيلة الى الرئيس بعد التشاور مع الكتل النيابية.
قال: صحيح ،ولكن أنا لن أقدم تشكيلة حكومية.وفي حال أصر الرئيس لحود سوف أقدم التشكيلة الحالية.
قلت: هذا يعني انك عازم على مشكلة مع الرئيس لحود.نحن نريد لهذا العهد ان ينجح لأن في ذلك مصلحة للبلد ولبناء الدولة؟
قال: وأنا كذلك ايضا.وأقسم على ذلك بأولادي،لكن الرئيس لحود يريد مني حكومة شفافة،وانا أقول له تفضل واعطني حكومة شفافة.لقد حملت البلد على كتفي ست سنوات وتحملت كل المسؤوليات وصارعت كل الناس . الآن هناك رئيس جديد جاء باجماع نيابي وشعبي غير مسبوق، ويملك من عناصر القوة ما يفرض عليه ان يتحمل جزءا من المسؤولية.(انتهى الفصل).
طبعا لم يتم التفاهم بين الرئيسين لحود والحريري بعدها، واعتذر الرئيس الراحل عن تشكيل الحكومة، وأمضى سنتين خارج الحكم ،وجاءت انتخابات عام 2000 ،ليعود على حصان أبيض مكتسحا كل دوائر بيروت من دون منافس.
اليوم يحتاج سعد الحريري الى فترة تأمل في تجربة والده الراحل،في ظل انسداد الأفق أمامه لتشكيل حكومة وفق رؤيته لها ،وليدع للرئيس ميشال عون تشكيل الحكومة التي يريد ،فتكون أمامه (الحريري) عندها خيارات مريحة منها:
-
إما أن يرفض هذه التشكيلة فيعتذر ويرتاح من هموم كثيرة يبدو أنها تؤرقه،ويبدأ بالتحضير للانتخابات النيابية المقبلة من دون أوزار المسؤولية السلطوية.
-
أن يقبل بهذه التشكيلة وتسقط في مجلس النواب عند التصويت على الثقة،فيحمله النواب مرة أخرى الى التكليف.
-
أن تنال الحكومة الثقة ويدير الحريري الحكومة وفق رؤيته وهو يملك دستوريا وقانونيا كل الصلاحيات التي لا تسمح بتمرير أي قرار أو مشروع لا يتواءم مع رؤيته.